
الصهيونية
الموسوعة الفلسطينية
إعداد وتلخيص : علي رهيف الربيعي
كلمة ” صهيونية” Zionism مصطلح فضفاض للغاية يصعب تعريفة بشكل مباشر، لا لأنه مركب أو لأنه فريد، وإنما لأنه يشير إلى نزعات وحركات ومنظمات سياسية غير متجانسة، بل متناقضة احيانا في أهدافها ومصالحها ورؤيتها للتاريخ، وفي أصولها الإثنية والدينية والطبقية . كما أن المصطلح يستخدم عادة مع صفة تحد من مجال معناه أو توسعه كأن نقول ” الصهيونية العمالية” و ” الصهيونية المسيحية”. بل هناك أيضا صهيونية صهيون ” وهي صهيونية معارضي مشروع شرق إفريقيا (1).
ومصطلح” الصهيونية ” ذاته لم ينحت إلا في القرن التاسع عشر، ولكنه مع هذا يستخدم للإشارة إلى بعض النزاعات في التاريخ الغربي، بل وداخل النسق الديني اليهودي الذي يسبق هذا التاريخ. وسنحاول فيما يلي ان نرصد بعض استخدامات المصطلح ونوردها – على قدر المستطاع – في تسلسلها التاريخي.
1- الصهيونية بالمعنى الديني : تشير كلمة ” صهيون” في التراث الديني اليهودي إلى جبل صهيون والقدس، بل وإلى الأرض المقدسة ككل، ويشير اليهود إلى أنفسهم باعتبارهم بنت صهيون “. كما تستخدم للإشارة إلى اليهود كجماعة دينية. والعودة إلى صهيون فكرة محورية في النسق الديني اليهودي، إذ ان اتباع هذه العقيدة يؤمنون بأن المشياح المخلص ( المسيح المخلص اليهودي) سيأتي في آخر الأيام ليقود شعبه إلى صهيون ( الأرض – العاصمة) ويحكم العالم فيسود العدل والرخاء. ولكلمة ” صهيون” إيحاءات شعرية دينية في الوجدان الديني اليهودي. فقد أتى في المزمور رقم ١٣٧ / ١ على لسان اليهود بعد تهجيرهم إلى بابل : ” جلسنا على ضفاف أنهار بابل وذرفنا الدمع حينما تذكرنا صهيون”. وقد وردت إشارات شتى في الكتاب المقدس إلى هذا الارتباط بصهيون الذي يطلق عليه عادة ” حب صهيون”، وهو حب يعبر عن نفسه من خلال الصلاة والتجارب والطقوس الدينية المختلفة.
والعيش في فلسطين كان يعد عملا من أعمال التقوى لا عملا من أعمال الدنيا، وجزاؤه يكون في الآخرة. ولذا فهو لا تربطه رابطة كبيرة بالاستيطان الصهيوني، ولا سيما ان اليهودية الحاخامية ( الارثوذكسية) تحرم العودة الجماعية الفعلية إلى فلسطين وتعتبرها تجديفا وهرطقة.
٢- يطلق اصطلاح ” الصهيونية” أيضا على نظرة محددة لليهود ظهرت في أوربا ( وبخاصة في الأوساط البروتستانية في إنكلترا أبتداء من أواخر القرن السادس عشر) وترى ان اليهود ليسوا جزء عضويا من التشكل الحضري الغربي لهم ما لبقية المواطنين وعليهم ما عليهم، وإنما تنظر إليهم باعتبارهم الشعب المختار والجماعة المقدسة التي وطنها المقدس في فلسطين ويجب أن تهجر إليه . وقد استمر هذا التيار المنادي بتوطين اليهود في فلسطين حتى بعد أن خمد الحماس الديني الذي صاحب حركة الإصلاح الديني، ويطلق على هذه النزعة اسم ” الصهيونية” المسيحية ” وهي تمارس بعثا جديدا الآن في الولايات المتحدة.
٣- وهنا يجب أن نثير قضية خاصة بالمجال الدلالي . فإن قبلنا بأن الصهيوني ” هو من يدعو إلى تهجير اليهود إلى فلسطين وتوطينهم فيها بغض النظر عن دوافعه، سلبية كانت أو إيجابية ، وبغض النظر عن انتمائه الديني أو العقائدي”، فهل يمكن أن نطلق المصطلح على المشاريع النازية المختلفة للتخلص من اليهود؟ وهل يمكن الحديث عن النازيين كصهاينة؟ وعلى كل حال فإن هذا ما فعله ادولف ايخمان أثناء محاكمته. فقد أشار إلى نفسه باعتباره صهيونيا (1)، وهذه إشكالية طرحها إخمان ولا أعتقد أن المدعي العام الإسرائيلي استطاع ان يجد لها حلا مقنعا.
٤- وقد نحت المصطلح ذاته المفكر اليهودي النمساوي ناثان برنباوم Nathan Birnbaum ( ١٨٦٤ – ١٩٣٧) في نيسان ١٨٩٠ في مجلة الانعتاق الذاتي وشرح معناه في خطاب بتاريخ ٦ تشرين الثاني ١٨٩١ قال فيه ان الصهيونية هي إقامة منظمة تضم الحزب القومي / السياسي بالإضافة إلى الحزب ذي التوجه العملي ( احباء صهيون) الموجود حاليا (٢). وفي مجال آخر ( في المؤتمر الصهيوني الأول ” ١٨٩٧” صرح برنباوم بأن الصهيونية ترى ان ” القومية والعرق والشعب” شيء واحد (٣)، اي انه أعاد تعريف دلالة مصطلح ” الشعب اليهودي” الذي كان يشير فيما مضى إلى جماعة دينية / إثنية فأصبح يشير إلى جماعة عرقية ( بالمعنى السائد في ذلك الوقت)، وتم استبعاد الجانب الديني منه تماما. واصبحت الصهيونية هي الدعوة القومية اليهودية التي جعلت من السمات العرقية اليهودية ( ثم السمات الإثنية في مرحلة لاحقة) قيمة نهائية مطلقة بدلا من الدين اليهودي ، وخلصت اليهودية من المعتقدات الماشيحانية والعناصر العجائبية الأخروية (٤)، وهي الحركة التي تحاول أن تصل إلى أهدافها من خلال العمل السياسي المنظم لا من خلال الصدقات.
ولكن بعد المؤتمر الصهيوني الأول تحدد المصطلح وأصبح يشير إلى الدعوة التي تبشر بها المنظمة الصهيونية وإلى الجهود التي تبذلها، وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج بازل ( في مقابل المرحلة السابقة على ذلك – اي مرحلة احباء صهيون بجهودم الصغيرة المتفرقة).
يتبع..
الحواشي :
١- الموسوعة الفلسطينية القسم الثاني، الطبعة الأولى بيروت ١٩٩٠، ص ٢٣٢.
٢- نفس المصدر.
٣- صبري جريس، تاريخ الصهيونية ( ١٨٦٢ – ١٩٤٨)، الجزء الأول، ص ٧٥.
٤- جريس، تاريخ الصهيونية، ص١٥٤.
٤- وفي العالم العربي تعني كلمة ” صهيونية” الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فلسطين الذي تم بدعم من الغرب. وليس للكلمة إيحاءات دينية لدى العرب المسلمين المسيحيين ، وإن كانت بعض الجماعات الدينية تقبل بالتعريف الديني للصهيونية وترى ان الصراع العربي – الإسرائيلي صراع ديني أزلي بين اليهود والمسلمين.
ولتجاوز كل ذلك سنحاول ان نعرف الصهيونية لا من خلال الاعتذارات أو الديباجات ( المؤيدة أو المناهضة) وإنما من خلال ” الفعل ذاته الذي نادى به الصهاينة وتم فيما بعد برعاية بريطانيا ، والذي ترك أثر عميقاً في حياة اليهود الذين استوطنوا فلسطين، وفي حياة الفلسطينيين العرب. وسنعرف الصهيونية بأنها الحركة التي قامت في العالم الغربي ، ودعت إلى نقل كل أو بعض أعضاء الأقليات اليهودية من اوطانهم وتوطينهم خارج أوروبا “. وكان هناك ما يشبه الإجماع على” أن يتم نقل اليهود إلى فلسطين “. وتطلب عملية النقل الديمغرافي هذه عملية أخرى هي ” التخلص من سكان فلسطين ” بنقلهم من وطنهم إلى مكان آخر ، أو بتذويبهم في العنصر الديمغرافي الجديد او حتى إقناعهم بالاختفاء وبالتحوال إلى” دياسبورا” أي اقليات مشتتة.
وقد يكون من المفيد التوقف عند مشكلة المصطلح ككل. فنحن نرى ان التحدي الحقيقي الذي يجابه الدارس العربي للظاهرة الصهيونية لا يكمن فقط في محاولته التخلي عن تحيزاته المسبقة ، وهي لا شك كثيرة وعميقة، نظرا لما نعتبره ” الظلم” الذي حاق بنا وبإخواننا، وإنما يكمن أيضا بالدرجة الأولى في مواجهة مشاكل منهجية فريدة خاصة بالظاهرة الصهيونية. ولعل اهم هذه المشاكل هي مشكلة المصطلح المستخدم في نعت الصهيونية ، وفي المقولات الكامنة وراءه . فاصطلاح مثل ” التاريخ اليهودي” يفترض ان ثمة تجربة تاريخية يهودية واحدة، لها معالم واضحة ، ويمكن تقسيمها إلى فترات مختلفة تماما مثلما نفعل بتاريخ إنكلترا أو فرنسا. وانطلاقا من هذا يتم النظر إلى ما يحدث لأعضاء الأقليات اليهودية ” من الداخل”، اي من منظور ” يهودي” محض ، باعتبار ان هذا” التاريخ اليهودي” له آلياته الخاصة وقوانينه وحدوده.
وغني عن البيان ان ” التاريخ اليهودي” مقولة فكرية محضه، إذ كيف يمكن أن نتحدث عن ” تاريخ واحد” حيث لا يوجد اقتصاد مشترك ، أو نظام سياسي واحد، أو ثقافة يهودية واحدة، أو لغة مشتركة، أو نسق رمزي مشترك؟ ولذا نجد أن هذا التاريخ الواحد هو في واقع الأمر ” أسطورة” أو ” جوهر اسطوري ” يفرض وجوده قسرا على الأحداث والجزئيات، ويفترص استمرارية حيث لا استمرارية، وأنماطا متكررة حيث لا أنماط ولا تكرار، وهي أنماط وهمية تفصلهم عما حولهم من قوى حضارية واجتماعية، فتفقدهم ثراءهم وتنوعهم الحضاري، وفي نهاية الأمر إنسانيتهم المتعينة فيصبحون شيا يشبه السر المغلق الذي لا يمكن فهمه إلا في إطار مقولات ” التاريخ اليهودي” المجردة.
فالصهيونية كانت ولا تزال حركة غربية ، ولذا فإننا حين نستخدم كلمة ” صهيونية” بدون تخصص فإنما نشير إلى تلك الحركة التي نشأت في الغرب واتخذت من فلسطين مكانا لممارستها الاستيطانية ولم تفقد قط هويتها الغربية بانتقالها من الغرب إلى الشرق. فالصهيونية لم تنشأ في العالم ككل ، أو حتى داخل كل التشكيلات الدينية الإثنية اليهودية المتناثرة في العالم، وإنما هي إفراز تشكيل حضارة محددة وبقعة جغرافية محددة في لحظة زمنية محددة ، ولا يمكن دراستها خارج هذا التشكيل . وانطلاقا من هذه الرؤية سنحاول قدر استطاعتنا ان نحدد زمان كل المصطلحات التي نستخدمها ومكانها فنشير إلى يهود شرق أوربا في القرن التاسع عشر، وإلى يهود الخزر في القرن التاسع عشر الميلادي، وإلى يهود إنكلترا في القرن السابع عشر، وهكذا، حتى لا نجعل دراستنا موضوعا عاما لا قسمات له ولا ملامح ويصعب تحديده أو التعامل معه بطريقة عمليه، يسمى ” اليهود”. (١)
يتبع..
(١) الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، ص٢٣٣، ص٢٣٣، د. عبد الوهاب المسيري.