عقدان على غزو العراق: تسويق التضليل وسوق الضلالة

عقدان على غزو العراق: تسويق التضليل وسوق الضلالة

صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
متفق، عموماً، حول آثار الغزو الأمريكي/ البريطاني للعراق، آذار (مارس) 2003، على أصعدة الأثمان البشرية الفادحة (مئات آلاف القتلى، وملايين المصابين) والكوارث الاجتماعية والبيئية والعمرانية والحضارية والأركيولوجية؛ فضلاً عن العواقب السياسية الوخيمة التي أخذت تتراكم بعد أسابيع قليلة من اختتام الغزو، وتجلت وتتجلى اليوم أيضاً في نتائج عكسية أو مناقضة لتلك الأهداف التي تذرعت بها واشنطن ولندن في تبرير عمليات القصف والاجتياح والاحتلال. إلى جانب هذه وسواها، ثمة جوانب أخرى ذات أبعاد انفرادية إذا جاز القول، تستوجب استعادة خاصة في الذكرى الـ20 للغزو؛ لعلّ أبرزها، في يقين هذه السطور على الأقلّ، أنّ كيفية إدارة الغزو عسكرياً وسياسياً وتحالفياً ليست أعلى أهمية، ومغزى واحتشاداً بالدروس والعِبَر، من كيفية تسويق الغزو قبل وخلال وبعد تنفيذه.
وفي يوم ابتداء العمليات العسكرية، كان 66٪ من الأمريكيين على يقين، قاطع جازم، بأنّ صدام حسين يقف خلف الهجمات الإرهابية على البرجَين في قلب مانهاتن، نيويورك، يوم 11/9/2001؛ وكان 79٪ منهم يحمل الرأي القاطع الحازم ذاته بأنّ النظام العراقي كان قريباً من تصنيع قنبلة نووية. وفي شباط (فبراير) من عام الغزو ألقى وزير الخارجية الأمريكي خطاباً أمام مجلس الأمن الدولي، كان أصلاً نتاج رضوخه لضغوطات ديك شيني، نائب الرئيس الأمريكي يومذاك، بأن تتولى المخابرات المركزية الأمريكية كتابة النصّ؛ الذي سيدخل التاريخ بوصفه واحداً من أشدّ نصوص أمريكا الرسمية تلفيقاً ومخادعة وغشاً. يومها أعلن بأول أنّ «كلّ بيان أدلي به اليوم، مدعوم بمصادر، مصادر قوية. هذه ليست بيانات. ما نقدمها اليكم هي حقائق واستنتاجات تستند إلى أدلة استخباراتية». ثمّ أمسك بيده، ولوّح أمام العالم، بـ«دليل» انخراط نظام صدّام حسين في إنتاج أسلحة دمار شامل، نووية وبيولوجية وكيميائية.
نعرف اليوم، أو بالأحرى لم ينقضِ وقت طويل حتى تكشفت تباعاً، تلك الطرائق في تسويق التضليل، وبالتالي طبائع السوق الذي يستهلك تلك الضلالة؛ ليس في قلب حشود الرأي العام الأمريكي، أو نظائره في دول مثل بريطانيا وأستراليا وبولندا انخرطت في العمليات العسكرية، فحسب؛ بل كذلك على صعيد عمليات منهجية اشتغلت على خلائط من غسل الأدمغة واستغفال العقول وإشاعة الترهيب الذي يداني الهستيريا الجَمْعية. وللمرء أن يبدأ من الأكثر قدرة على تصنيع رأي عام ذي درجة عالية من الإجماع، باستخدام طرائق معلنة أو خافية، صريحة أو مضمرة، عمادها الأكاذيب في المقام الأوّل، ثمّ التهويل والترهيب والتخويف ثانياً؛ وصولاً إلى استثارة الغرائز الخام حول التضامن مع أبناء أمريكا، الذين يقاتلون الأشرار خارج المحيط.
هذا نموذج شارلوت بييرز، سيدة الأعمال التي حازت لقب «ملكة ماديسون أفينيو» نسبة إلى باعها الطويل في الجادة النيويوركية الشهيرة باختصاصات الإعلان والدعاية؛ والتي لمعت في حملتَين شهيرتين تماماً: تسويق «أرزّ أنكل بن» وشامبو «هيد آند شولدر» وأصدرت كتاباً ذائع الصيت عنوانه «أفضّل أن أكون القائد» شرحت في فصوله كيف جمعت بين «البزنس» والسلطة والمتعة. وبييرز هي التي وقع عليها اختيار وزير الخارجية باول، فعيّنها مساعدة لشؤون الدبلوماسية والشؤون العامة» وكلّفها بإدارة أولى المعارك مع الرأي العام الأمريكي، قبيل نشر أولى الكتائب العسكرية المكلفة بغزو العراق. وقد بدأت، بالفعل، من قاعدة ذهبية تقول إنّ ربط صدّام حسين بهجمات 9/11 هو المدخل الأفضل لاجتذاب تأييد الجمهور الأمريكي للحرب الوشيكة، وأمّا المدخل التالي فهو الزجّ ما أمكن بالإسلام والمسلمين في معادلة الترهيب.
الحكمة، بعد عقدين على غزو العراق، لعلها ماثلة اليوم أيضاً أمام الأعين، في أنّ تسويق التضليل قائم على قدم وساق، وسوق الضلالة مشرعة حبلى بالبضائع
وفي كتاب مشترك صدر بعنوان «أسلحة التضليل الشامل: استخدام البروباغندا في حرب بوش ضدّ العراق» تناول رامبتون شيلدون وجون ستوبر دور «الملكة» هذه في اختلاق الأكاذيب وتسويقها وتوظيفها لصالح تصنيع رأي عام مضلَّل عن سابق إرادة واستعداد ورضوخ. وفي هذا الصدد أوردا تصريحاً لوزير الدفاع الأمريكي خلال الحرب، دونالد رمسفيلد، أطلقه خارج التسجيل عند سؤاله إذا كان قد مارس الكذب المتعمد لاكتساب تأييد الحرب، فاقتبس عبارة من ونستون شرشل: «يحدث في بعض الأحيان أن تكون الحقيقة ثمينة للغاية، بحيث يتطلب الأمر أن تقترن بمرافق شخصي من الأكاذيب». وفي الأصل كان وزير الخارجية بأول واضحاً في تسويغ اختيار بييرز لإدارة دبلوماسية التسويق هذه، إذْ قال: «ليس الأمر أننا نريد بيع الولايات المتحدة فقط، بل نرغب أيضاً في تثبيت علامة تجارية رائجة لسياستنا الخارجية».
النموذج الثاني في هذه الصناعة/ التجارة كان تيار «المحافظين الجدد» منذ تأسيس وانطلاق مجموعة «مشروع من أجل مستقبل جمهوري» الذي زعم بلورة رؤية شاملة حول القضايا الداخلية والخارجية في آن معاً؛ ثمّ النصّ الأشهر المسمّى «مشروع من أجل قرن أمريكي جديد» الذي صدر سنة 1997 ويعتقد كثير من المراقبين أنه كان المسوّدة الفعلية لغزو العراق. لم يكن مدهشاً، مع ذلك، أنّ تيّار المحافظين الجدد واصل إغلاق دكاكينه تباعاً، بعد طول تطبيل وتزمير لغزو العراق؛ حتى أنّ واحدة من أوجع الضربات جاءت من فرنسيس فوكوياما، المحافظ الجديد المخضرم وصاحب نظرية نهاية التاريخ، الذي أصدر كتاباً بعنوان «ما بعد المحافظين الجدد: أمريكا عند مفترق الطرق» طالب فيه بطيّ صفحة مشروع القرن الأمريكي الجديد، ونعى الفلسفة بأكملها.
نموذج ثالث، قد لا يمارس تأثيراً جماعياً مماثلاً للنموذجين سالفَيْ الذكر، وإنْ كان لا يقلّ سطوة وتوظيفاً للخداع؛ مثّله بيان صدر عن حفنة من أبرز قيادات الديمقراطيات الأوروبية (سبعة بالتمام والكمال: الإسباني خوزيه ماريا أثنار، البرتغالي خوزيه مانويل باروسو، الإيطالي سيلفيو برلسكوني، البريطاني توني بلير، التشيكي فاكلاف هافل، الهنغاري بيتر ميجيساي، البولوني لاشيك ميللر، والدانمركي آنديرس راسموسن)؛ والذي حثّ على الحرب ضدّ العراق. وكان ذلك النصّ، الطافح بانحطاط المسؤولية وبذاءة التبرير، يتجرّد علانية من الضمير (القياسي البسيط المتفق عليه كونياً، والذي يحدث انه ضمير أوروبا القارّة العتيقة العجوز، وضمير فلسفات العقل والحداثة وحقوق الإنسان…)؛ ويكشف قلّة احترام الذات، واحتقار الشعوب، وغضّ البصر عن عذابات البشرية.
الفرسان السبعة، زعماء الديمقراطيات الأوروبية، لم يترددوا في رفع الفزّاعات ذاتها التي رفعها البيت الأبيض آنذاك، بل أضافوا إليها جرعة من المزاودة في الإعراب عن الافتتان بالولايات المتحدة (والغمز بالتالي من الدول الأوروبية الأخرى التي لم توقّع هذا النصّ، وفي طليعتها فرنسا وألمانيا)؛ وجرعة ثانية من المزاودة على دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي: «نحن في أوروبا نرتبط مع الولايات المتحدة بعلاقات صمدت أمام اختبار الزمن. فبفضل شجاعة وسخاء وبُعد نظر أمريكا، بصفة أساسية، نجحنا في التحرّر من شكلين من أشكال الطغيان دمّرا القارّة في القرن العشرين: النازية والشيوعية. وبفضل التعاون المستمرّ بين أوروبا وأمريكا تمكنّا، أيضاً، من ضمان السلام والحرية في القارّة. والعلاقات هذه ينبغي ألا تكون ضحية محاولات النظام العراقي المستمرة لتهديد الأمن الدولي».
ثمة نماذج أخر بالطبع، متعددة المصادر ومتنوعة الطرائق ومتباينة الجمهور، اشتغلت مجتمعة أو منفردة على غسيل دماغ الأمريكي المشارك في يقين معدلات الـ 66٪ والـ 79٪ حول تأثيم صدّام حسين ونظامه، ونجحت في كثير وليس في قليل فقط. وأمّا الحكمة، بعد عقدين على غزو العراق، فلعلها ماثلة اليوم أيضاً أمام الأعين، في أنّ تسويق التضليل قائم على قدم وساق، وسوق الضلالة مشرعة حبلى بالبضائع.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس