عام مضى
بقلم د. منال حسن مختار -السودان –
أصبح حال الشعب السوداني لا يخفى على أحد من شتات ونزوح ومعاناة بالرغم أننا كنا بالأمس القريب أسياد في ديارنا، نستقبل ونودع و نملأ ديارنا حباً وسلامًا وودًا ورحمة.
نعم نحن أهل السودان الذين على مر العصور والأزمان نأتي بما لم يأتِ به غيرنا من تسامح وقناعة ورضا، نحب بعضنا بعضاً ونتقالد مسلمون وأصحاب كتاب، تجمعنا عقيدة أننا سودانيون.
نحن شعب كنا ولا زلنا لا نعرف العداء والخصام، الاحتراب والانقسام، فكيف وصلنا لهذا الحال وكيف هان علينا السودان؟
من أين أتيت يابرهان؟ ولماذا كل هذا الحقد والقسوة على أهل السودان، ألم تنجبك أم سودانية؟ ألم ترضعك من ثديها نبع الحنان؟ ألم تلعب مع اخوتك في الحي شليل وين راح؟ ألم تتعاهد معهم بشبك الأصابع الخائن الله يخونوا؟ ألم تترعرع في تراب الوطن وتحمي الحمى؟ بالله عليك ما هي أسبابك التي وافقت بها على فض اعتصام الثوار وهم في حماك؟
أهيّ أسباب متراكمة أم انهيار للقيم؟
بماذا وعدك الأشرار؟ بالفوز العظيم أم بشجرة الخلد الأبدي؟
هل اتبعت بعض الطرق فقويت وتهت، أم أتبعت غيرها فضعفت وسقطت؟
ولأن من مشهور القول يا برهان إنه إن عُرف السبب بطُل العجب وتيسرت الحلول، فما الأسباب التي يمكنك سردها التي أودت بك إلى هذا السقوط في سجل تاريخنا العتيق؟
هل هو الافتتان بالدنيا والسلطة والغرق بها؟ ألم تقرأ ما رواه البخاري في صحيحه أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ إلى البَحْرَيْنِ يَأْتي بجِزْيَتِهَا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ قَد صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ، وأَمَّرَ عليهمُ العَلَاءَ بنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مع النبيِّ ﷺ، فَلَمَّا صَلَّى بهِمُ الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا له، فَتَبَسَّمَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ رَآهُمْ، وقالَ: أَظُنُّكُمْ قدْ سَمِعْتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قدْ جَاءَ بشيءٍ؟، قالوا: أَجَلْ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ) [صحيح البخاري] لقد صدق النبي الكريم ﷺ، فالافتتان بالدنيا والسلطة يا ابن أم هو أساس للفساد، والتنافس الظالم، وسبب لظهور المظالم بسبب التنافس السيئ والافتتان المكروه. ولك أن تعلم أن حب السلطة ومفاتنها إنما تمهيد لطريق الهلاك.
جميعنا يسمع لقولك في الحديث عن حماية الأرض والعرض وتارة عن الأمانة والشرف فأيهما كان دافعك في انقلاب “25” أكتوبر وأنت قد قطعت العهد بالشراكة لأجل صون البلاد والعباد وحقيقة أفعالك التي تنافي حديثك، وقد جاء في الذكر الحكيم من القرآن الكريم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78- 79] فرأيت أن تفسر بهذه الحرب العبثية،
أم أنك اتبعت أثر الرسول فسولت لك نفسك فعل السامري؟
إن أعظم ما يملأ حياة الإنسان بالمعاني هو خُلقه وقيمه ومبادئه وإيمانه، ويقينه، فبأي خلق وقيم ومبدأ وإيمان ويقين فعلت بنا ما فعلت؟
إن سعي الإنسان في هذه الدنيا هو امتحان مؤداه رضا الله عليه أو عقابه، وأرى أنك في غفلة عن هذا فجهلت وابتعدت رغم أن الله قد ألهم نفوسنا فجورها وتقواها!
إن القائد الذي يجهل تاريخ وطنه لن ينجح في مسعاه، ومن يحارب وطنه لن تبقى له هوية تحميه، وأنت اليوم بهذه الحرب العبثية قد حاربت وطنك و قتلت السودان قبل أن تقتل ابناءه وأضعت هويتك.
كم مِن أبناء أمتنا أمة السودان يا برهان العظيمة اليوم يعلم تاريخه وحياة عظمائنا؟! وكم منهم مَن يعلّم أبناءه تفاصيل التاريخ الذي بناه بعانخي وتهراقا وأماني ريناس وثوار ثورة ديسمبر المتميزون وحتى قطار عطبرا الفتية.
إن تجاوزك لكل هذا الإرث العظيم هو تشويه وتجني أفقدك هويتك وحتى شرف رتبتك العسكرية، فأعلم أنه بتماديك في المكر أنك تخطو نحو ذوبانك واضمحلالك.
إن كثيرًا من أبناء الشعب السوداني يعيشون في طرق الشتات ويحاولون بكل الطرق والأشكال الحفاظ على هويتهم تحت شعار ( أنا سوداني أنا ) وجميعهم يرددون ( أيهاالناس نحن من نفر يذكر المجد كلما ذكروا ) ومثل هؤلاء لا يخشى عليهم من أن يذلهم أو يزيد في إذلالهم كائن من كان لأنهم لا يتبعوا القطيع الذي يتبع هواه بِغَيْرِ عِلْم وَلَا هُدًى وَلَا كِتَاب مُنِير.
إن أول طريق الانهيار هو انهيار الفرد وأبرز ما يشكل هذا الانهيار هو الانبهار بالقوة والسلطة التي تعلي الذات مقابل تجريدها ونكرانها لما لتعلية الذات من تحقير واستهانة بغيرها .
إن القائد الحكيم هو الذي يحرص على قيادته ويحفاظ على هويته فضياع الهوية يتصل بالفقدان، وحين تضيع الهوية لا يبقى للشخص حضور ذاتي يعينه على النجاح والنهضة ومثل هذا القائد ينتظر من الآخرين أن يعملوا ليأخذ منهم حضوره، وهذا ما تبغيه يا برهان من كتائب البراء (البراؤون) الذين يتبرأون منك الآن.
إن هذه الحرب العبثية ستظل ماثلة في سجلات التأريخ وأمام أعين الشعب السوداني، ولا ينكرها إلا مكابر أو مخاتلٌ يلبّس على الناس ويدلّس عليهم بسبب عقيدة الانتماء أو مصلحة ما كما يفعل الأعيسر.
إن الفُرقة والشتات التي تعاني منها أمة الأمجاد والماضي العريق من أكبر الفتن، التي عرفها الشعب السوداني لأنها ليست سوى معاول هدم تتقوى ولا تفتر عن الحفر في جسدها لخرابها وتمزيقها، وقد رأينا حرصكم على استمرارها لأنكم تدركون تمامًا أنها من أقوى الطرق لتركيعنا ولكن هيهات فنحن أهل السودان لدينا من عزة النفس ما يحيل بيننا وبين الركوع إلا لله الواحد المتعال.
إن بتوليك الحكم يا برهان قد أضعت الأمانة، قال رسول الله ﷺ: (إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ قالَ: كيفَ إضاعَتُها يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ) [صحيح البخاري].
ولعل أبسط الأمثلة التي توضح هذا الحديث ما نراه أمام أعيننا من مكر منك منذ توليك رئيس مجلس السيادة وكم هي كثيرة صوره ولكن نحن نؤمن بأن الله هو وحده خير الماكرين.
ما يجب أن تعرفه يا برهان أن الشعب قادر على تحمل المسؤولية وحفظ أمانة الوطن، ويعلم أنها من أعظم الأمانات، وأنه لن يصيبه الوهن الذي أصاب الخونة المأجورين، وأن حبه للوطن تجارة لن تبور.
إن شعب السودان لا يطمع في الذهب والزرع والضرع لأن حب تراب الوطن لديه أسمى مما تطمع فيه أنت وصحبك .
أسأل ﷲ أن يمن عليك بالهداية إلى سبيل الحق، ويعزك بصحوة الضمير فخير الخطائين التوابين، وآخر دعوانا بعد الحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أن يحفظ الله السودان وأهله.