الفيلم الإسباني «الخندق الذي لا نهاية له»: التاريخ وقيمة التأطير
الفيلم الإسباني «الخندق الذي لا نهاية له»: التاريخ وقيمة التأطير
رامي أبو شهاب
ناقد أكاديمي فلسطيني
يُنظر إلى التّاريخ بوصفه أحد مصادر صناعة الإبداع، لكن هذا لا ينتج عن رغبة بتكريس قيم توثيقية حسب، وإنما يتقصّد نقد التاريخ كما تعرية كوامنه، على الرّغم من الكآبة والسّوداوية التي تكتنفُه، من منطلق أنّ ثمّة عطباً في الوعي الإنساني لا يمكن أن تتجاوزه الذاكرة الجمعية ما لم يُؤطر في سياقات جديدة.
غالباً ما يُستدعى إلى الذاكرة عند ذكر الحرب الإسبانية الأهلية الشاعر لوركا الذي قتل أثناء تلك الحرب، حيث وُصفت بأنها من أشد الحروب دموية في القرن العشرين، بل شكّلت مقدمة، أو بروفة للحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن نتائج الحرب الكونية لم تتمكن من إزاحة الديكتاتور فرانكو، الذي بقي في الحكم إلى عام 1975، أو إلى حين وفاته، وهنا يُشار إلى أن الصّراع بين القوميين والجمهوريين خلّف تداعيات تتجاوز الخلاف السياسي، كون الحرب قد أحدثت آثاراً طالت المكوّنات العميقة للمجتمع الإسباني، ومن هنا فقد شكَّلت ذاكرة الحرب الإسبانية الأهلية مصدراً من مصادر التأمل، ليس على المستوى المحلي حسب، وإنما على المستوى العالمي، فقد استلهمها الكثير من التجارب الإبداعية، وشغلت وعي المثقفين بوصفها مخزناً من مخازن فهم الطبيعة البشرية كما في الفيلم الإسباني «الخندق الذي لا نهاية له» The Endless Trench من إنتاج عام 2019، الذي يتناول جانباً من جوانب تلك الحرب، ولاسيما معاناة الخوف من الانتقام الذي أورث عطباً طال الذاكرة التاريخية لهذا البلد.
التاريخ والتكوين السردي
ينهض الفيلمُ على سردية رجلٍ وزوجته – (هيجينو وروزا) – تزوجا حديثاً، وهذا تصادف مع انطلاق الحرب الأهلية 1936، إذ اضطر الزوج للبقاء مختبئا في منزله لأكثر من ثلاثين عاماً خوفاً من الانتقام بداعي حرب استمرت ثلاث سنوات. خلال هذه المدة من الاختباء، تتشكل تجربةٌ نوعيةٌ من إسقاطٍ في بيان العلاقة المعقدة مع النظم الشمولية، وكيف يمكن أن تخضع التجربة لتأويلاتٍ متعددة، لكن على المستوى السردي، كان (هيجينو) متهما بالوشاية والقتل، ومن ذلك قتل شقيق جاره، والأخير يسعى للانتقام بكل صورة ممكنة، فيبقى في حالة بحث عن (هيجينو) لأكثر من ثلاثين عاماً، ولعل هذه الجزئية هي التي أضفت على الفيلم طابعاً درامياً جذاباً، يمكن أن يُؤول برؤى ثقافية مغايرة، ولاسيما في المشهد الأخير الذي يحتمل جملة من التناقضات والتأويلات.
تبدأ القصة عند اقتحام الجنود لمنزل الزوجين، غير أن الزوج كان يختبئ في حفرة الأرض خلف جارور أعده لهذا الغرض، لكن الجنود سرعان ما يداهمون البيت فيهرب الرجل، ومن ثم يتمكن من العودة بعد أن يُقتل رفاقه في بئر اختبأوا فيه، وفي مرحلة لاحقة، وبداعي ملاحقة الجار يضطر (هيجينو) للانتقال إلى منزل والده، الذي يقوم بدوره ببناء جدار وهمي خلف خوان خشبي، وخلفه يتشكل خندق ضيق يعيش فيه هذا الرجل لثلاثة عقود، وهكذا نقرأ قيمة التأطير في اللغة السينمائية، التي تعتمد مفهوم الخندق الذي يشكل مركزاً لتكوين الصورة استجابة مقولة العقل السينمائي، التي تتجاوز البناء السردي كونها تسعى لتحقيق الكينونة السينمائية تبعاً لآراء دانييل فرامبتون.
التأطير: العقل السينمائي
تعتمد الرؤية الإخراجية تقنية تقطيع المشاهد، والتي تُصدّر بتعريفات اصطلاحية معجمية حسب كل مشهد، وتسلسه، ومنها الهرب – الاختباء – فقدان الحرية – الخطر- المراقبة ـ الاعتياد… وهي تهدف إلى إبراز تطور الإدراك للحدث حسب الموقف، عبر اختبارات تتجاوز اللغة نحو التجسيد. لقد شكل الخوف من السلطة جزءاً من ثقافة سادت إسبانيا، حيث وُصف هؤلاء الأشخاص المختبئون في الجحور (بحيوانات الخلد) فباتت القصص التي تُروى عنهم جزءاً من ذاكرة الخوف، ولعل قدر الإنسان أن يبقى في نزاع مستمر من أجل تحقيق كرامته وحريته في سياق مفهوم الدولة السلطوية، التي على الرغم من أنها وجدت ضمن مفهوم تعاقدي، غير أنها ما فتئت تعيد قهر شعوبها.
في سياق تطوّر الحبكة ينشب صراع مع الزوجة التي تريد أن تنجب طفلاً، من منطلق أن للوجود مسارا حتميا يتجاوز هذا الطارئ الذي يمتد لثلاثة عقود، هكذا تبدو وجهات نظر الزوجين، وقد تمظهرت مشهدياً عبر لقطات من التوتر والشد والجذب، ولاسيما محورية الزوجة التي تعشق زوجها.. تقف معه في محنته، لا تتخلى عنه حين تُستدعى للتحقيق والتعذيب، يحلق شعرها، لكنها تقاوم حتى تعود إلى زوجها القابع في خندقه يعاني من الجوع، وهناك يسترقان ممارسة الحب، والنزاع، مع شيء من الخيبة، والخوف في حيز مسكون بالضيق والتوتر. تنتقل الزوجة إلى مكان سكن أهلها لتعود بطفل تدّعي أنه ابن شقيقها اليتيم أمام الجيران الفضوليين المتربصين، غير أن مشكلة الطفل تكمن في أن الزوجة تعرضت لاغتصاب من قبل أحد الجنود الأعداء، قبل أن يتدخل الزوج الذي يخرج من مخبئه متأخراً ليقتل المغتصب، ومن ثم يتشارك جثته في الخندق لسنوات طويلة. وهذا يُسهم في تكوين نماذج من الانهيار النفسي كما تتجلى في الكوابيس التي تراوده مراراً وتكراراً فيستيقظ صارخاً مفزوعاً.
تتوتر العلاقة مع الزوجة نتيجة الطفل المشكوك في نسبه، فربما يكون ابن الجندي المُغتصِب، هكذا تبدو قيمة تعقيد العقل السينمائي، حين تصبح الزوجة جسداً مغتصباً، وأماً لطفل مشكوك في نسبه، مع جثة عدو ومغتصب تشارك الرجل خندقه لسنوات طويلة، وهناك الطفل الذي يعتاد الرجل وجوده، يتعامل معه، يلقنه الأكذوبة التي عليه أن ينقلها للعالم الخارجي بوصفه طفلا يتيماً يتستر على وجود والده.. هكذا نلاحظ تجسيدا كنائياً مصغراً لمعنى الحرب الأهلية، وتعقيدها على مستوى البنية السينمائية التي في هذه الإضافات السردية شكّلت العقلية السّينمائية.
تشكّل محورية الزوجة موقعاً متقدماً في خلق قيمة الربط بين عتمة الخندق والحياة الخارجية، فهي حلقة الوصل، تقدم الدعم، لكنها تعاني من الإرهاق نظراً لصعوبة الموقف، وحملات التفتيش التي يقوم بها الجنود في بداية الحرب، في حين أن الرجل يقضي وقته في خندقه، يتابع الأخبار، يقرأ الكتب، لكن ثمة أكاذيب مستمرة يمارسها الكل من أجل المحافظة على سلامة الأب، الذي يشهد التحولات السياسية بدءاً من الحرب العالمية الثانية إلى ما بعدها.
لقد حجب الخندق الذي بات لا منتهياً معنى الحياة، وهنا تكمن قيمة الخوف من العالم الخارجي، كما يتضح في الأجزاء الأخيرة حين تبدأ أجواء الرعب والتهديد بالانحسار مقارنة بعنف مطلع الحرب، غير أن مسلك الرجل يبقى أسيراً لنزعته المتشككة.
معضلة الاعتياد
تمضي الأيام في وضع غير طبيعي، يكبر الطفل، تتغير الظروف، يظهر تلفزيون في الصالة، أصبح بالإمكان مشاهدة الجنرال فرانكو وهو يلقي خطبة أمام شعبه، صوته الناعم، وتعبيراته لا توحي بأنه مجرم، لكن صورة فرانكو ونظامه في وعي الرجل الكامن يجعله غير قادر على تجاوز ماضيه، وخوفه، وهكذا تتشكل إحدى أدوات الخطاب في الفيلم، ولاسيما حين تحاصر الهواجس الرجل لتمسي حالة مرضية، فبعد مضي ثلاثة عقود تتغير الظروف، بل إن المحيطين بالمنزل أو الجيران باتوا يعلمون بأنه مختبئ نظراً للصوت، وغير ذلك من الدلائل، لقد تراجعت مناخات التوتر والانتقام، التي كانت سائدة أثناء الحرب، ولاسيما بعد ثلاثة عقود، إذ بدا الأمر قابلاً للانتهاء، غير أن الرجل يبقى مسكوناً بالخوف، ولاسيما نتيجة محاولة الجار اقتحام منزله والبحث عنه، بل مراقبته للمنزل، والقيام بالتبليغ عنه، لكن السلطات لا تعبأ بالأمر.
لقد حجب الخندق الذي بات لا منتهياً معنى الحياة، وهنا تكمن قيمة الخوف من العالم الخارجي، كما يتضح في الأجزاء الأخيرة حين تبدأ أجواء الرعب والتهديد بالانحسار مقارنة بعنف مطلع الحرب، غير أن مسلك الرجل يبقى أسيراً لنزعته المتشككة، وهذا يتضح عبر تعامله مع زوجته وابنه الذي أصبح شاباً، فهما يدعوانه إلى قهر النموذج العميق أو المرضي الذي شكله الاحتجاز، فيطالب الفتى والده بالحقيقة، حيث يرغب بأن يعرف حقيقة والده الذي حرمه من تطوره الطبيعي، وكيف صاغ هذا الحدث وجود العائلة المجزأة الفاقدة للتعريف الشرعي، بل الحرمان من ممارسة الحياة، ولعل هذا يُكنى عنه بحلم سكن الزوجين في بداية زواجهما، ونعني مشاهدة البحر الذي تأجل بدافع الحرب، حيث تبقى الرغبة حلماً يراود كلا الزوجين، وحين تقرر الزوجة في أواخر أيام الاحتجاز أن تذهب في رحلة لمشاهدة البحر تطلب من زوجها التوقف عن الاختباء والخروج معها، فلا أحد يعبأ بوجوده، لكن (هيجينو) يرفض، فتخرج وحدها، غير أن زوجها سرعان ما يسمع خبر إصدار عفو عام عن المتهمين بداعي التقادم، فيقرر ضمن مشهدية شديدة التأثير الخروج، لكنه قبل ذلك… يتأمل وجهه ملياً في المرآة، فالمشهد يحتمل رمزية تأمل الذات التي دمرتها الحرب الأهلية.
إنها قراءة للتاريخ، والبلد، لكن عبر انعكاسها على الوجه، لقد تمكّن المخرج من تقديم وجه الرجل في مراحل عمرية مختلفة؛ بدءاً من مرحلة الشباب إلى أن أصبح عجوزاً، فجاء المكياج جزءاً من أدوات تمكين العقل السينمائي، فعلى الوجه تبدو آثار العتمة والظلام والحجز، ذلك الوجه الذي يشبه وجه إسبانيا… يرتدي (هيجينو) ملابس نظيفة، يقف على باب المنزل، يتردد مطولاُ في الخروج، ومن ثم يقرر أن يسير في الشارع، يلاحظ بأن لا أحد معنيّ بوجوده، أو يكترث لما اختبره، لقد تغير العالم، بل إن بعض الأشخاص يلقون عليه تحية الصباح، يصادف زوجته عائدة، حيث لم تتمكن من الذهاب إلى البحر، والتخلي عنه، تعود إلى زوجها تمسك بذارعه، يسيران معاً في اتجاه بيتهما الأول، وهناك ينفصل الرجل عن الزوجة، ويسير إلى بيت جاره ليقف أمام نافذة جاره وعدوه اللدود، ومن داخل المنزل تقف الكاميرا ترصد الرجل، وكأنها تتقمص موقع الجار ورؤية عدوه يقف خارج منزله، يشاهده، لكنه يتحرك بعيداً للداخل، في إشارة إلى أن الأمر لم يعد يحتمل هذا الجنون. يبدو مشهد اللقاء بين الجارين إحالة رمزية لإسبانيا الكبرى، أو الموحدة، على الرغم من وجود ذاكرة وجروح، لكن قيمة الزمن تبقى أكثر سطوة، لكن الأهم تكوين وعي بغية تجاوز هذا الماضي والبدء من جديد، لكن آثار التجربة تبقى جزءاً من الذات، وخاصة حين يدرك الرجل المحتجز معنى الحقيقة، فيعترف بأنه تمنى لو عاش حياة طبيعية.. هكذا تتشكل قيمة الكثير من الأشياء التي نعيشها، فكل تشوّه يقضم جزءاً من وجودنا في عالم لا يكف عن أن يمارس قهره على الإنسان.
كاتب أردني فلسطيني