دراسات

صحافة العراق: النشأة والتطور أ. د. محمد مظفر الادهمي

أ. د. محمد مظفر الادهمي

محاضرة المؤرخ والاعلامي العراقي الاستاذ الدكتور محمد مظفر الادهمي “صحافة العراق: النشأة والتطور” في المركز القطري للصحافة في الدوحة يوم الثلاثاء الموافق 2024/5/28
—————————
صحافة العراق: النشأة والتطور
أ. د. محمد مظفر الادهمي
يمكننا ان نقسم مراحل ظهور ونمو وتطور الصحافة العراقية الى خمس مراحل ، هي مرحلة النشوء عندما كان العراق جزءا من الدولة العثمانية ، والمرحلة الثانية هي صحافة مرحلة الاحتلال البريطاني وثورة العشرين، والمرحلة الثالثة هي صحافة مرحلة الحكم الوطني ابان العهد الملكي والمرحلة الرابعة هي العهد الجمهوري والمرحلة الخامسة والاخيرة هي صحافة العراق بعد الاحتلال الامريكي له عام 2003.
صحافة العهد العثماني
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وعندما اصبح المصلح مدحت باشا واليا على العراق عام 1869، اجرى اصلاحات دارية مهمة في العراق فجعله ثلاث ولايات بدلا من ولاية واحدة لتسهيل اداراته ، وكان من جملة اصلاحاته استيراد ماكنة طباعة من باريس لاصدار جريدة رسمية سميت (الزوراء)وشيد بناية خاصة بها وصدرالعدد الاول منها في 15 حزيران 1869 ببغداد، وبالغتين العربية والتركية وبثمانية صفحات صغيرة،وكانت تصدر اسبوعيا كل يوم ثلاثاء. ونشرت في عددها الاول اخبارا محلية وعالمية، وافتتاحية عكست سياسة الوالي مدحت باشا .وقد استمرت الجريدة بالصدور الى يوم 11 آذار 1917عندما احتلت القوات البريطانية بغداد.
وفي عام 1885 اصدرت السلطات التركية جريدة (موصل) في مدينة الموصل ،والتي كانت ايضا باللغتين العربية والتركية ، وقد اغلقت في 21 تشرين الاول عندما احتل الانكليز الموصل 1918. وفي 1895 اصدر الاتراك جريدة اخرى في مدينة البصرة هي (بصرة) ، وقد اختفت الجريدة عندما احتل البريطانيون البصرة في 22 تشرين الثاني 1914 .
ومع صدور هذه الصحف في الولايات العراقية الثلاث ،الا انه لم تصدر صحف غير رسمية فيها الا في السنوات الاخيرة من عمر الدولة العثمانية ، عندما وقع انقلاب عام 1908 الذي قام به ضباط جمعية الاتحاد والترقي لتقييد سلطة السلطان العثماني عبدالحميد الثاني واعادة العمل بالدستور الذي كان قد اوقف العمل به لمدة 32 بعد صدوره عام 1876.
فقد سمح للعراقيين باصدار الصحف بمجرد الحصول على الرخصة وببساطة . وقد حصلت الموافقة على اصدار 53 جريدة خلال الفترة من عام 1908 الى 1911 . صدرت منها 37 جريدة بشكل غير منتظم ،ولم تظهر منها تسعة صحف على الاطلاق رغم حصولها على الرخصة.
وفي عام 1911 اصدرت جمعية الاتحاد والترقي قانونا الغت فيه الموافقة التي منحت لصحف لم تصدر ،كما اغلقت 31 جريدة كانت تصدر بشكل غير منتظم.
اما الصحف التي سمح لها بالاستمرار في الصدور فهي:
1- زوراء ، 1869.
2- موصل ، صدرت في الموصل عام 1885.
3- بصرة ،صدرت في البصرة في 1895.
4- صدى بابل وهي من الصحف المهنية التي تميزت بنشر الاخبار الدقيقة وكانت مقروءة من قبل العراقيين ، صدرت في بغداد بتاريخ 13 آب 1909 من قبل جوزيف غنيمة ،
5- الزهور ،صدرت في بغداد بتاريخ 4 تشرين الثاني 1909 من قبل رشيد الصفار
6- الرياض ، صدرت في بغداد بتاريخ 7 كانون الثاني 1910 من قبل سليمان -4
الدخيل .
7- المصباح ،صدرت في بغداد بتاريخ 7مايس 1911 من قبل الازري .
8- النوادر ، صدرت في بغداد بتاريخ 6 آب 1911 من قبل محمود الوهيب
وفي عام 1912 ،صدرت ثلاثة صحف مؤيدة للاتراك العثمانيين ، هي (الدستور) ،اصدرها عبدالله افندي الزهير في 22كانون الثاني ،والثانية هي (المعارف) اصدرها كريم افندي في 1 أب ، والثالثة هي (مكتب) اصدرها يونس وهبي في 1 نيسان ببغداد.
وفي 25 نيسان 1913 اصدر ابراهيم شكر صحيفة (شمس المعارف ) في بغداد، الا انها اغلقت بعد ثلاثة اشهر.ثم اصدر الاتراك صحفا موالية لهم تحت اسماء عراقيين يساندون الحكومة التركية في اسطنبول ، فصدرت جريدة (صدى الدستور)من قبل عبدالوهاب الطباطبائي يوم25مايس 1913 في البصرة، وكانت جريدة سياسية هدفها خدمة السياسة التركية في العراق بشكل خفي .واصدر صلاح الدين افندي جريدة الاتحاد في بغداد يوم 3 كانون الاول 1913 ،وهي تحمل على صفحتها الاولى شعار “الاتحاد بين العرب والترك”.
ومع ان جماعة الاتحاد والترقي ، كانوا يعلنون ان جميع الولايات في الدولة العثمانية تتمتع بالحرية والمساوات ، الاانهم في الحقيقة كانوا يتبعون سياسة التتريك في الولايات العربية ، ووفقا لهذه السياسة فقد وضعت قيود قاسية على الصحافة واللغة العربية والادب العربي وجميع المؤسسات والعادات التي يعتز بها العراقيين ،وفرضت اللغة التركية في الدوائر الرسمية والمدارس .
ونتيجة لذلك فقد تصاعد الامتعاض من جماعة الاتحاد والترقي ،وتشكلت مجاميع سرية في البصرة وبغداد تعمل على ابعاد الاتراك وتاسيس حكم ذاتي .وعندما طالبت جريدة بين النهرين وجريدة المصباح باصلاحات جديدة واللامركزية ،فقد تم اغلاقها ،واعتقل العديد من القيادات العربية من بينهم يوسف الصميدعي وكامل افندي صاحب جريدة بين النهرين ومحمود افندي مدير تحرير الجريدة .
وقد اشتركت جريدة النهضة لصاحبها مزاحم بك الباجه جي في الوقوف بوجه الاتحاديين الاتراك، كما قام الشاعر معروف الرصافي ،وهو صديق الباجه جي ،بنشر قصائد ضد الاتحاديين الاتراك .وعندما لاحظت الحكومة التركية في اسطنبول هذا التوجه القومي في الصحافة ، اصدرت امرا بغلق الجريدة واعتقال رئيس تحريرها ، فماتت الجريدة.
لقد نشط الاتراك بوجه هذه المشاعر العربية التي برزت ، فقام المعلمين والملالي العرب الذين تم تعيينهم ليكونوا مخلصين للحكومة ، بنشر مقالات تحريضية ضدهذه المشاعر في الصحف .
ولهذا رحبت الصحف العراقية بتاسيس حزب الحرية والائتلاف في اسطنبول المعارض لسياسية التتريك العنصري التي تتبعها جمعية الاتحاد والترقي . كما استقبلت بغداد بفرح أخبار صدور الموافقة الرسمية بالسماح لحزب المعارضة الجديد بفتح فروع له في أنحاء الدولة العثمانية. وتحت عنوان ( انحطاط الاتحاديين في بغداد) أعلنت صحيفة صدى بابل أن معظم الناس قد تركوا جمعية الاتحاد والترقي ، وتوقعت أن يحل حزب الحرية والائتلاف محل الاتحاديين .
أما في البصرة فقد استجابت مائة شخصية لنداء نائبهم طالب النقيب واستقالوا من عضوية جمعية الاتحاديين وشكلوا فرعاً في البصرة لحزب الحرية والائتلاف . وقد حضر حفل افتتاح الفرع حشد كبير من الناس وكان ناجحاً .
إن الصحافة المتوفرة عن هذه الفترة لم تشر إلى مشاركة الموصل في الحركة العربية في العراق الرافضة للتريك ولم يظهر في الموصل سوى الحد الأدنى من تلك الحماسة لأنها كانت مسيطر عليها من قبل عوائل كان ولاءها للنظام القديم ورجال دين تقليديين إضافة إلى أنها محاطة بالأكراد.
أما في المدن المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية فإن رجال الدين نشروا في عام1908م فتوى قالوا فيها أنه لا يوجد شيء في الدستور يتقاطع مع الدين الإسلامي ، بل أنه ينسجم مع تعاليم الدين وأحاديث الرسول من أجل تحقيق العدالة.
إن نتيجة هذه المتغيرات قد أظهرت في أواخر عام 1911 ومطلع عام 1912 أن أجزاء من العراق كانت تشهد نشاطاً ملحوظاً للحركة العربية السياسية المعارضة لسياسة جمعية الاتحاد والترقي . وقد لعبت هذه الحركة دوراً مهماً في الانتخابات التي أعقبت حل البرلمان من قبل الإتحاديين في 18 كانون الثاني 1912 والذي كان هدفهم منه سحق المعارضة والسيطرة على مجلس النواب.
وعندما بدأت الانتخابات الجديدة في أواخر كانون الثاني 1912 ، وهي أول انتخابات في الدولة العثمانية تشهد تنافس حزبين على مقاعد مجلس النواب ، استغل الاتحاديون سلطتهم فأصدروا تعليمات سرية إلى سلطات الولايات للتدخل في الانتخابات لصالح مرشحيهم. وبالمقابل قادت الصحف العراقية حملة صحفية دعت فيها إلى انتخاب المرشحين العرب فقط . وشددت صحيفة صدى بابل على أن يكون المرشحين عن المناطق العربية من الذين يتكلمون العربية وليس التركية فقط. وكان هذا يعني أن مرشحي المناطق العربية لمجلس النواب يجب أن يكون من العرب . ومن الملاحظ أن جريدة الرياض قد امتلأت صفحاتها شعارات تدعوا إلى انتخاب المرشحين العرب.
إن الحملة الانتخابية في العراق قد اتخذت أشكالاً مختلفة ، فقد نشر بعض المرشحين دعاياتهم الانتخابية في الصحف ،بينما وزعها البعض الآخر بشكل منشورات ففي البصرة على سبيل المثال ، أعلن حزب الاتحاد الحر أسماء مرشحيه ، طالب النقيب وعبدالله الزهير في جريدة الدستور . وفي بغداد وزع صالح كورجي منشوراً يدوياً أعلن فيه أنه سيخوض الانتخابات ضد نائب بغداد السابق ساسون حسقيل. أما الطريقة الأخرى للدعاية الانتخابية ، فقد كانت تتم بشكل تجمعات داخل الأسواق يتنافس فيها المرشحون لإظهار قابلياتهم ، مع أن جريدة صدى بابل قد انتقدت هذه الطريقة واعتبرتها مباريات عامية لتشويه السمعة .
لقد كانت انتخابات 1913 – 1914 آخر انتخابات أجريت في الدولة العثمانية قبل قيام الحرب العالمية الأولى ، أما عن نظام الاتحاديين فقد تحولت قيادته إلى أقلية عسكرية من الضباط الأتراك من صغار السن بالرغم من استمرار العمل بالدستور ، ذلك النظام الذي انتهى بسقوط الدولة العثمانية عام 1918.
نخلص الى القول ان عمر الصحف كان عادة قصيرا تحت حكم الاتراك ،وبشكل خاص اذا كانت معارضة للحكومة . ومع ذلك فان الصحف التي كان يتم اغلاقها كانت تظهر باسماء جديدة.اما الصحف الموالية للحكومة والتي تعمل كادوات للاتحاديين الاتراك فقد كانت تمول من بيانات الحكومة والتبرعات . وكان توزيع الصحف منخفضا بسبب الانتشار الواسع للامية في المجتمع ، ونتيجة لاستخدام اللغة التركية التي لايعرفها معظم القراء العراقيين، بل ان الصحف التي كانت تصدر باللغة العربية لم تكن تجتذب القراء بسبب محدودية تغطيتها للاخبار . لقد كان القراء،وخصوصا النخبة من السكان ، يفضلون قراءة الصحف العالمية القادمة من اسطنبول لان فيها تغطيات واسعة. (ملعون من يعير هذه الجريدة)
كانت الصحافة خلال السيطرة العثمانية فقيرة جدا في التصميم والتوزيع ووسائل الطباعة ، بسبب قلة الموارد الاقتصادية وضعف قدرات الصحفيين ، ونشر الصحف باللغتين العربية والتركية في آن واحد. وكان هناك استياء متصاعد ضد استخدام اللغة التركية في الصحف ،والذي اعتبر دليلا واضحا على سياسة التتريك . ولذلك عبر الوطنيون عن امتعاضهم من الاملاءات التركية واستخدموا صحف احزابهم كوسيلة للمطالبة بالحرية .
صحافة الاحتلال البريطاني
انضمت الدولة العثمانية الى المانيا ضد بريطانيا وحلفائها في بداية الحرب العالمية الاولى ، وبدأ البريطانيون باحتلال البصرة عام 1914 ، وبعد ثلاث سنوات سيطروا على بغداد.وكان من جملة الاجراءات التي اتخذوها مقدما في العراق هو اغلاق جميع الصحف الموجودة.
وخلال اسبوع من الاحتلال البريطاني للبصرة في 22 تشرين الثاني 1914 ،استولى الاداريون البريطانيون على المطابع الثلاث الموجودة في المدينة وبدأوا بتوزيع (نشرة) اخبارلتغطية عملياتهم العسكرية ،وكانت تطبع يوميا باللغتين العربية والانكليزية .
وبعد شهرين اصدرت السلطات البريطانية مجلة اسبوعية توضيحية بعنوان (العراق خلال الحرب) تنشرفيها المقالات وصورملاك الاراضي المؤيدين للبريطانيين .
وفي عام 1915 عين البريطانيون احد ملاك الاراضي في البصرة ،سليمان الزهير مسؤولا عن جريدة (الاوقات البصرية) والتي صدرت بثمان صفحات وباللغات الانكليزية والعربية والتركية والفارسية .وفي السنة التالية ابدل اسم الجريدة الى (اوقات بلاد الرافدين ) وباللغة الانكليزية فقط . (Times of Mesopotamia)
وفي 11 آذار 1917احتلت القوات البريطانية بغداد ،مثلما حدث في البصرة، وسيطرت القوات العسكرية على المطابع . وبعد احتلال العراق باكمله اصدر البريطانيون في المدن الرئيسة صحفا تعكس سياستهم، مثل الموصل والبصرة وكركوك والسليمانية.
لقد اصدر البريطانيون في بغداد جريدة (العرب) في 4 تموز 1917 ،وقد ضم كادر الجريدة الاب انستاس الكرملي ،المتعاطف مع البريطانيين ،رئيسا للتحرير ،ورزوق غنام محررا ،وكرترود بل مديرا عاما .وقد استمرت الجريدة بالصدور حتى نهاية آذار 1920 .ثم ظهرت من جديد في 19 حزيران 1920 باسم (العراق) لصاحبها ومديرها رزوق داوود غنام ، وهو المحرر السابق لجريدة العرب ، وقد استمرت العراق بالصدور الى عام 1932 .
في عام 1918 قام البريطانيون بنقل مطبعة جريدة اوقات بلاد الرافدين الى بغداد ،حيث صدرت باسم (الاوقات البغدادية). وقد اصبحت الجريدة الناطق باسم الادارة البريطانية .وكانت قد اصدرت ايضا جريدة رسمية باسم (جريدة الحكومة العراقية) التي اصبح اسمها فيما بعد (الوقائع العراقية)
فيما كانت صحف أخرى على الجانب الاخر تلقى تجاوبا من الناس كصحيفة( الاستقلال) لصاحبها عبد الغفور البدري. وصحيفة(دجلة) لداوود السعدي. و(البديع) لداوود العجيل التي كانت جميعها معارضة للسياسة البريطانية في العراق.
صحافة ثورة العشرين
حين اعلن الانتداب البريطاني في 25 نيسان 1920 رفضه العراقيون فكان العامل المباشر لقيام ثورة العشرين التي اندلع كفاحها المسلح في 30 حزيران حينما نشبت الثورةُ كانت الصُّحفُ العراقيةُ بشكل عام تنقسم ما بين صحف أصدرها الاحتلالُ البريطانيُّ وأخرى ذات طابع وطني، لكنَّ الصُّحفَ بشكل عام لم تُحرِّض علنًا على الثورة على الرغم من أن الصُّحفَ الوطنيةَ في بغداد والموصل والبصرة دأبت على نقد الاحتلال والمطالبة بحكم وطني عربي
ولذلك ترافَق مع نشوبُ الثورة ظهور صحف خاصة بـها لم تُعمِّر طويلًا ، لكنها استمرت بالصدور خلال فترة الستة اشهر من عمر الثورة . وكانت أبرزَ صحيفتين رافقتا ثورةَ العشرين وصدرتا للتعبير عنها، هما: الفراتُ التي صدرت في النجف في السابع من آب 1920 بأربع صفحات من القطع النصفي، وأشرف عليها الشيخُ محمد باقر الشبيبي وهو أحد مؤسسي جمعية (حرس الاستقلال) السرية، وكان يفترض أن تكون الصَّحيفةُ أُسبوعيةً، لكنَّ مواعيدَ إصدارها لم تكن منتظمةً، وقد صدرت من الصَّحيفة خمسةُ أعداد فقط، وكان عددُها الأخيرُ في الخامس عشر من أيلول 1920م.
أما الصَّحيفةُ الثانيةُ فكانت (الاستقلال) وصدرت بشكل منتظم بواقع أربع مرات أُسبوعيًا، وقد صدر عددُها الأولُ في بغدادَ في مطلع تشرين أول 1920، واستمرَّ صدورُها نحوَ أُسبوعين فقط، حيث صدرت منها ثمانيةُ أعداد، كان آخرُها يوم 14 من الشهر ذاته.
وقد صدرت الاستقلالُ بصفحتين من القطع الكبير، وأشرف عليها كلٌّ من محمد عبد الحسين الكاظمي وعبد الرزاق الحسني الذي ذكرته الجريدةُ باسم عبد الرزاق البغدادي.
واهتمَّت الصَّحيفتانِ بنقل وقائع المعارك وتفاصيل القتال في الجبهات المختلفة، وكانت هذه الوقائعُ تتضمَّن بواكيرَ التغطيات الحربية في الصِّحافة العراقية، أو ما تتضمَّنه مهمةُ المراسل الحربي، مع فارق يتعلَّق طبعًا بالتفاصيل المهنية التي استقرَّت لاحقًا، أو بالسرعة حيث كانت الصَّحيفتانِ تنشرانِ وقائعَ سابقة.
وتُشير وقائعُ المعارك التي وردت في الصَّحيفتين إلى تحرُّكات العشائر والأشخاص من الثوَّار، وكذلك الأشخاصُ الذي قاتلوا مع الإنكليز من بين زعماء العشائر، كما تولَّت الصَّحيفتانِ أيضًا الردَّ على الدِّعاية البريطانية التي كانت بطبيعة الحال أقوى وأكثر انتشارًا، لا سيما الصُّحف التي كانت قد صدرت بالأصل قبل الثورة بمدة طويلة واستقرَّ وضعُها في السوق.
عاشت الصَّحيفتانِ عمرًا قصيرًا، لكنه كان مؤثِّرًا ولافتًا، وقد كان من بين أبرز أسباب توقُّفهما:
ندرة الإمكانات المالية.
وشحَّة الورق في تلك الفترة بسبب الحرب.
3 كونـهما صدرتا مع نـهايات الثورة واقتراب الحسم العسكري، حيث صدرت الفراتُ بعد أكثر من شهر على نُشوب الثورة، في حين صدرت الاستقلالُ بعد ثلاثة أشهر.
وصدر من الجريدتين معًا 13 عددًا فقط، لكنَّ التجربةَ التي كانت عَفويةً ومستعجلةً وبلا مواردَ أو إمكانيات فنية أو مادية أو مهنية، خلقت للمؤرِّخين تصوُّرًا عن طبيعة السِّجال السياسي الذي رافق الثورةَ أو الأطراف التي شاركت فيها وتلك التي وقفت ضدَّها، ووفَّرت للباحثين مادةً علميةً –وإن كانت ليست كبيرةً- للبحث والتنقيب عن بعض التفاصيل الغائبة من ثورة العشرين
صحافة العهد الملكي
بتناولنا لصحافة العهد الملكي الذي استمر 37 عاما من تنصيب الامير فيصل بن الحسين ملكا على العراق في 23 أب 1921 الى سقوط هذا النظام بقيام ثورة 14 تموز 1958 ، لابد لنا ان نقسمه الى مراحل لكي تتضح لنا الصورة والمرحلة منه هي مرحلة حكم الملك فيصل الاول خلال فترة الانتداب البريطاني 1921 -1932 ، ثم تعقبه فترة حكم الملك غازي 1933 -1939 ، ثم ولاية الوصي عبدالاله على عرش الملك فيصل الثاني 1939 الى 14 تموز 1958 والتي اصبح فيها الوصي وليا للعهد بعد عام 1941 . وخلال هذه المراحل وبدون الدخول في التفاصيل فان الصحافة بشكل عام كانت تتمتع بحرية نسبية ، وكثيرا ما تغلق لفترة محدودة لجرأتها في انتقاد الحكومة .ففي عهد الملك فيصل الاول وبعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921 اشتدت المطالبة بتأسيس الاحزاب واصدار الصحف التي أصبحت لسان حال تلك الاحزاب، حيث أتسمت بالجرأة، وقامت بتكوين رأي عام وطني في العراق من خلال المقالات النقدية للحكومة. وخاصة صحيفة الحزب الوطني وصحيفة حزب النهضة.كما نشطت صحف الاستقلال ودجلة والمفيد والعالم العربي ولسان العرب ، وكانت هذه الصحف تعكس اراء القوى الوطنية المناهضة للانتداب البريطاني والمعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922 وتطالب باستقلال العراق التام ، كما كانت هناك صحف محسوبة على الحكومة وتدعى بالمعتدلة مثل العاصمة العراق، اضافة الى جريدة الاوقات البغدادية التي تمثل دائرة المندوب السامي البريطاني .
ويمكن القول ان هذه المرحلة قد شهدت صدور صحف اعمارها قصيرة ، واخرى ناطقة باسم احزاب النخبة التي تتشكل خلال الانتخابات والدورات النيابية ، فتنشأ معها وتتسمى باسمائها وتزول بزوالها مثل (نداء الشعب) الناطقة باسم حزب الشعب و(النهضة العراقية) الممثلة لحزب النهضة و(التقدم) الممثلة لحزب التقدم و (الاخاء الوطني) الممثلة لحزب الاخاء الوطني . اما الصحف التي تعرضت للايقاف والتعطيل المؤقت والمضايقات فهي الصحف المعارضة للانتداب مثل (الاستقلال والرافدان والمفيد ودجلة والزمان والبلاد) ،وهناك صحف يمكن اعتبارها معتدلة سياسيا وقد تميل الى الحكومة القائمة مثل (العراق) و(العالم العربي) . ويمكن القول ان الصحف العراقية تمتعت بحرية نسبية وليست مطلقة بسبب الرقابة البريطانية والحكومية عليها ، وقد مكنت هذه الحرية الصحف من تناول الاراء السياسية المختلفة ومناقشتها ،والخوض في قضايا العراق المصيرية قبل ان يحصل على استقلاله ويصبح عضوا في عصبة الامم في 3 تشرين الاول 1932.
استمرت الحرية النسبية للصحافة بعد انتهاء الانتداب البريطاني، خصوصا عندما الغت وزارة رشيد عالي الكيلاني قانون المطبوعات المجحف الذي كانت وزارة نوري السعيد قد اصدرته ، فصدر قانونا جديدا برقم 57 لسنة 1933 ضمن حرية اوسع للصحافة، لكن الوزارة المدفعية ضاقت به ذرعا فعدلته مما اثار انتقادات الصحفيين ،واتخذته المعارضة سببا لمهاجمة الوزارة واسقطتها .ومع ذلك فقد استمر التضييق على الصحف من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة التي عطلت عددا من الصحف السياسية ،لكن وزارة ياسين الهاشمي الثانية قررت في 8 نيسان 1935 الافراج عنها كافة الى ان وقع اول انقلاب عسكري في العراق عرف بانقلاب بكر صدقي عام 1936 الذي فرض نفسه على الصحافة بشكل فاضح ولاول مرة في تاريخ الصحافة العراقية وجعلها اداة للتبشير بمبادئه. ولم يكتف بهذا بل نظم زيارات خاصة للصحفيين العرب وعلى نفقة الحكومة ،فعادوا محملين بالدنانير واقلامهم مهيأة لتمجيد وزارة حكمت سليمان التي جاء بها الانقلاب .ولم تدم هذه المرحلة سوى اقل من 10 اشهر ، فبعد القضاء على الانقلابيين باغتيال بكر صدقي عادت الصحافة الى مسيرتها الطبيعية رغم صدور مرسوم منع الدعاية المضرة رقم 44 لسنة 1937
فخلال انقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936 أصدر الشاعر محمد مهدي الجواهري صحيفة بأسم( الانقلاب) أخذت تدافع عنه وتكيل المديح لبكر صدقي ورئيس الوزراء حكمت سليمان . الا أن بكر صدقي انقلب على حلفائه من جماعة الاهالي والشيوعيين ، فأعتقل الجواهري واغلق جريدته ولم يخرج الجواهري من السجن الا بعد اغتيال بكر صدقي فاصدر صحيفة أخرى بأسم( الرأي العام). وكانت صحيفة البلاد لصاحبها روفائيل بطي هي الاخرى البوق القوي لبكر صدقي، بعد أن كانت تمجد بحكومة ياسين الهاشمي التي اسقطها انقلاب بكرصدقي . بل أن بكر صدقي أرسل بطي الى القاهرة والشام، لحشد مجموعة من الصحفيين العرب من مصريين ومن بلاد الشام ودعوتهم الى بغداد للاشادة بنظام بكر صدقي، كما كانت صحيفة( صوت الاهالي ) التي يرأس تحريرها الشيوعي عبد القادر اسماعيل البستاني تمجد هي الاخرى بانقلاب بكر صدقي، الا أنه في آخر الامر حينما تنكر صدقي للشيوعيين ، وشن حملة اعتقالات ضدهم، أضطر عبد القادر اسماعيل الى الهرب الى سوريا ومعه شقيقه الذي توجه الى باريس فسحب الفريق صدقي منهما الجنسية العراقية واغلق الصحيفة
كما كانت هناك في مرحلة ما بعد الانتداب صحف اخرى غير سياسية مثل صحيفة العقاب التي كان يصدرها يونس بحري عام 1933 ومجلة الوادي لصاحبها خالد الدرة ومجلة حبزبوز الفكاهية المعروفة لصاحبها نوري ثابت.وكذلك صحيفة ( الدفاع) لصاحبها سركيس صوراني.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 ضغطت بريطانيا على الحكومات العراقية للوقوف الى جانبها ضد دول المحور فقطعت علاقاتها مع المانيا دون اعلان الحرب ،بينما كان الراي العام العراقي يميل الى دول المحور بسبب موقف بريطانيا من قضية فلسطين ،ولانه يكره البريطانيين لما عاناه منهم العراقيون من قبل .فانعكس هذا الامر على الصحف العراقية مما اضطر وزير الداحلية عمر نظمي الى استدعاء الصحفيين والتقى بهم يوم 6 شباط 1941 وطلب منهم تاييد الحكومة لان الظروف التي يمر بها العالم عصيبة ،وعليهم الالتزام بالمراسم التي صدرت مع نشوب الحرب ومنها احكام السيطرة على الصحافة ،وهددهم ان من حق الحكومة وقف كل صحيفة عند حدها اذا خرجت عن الخطة المرسومة ، وعليهم عدم نشر اخبار يفهم منها (التحزب للفريق المخاصم لحليفتنا بريطانيا)، وان لا تكون الصحف اداة للطعن في الشخصيات من رجال الدولة . وكانت الحكومة قد اصدرت في 30 ايار مرسوم الامن وسلامة الدولة رقم 56 لسنة 1940، الذي نص على القبض على كل من (يشوش) على الراي العام واحتجازه ،والذي اعتبره الصحفيون غير مشروع لتقاطعه مع القانون الاساسي للدولة .
تغيرت الامور راسا على عقب عندما قامت حركة نيسان – مايس 1941 المناوءة للبريطانيين ،فمع تشكيل حكومة الدفاع الوطني في الاول من نيسان انطلقت الصحافة العراقية تعبر عن ارائها بكل حرية ،لكن هذه الحالة لم تستمر سوى شهرين فقط ،هما شهراستلام قيادة الحركة للسلطة في نيسان وشهر الحرب العراقية –البريطانية في مايس 1941 . بعدها غزت بريطانيا العراق واسقطت الحكومة بعد مقاومة للجيش العراقي انتهت باحتلال القوات البريطانية لبغداد في الثاني من حزيران 1941، فكان الاحتلال العسكري البريطاني الثاني للعراق والذي استمر الى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، وخلاله كبلت الصحافة العراقية واعتقل وشرد الصحفيون الذين وقفوا مع الحركة واغلقت صحفهم ،وتم تنفيذ مرسوم الامن وسلامة الدولة بكل قسوة والذي نص في احدى فقراته على منع الصحف من نشر اي شيء يثير الفتن والاخلال بالامن ، والذي استخدمه البريطانيون المحتلون في قمع الصحافة القومية والوطنية .
لقد غابت الاحزاب الوطنية عن الوجود خلال الخمس سنوات من الاحتلال البريطاني الثاني، وتوقفت صحفها عن الصدور اضافة الى الصحف الاخرى مثل البلاد والاستقلال وغيرها ،وشجع البريطانيون بعض الطارئين على الصحافة لاصدار صحف تروج لهم وتطعن بقادة حركة نيسان – مايس 1941، واصبح مصير الصحف مرتبطا بمديرية الدعاية العامة التابعة لوزارة الداخلية.
وحين وضعت الحرب اوزارها وانسحبت القوات البريطانية من العراق ، نصحت بريطانيا الوصي على العرش الامير عبدالاله ان يلغي تجميد الحياة الحزبية ،فاجيزت خمسة احزاب وطنية في 2 مايس 1946 هي حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الشعب وحزب الاتحاد الوطني ،واصدرت هذه الاحزاب صحفا ناطقة باسمها مثل صحيفة الاهالي الناطقة باسم الحزب الوطني الديمقراطي وصحيفة الاستقلال الناطقة باسم حزب الاستقلال وصحيفة الرأي العام الناطقة باسم اليسار وصحيفة الاحرار اليسارية وصحيفة الحرية الناطقة باسم القوميين ،وصحيفة الجبهة الشعبية الناطقة باسم حزب الجبهة الشعبية ، وبدا وكأن القيود التي وضعت على الصحافة في السابق قد اصبحت في خبر كان ، لكن الاحداث التي شهدتها البلاد من انتفاضات شعبية في الاعوام 1948 ،1952 ،1956، وما لعبته الصحافة من دور وطني خلالها قد كان له تأثيره على الحكومات المتعاقبة ،فعادت الى اصدار المراسم التي تقيد حرية الصحافة ، ففي شباط 1950 اصدرت وزارة الداخلية لائحة قانون جديد للمطبوعات والمطابع رفضته صحف بغداد والموصل والبصرة ونشرت مقالات مطولة في شجبه ، ، وعندما عرضت اللائحة على مجلس النواب رفضتها المعارضة ، واضربت الصحف عن الصدور لمدة ثلاثة ايام في بغداد والموصل والبصرة،ففشلت الحكومة في تمريرها .وعندما قامت انتفاضة 1952 اعلنت الاحكام العرفية واغلقت الاحزاب السياسية وعطلت الصحف الحزبية ومنها صوت الاهالي ولواء الاستقلال واليقضة وصوت الشعب وغيرها ،ولم يسمح لها بالصدور الا بعد رفع الاحكام العرفية عن البلاد .
الا ان اكبر نكسة تعرضت لها الصحافة العراقية في العهد الملكي هي اصداروزارة نوري السعيد في عام 1954 قانونا اغلقت بموجبه جميع الصحف التي عارضت حلف بغداد الموالي للغرب وغيرها من الصحف والمجلات وسمح بصدور سبع صحف فقط هي الشعب والحرية والزمان والاخبار الصباحية ، وصحيفتين مسائية هي الحوادث واليقضة
.كما تم سجن او تغريم الصحفيين المعارضين ، وفتشت الشرطة ونهبت مكاتب صحفهم . وقد بذل قادة الاحزاب جهودهم بقوة لالغاء وسائل الحكومة القمعية ضد الصحافة الوطنية ، لكنهم لم يحققوا نجاحا في ذلك .مما ادى الى ظهور الصحافة السرية للاحزاب
.مثل صحف الحزب الشيوعي : كفاح الشعب والشرارة والقاعدة واتحاد الشعب ومجلة الثقافة الجديدة . أما حزب البعث العربي الاشتراكي فقد اصدر عام 1953 صحيفة ناطقة باسمه وهي( العربي الجديد) وبعد ثلاثة اعداد تحولت الى صحيفة( الاشتراكي) وساهمت في نشر افكار الحزب واهدافه.كما اصدرت الاحزاب الكردية صحفا سرية مثل (شورش ) اي الثورة اضافة الى جريدة (خه بات) اي النضال.
الصحافة في العهد الجمهوري
بعد قيام ثورة 14 تموز1958 التي اسقطت النظام الملكي واقامت النظام الجمهوري ، اغلقت جميع الصحف ، باستثناء اعادة منح الاجازة لاربعة منها . وقد ابدلت هذه الصحف الاربعة سياساتها وخرجت في اليوم الاول من الثورة باعمدة كبيرة تؤيدها وتهاجم العهد الملكي. اما الصحف التي تم اغلاقها من قبل وزارة السعيد في عام 1954 فقد سمح لها بالصدور من جديد . كما ظهرت العديد من الصحف ذات الاتجاهات السياسية المختلفة الناطقة باسم الشيوعيين والبعثيين والناصريين والوطنيين التقدميين والاخوان المسلمين. لقد كانت هذه الفترة عبارة عن شهر عسل للصحافة ، فلم تعد هناك اي قيود عليها ،وصدرت خلال اسبوع 45 صحيفة ومجلة واطلق سراح الصحفيين المعتقلين وقادة الاحزاب . وفي عام 1959 تأسس اتحاد الصحفين العراقيين وحضر رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم مؤتمرهم التاسيسي ومنحهم 30 الف دينار دعما للاتحاد ، وخصص راتب تقاعدي للصحفيين الذين تجاوزت خدمتهم 15 عام ، ومنح لهم قطع اراضي لتشييد الدور في منطقة عرفت باسم حي الصحفيين .
كانت أول صحيفة صدرت عقب قيام ثورة 14 تموز 1958 هي صحيفة (الجمهورية) صباح 17 تموز وباربع صفحات فقط. وتضمنت بيانات الثورة والتشكيلة الوزارية ومجلس السيادة. كما صدرت في بداية عام 1959 صحيفة ( اتحاد الشعب) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي. وكذلك صدرت صحيفة( الثورة) لصاحبها يونس الطائي صديق الزعيم عبد الكريم قاسم. وكانت تعبر عن سياسة الزعيم والجمهورية العراقية. اضافة الى وجود صحف (الزمان) لصاحبها ومؤسسها توفيق السمعاني و(الحرية) لصاحبها قاسم حمودي و(الاخبار) لصاحبها الاخوين جوزيف وجبران ملكون و(الشعب) لصاحبها يحيى قاسم و(البلاد) لصاحبها فائق بطي نجل مؤسسها روفائيل بطي و(الاحرار) لصاحباها عوني بكر صدقي وغيرها من الصحف والمجلات الاخرى.
الا ان شهر عسل الصحافة لم يدم طويلا. فقد ظهر الصراع على السلطة بين قادة الثورة وداخل القوى السياسية الحزبية ، مما كان له تاثيره على الصحافة التي اتهمها قاسم بانها لعبت دورا في هذا الصراع الذي شهدته البلاد بين الشيوعيين والقوميين والبعثيين ، ووضع قيودا عليها ، وفي اواخر عام 1960 قدم 83 صحفيا من اليسار واليمين طلبا برفع تلك القيود لكنه لم يستجب لهم
لقد مرت الصحافة خلال المدة من 14تموز 1958 ولغایة 8 شباط 1963 بالكثیر من المتاعب جراء العديد من القرارت والتعليمات التي قيدت حريتها بعد شهر العسل الذي مرت به بعد قيام الثورة مما ادى الى اغلاق العدید من الصحف بتھم شتى منھا ( تفرقة صفوف الشعب والإساءة للوطن والتسبب في القلق والتفرقة). ولم تتبقى، خلال الأشھر الأخیرة من عام 1963، من الصحف ال40 التي كانت قد صدرت، سوى خمس صحف سیاسیة ھي البلاد، صوت الأحرار، الأخبار، الزمان، والثورة واستمر الحال هكذا الى نهاية حكم قاسم في شباط 1963.
ومع هذا فقد تحسنت الصحافة في فترة حكم عبدالكريم قاسم وزادت صفحات الصحف وارتفعت اعداد توزيعها واعلاناتها، وتم تحديث وسائل الطباعة، وتأسست لاول مرة وكالة الانباء العراقية.
. وعندما استلم حزب البعث السلطة بعد القضاء على حكم عبدالكريم قاسم في 14 رمضان / 8 شباط 1963، اغلقت جميع الصحف، وصدرت صحيفة( الجماهير) لسان حال الحزب وكان صاحب الامتياز كريم محمود شنتاف عضو القيادة القطرية للحزب، ورئيس تحريرها طارق عزيز. وصدر قانون جديد للصحافة، و أصدرت المنظمات الحزبية صحفاً في بغداد وفي بعض المدن العراقية الأخرى، وصدرت صحف ومجلات كثيرة تعبر عن اتجاهات قومية لكنها لم تتعارض البتة مع سياسات الحكومة.
ولما كان حكم البعث الاول قصيرا لم يتجاوز تسعة اشهر ، فقد تغيرت القوانين في العهد العارفي الذي اعقب حكم البعث عام 1963 واستمر خمس سنوات اصبح فيها عبد السلام محمد عارف وشقيقه عبدالرحمن عارف رئيسان للجمهورية بالتتابع ، فبعد 18 تشرين 1963 الغى الرئيس عبدالسلام محمد عارف امتيازات جميع صحف البعث واغلقت وبذلك لم تصدر في العراق أیة صحیفة في الأیام الثمانیة الأولى من قیام النظام الجدید. في غضون ذلك اتخذت الحكومة قرارا بإغلاق صحیفة الجماھیر، وفصل ھیئة تحریرھا ، وإعادة إصدار صحیفة (الجمھوریة) بدلا عنھا وظهرت صحف ومجلات جديدة.
واهم حدث في هذه الفترة هو إصدار قانون المطبوعات في عام 1964 الذي مكن الحكومة من فرض الرقابة على الصحفيين؛ ثم هيأ إمكانية السيطرة عليها.
وفي عام 1964 صدرت كذلك صحيفة( صوت العرب) و( المنار) و( صوت العمال) و(صحيفة العهد الجديد) لصاحبها حيدر فياض العاني. و(الزمان) مستقلة. و( الحرية) لصاحبها قاسم حمودي.
كما صدرت عام 1965 صحيفة (المتفرج) لصاحبها الفنان حميد المحل احد اعضاء فرقة الزبانية للتمثيل. وكذلك الفكاهة لصاحبها حميد المحل التي صدرت عام 1966.
وفي عام 1967، وهو فترة حكم الرئيس عبدالرحمن محمد عارف تم تأميم الصحافة بصدور قانون (المؤسسة العامة لتنظيم الصحافة والطباعة) وهو القانون الذي ألغى بمادته السابعة الصحف والمطبوعات الدورية السياسية التي كانت تصدر وأناط بالمؤسسة إصدار وطبع المطبوعات والصحف الدورية السياسية.ونشرها وتوزيعها وجاء في الأسباب الموجبة لصدور القانون أنه (نظرا لدور الصحافة والتأثير على الرأي العام وحيث أن حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة بمقتضى الدستور المؤقت “وان المرحلة تقتضي توجيه الصحافة” … فقد رؤي أن تنشأ المؤسسة العامة لتنظيم الصحافة والطباعة لتصدر الصحف والمطبوعات السياسية بحيث تنطلق منها الآراء السديدة والتوجيهات الصحيحة والنقد الهادف البناء … ) . وقامت المؤسسة بإصدار مجموعة من الصحف ومجلة ألف باء، وكرست بعدها المجال لعمل صحافة القطاع العام، وضيقت الفرصة أمام القطاع الخاص لإصدار الصحف والمجلات.
لقد اعتبر هذا القانون الذي امم الصحافة وجعلها ملكا للدولة الغاءا تاما لحرية الصحافة في العراق وان الصحفيين قد اصبحوا موظفين لديها مما يجعلهم ملتزمين باتجاهات الحكومة دون ان يتمكنوا من توجيه النقد اليها. من جانب آخر فان هذا القانون قد صدر ليتماشى مع السياسة التي اتبعتها الدولة في التوجه نحو الوحدة مع مصر عبدالناصر لتوحيد الانظمة بين الدولتين، وقد اصبحت جريدة (الثورة العربية ) هي الناطقة باسم الاتحاد الاشتراكي العربي الذي اسس في العراق على غرار شبيهه في مصر عبدالناصر. وفي ضوء القانون الجديد فقد اكتفت الحكومة بالموافقة على اصدار أربع صحف باللغة العربیة، ھي (المواطن ) و(المساء ) و(الجھوریة ) و(الثورة ) وخامسة باللغة الانجلیزیة ،ھي صحیفة (بغداد اوبزیرفر ).
قبل اصدار قانون التأميم هذا حذرت بعض الصحف البغدادية منه فكتبت صحیفة العرب مقالا بعنوان ( محنة القلم ) حذرت فيه من الاتجاه نحو تقييد حرية الصحافة وناشدت صحيفة صوت العرب رئيس الجمهورية ان يتدخل لانقاذ الصحافة الاهلية غير الحكومية من الموت، و حاولت صحیفة التآخي نشر مقال تحت عنوان ( اغتیال الصحافة بمقصلة القطاع العام ) إلا إن الرقیب منع نشره فنشرت الصحیفة العنوان في مكان الافتتاحیة وتركت ما تحته بیاضا تعبیرا عن احتجاجھا على منع تشره. ومع كل هذه الاحتجاجات فقد صدر قانون تاميم الصحافة في العراق لعام 1967.
وعندما عاد البعث لاستلام الحكم في 17 تموز 1968، اتبع سياسة جديدة لارضاء الشيوعيين والكرد بالسماح لهم باصدار صحف خاصة بهم ، خصوصا بعد صدور قانون الجبهة الوطنية وقانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان العراق، فصدرت جريدة اتحاد الشعب والتآخي ، الا ان ضروف قيام الحرب العراقية الايرانية التي دامت لثمان سنوات ومن بعدها الحصار الذي فرض على العراق عام 1991 ودام 12 عاما قد حجم من دور الصحافة واقتصر على الصحف الحكومية، الجمهورية والثورة، مع محاولة لتنشيط النقد والمعارضة باصدار جريدة بابل اليومية.
الصحافة بعد الاحتلال
شهد العراق بعد احتلاله واسقاط نظام حكم البعث فيه عام 2003 انفلاتا فوضويا في اصدار الصحف بعد الغاء جميع صحف فترة البعث الثانية، فقد شجع الامريكان اي عراقي، حتى وان لم يكن صحفيا باصدار صحيفة جديدة او اعادة اصدار صحيفة قديمة وذلك بدفع مبلغ مجزي له يقدر بمليون دينار.
كما عاش العراق بعد سقوط النظام في التاسع من نيسان 2003، وبعد انحلال الدولة العراقية، فوضى سياسية وحزبية لم يشهدها من قبل ولعبت قوات الاحتلال الامريكي دوراً اساسيا بتكريس وترسيخ واقع الفوضى وهذا الانحلال من خلال مجموعة من الاجراءات والسياسات التي اتخذتها في ادارة شؤون العراق، بدءا من تجاهلها للفوضى الامنية و مرورا بتفكيك معظم مؤسسات الدولة وأجهزتها، ومنها القرار الذي اصدره الحاكم المدني الامريكي للعراق بول بريمر في 2003/4/23 بحل وزارة الاعلام والغاء جميع الصحف والمجلات العراقية ووسائل الاعلام وتسريح جميع العاملين في المؤسسات الاعلامية، واصبح العراق يعاني من فوضى اعلامية، تعددت فيه الاصدارات والمطبوعات، وتعددت الاحزاب والتنظيمات والحركات السياسية والدينية، وبلغ عدد الاحزاب المعلنة اكثر من سبعين حزبا وتنظيما اختلفت في توجهاتها وايدلوجياتها، واصدرت هذه الجهات العديد من الصحف التي تمثلها وانشأت العديد من الاذاعات والمحطات التلفزيونية المحلية والفضائية،
ولم ينته عام 2003 حتى صدر ما يقارب 180 صحيفة ومجلة ، وفي العام الثاني من عمر الاحتلال، 2004 وصل العدد بحدود 235 صحيفة ومجلة توزعت بين يومية واسبوعية ونصف شهرية، وفي عام 2005 ارتفع العدد الى 346 صحيفة ومجلة، وقد اتصفت هذه الصحف والمجلات بما يلي:
1 – عبرت معظم الصحف ووسائل الاعلام العراقية عن توجهات دينية مذهبية أوعرقية او طائفية.
2 -تبعية هذه الصحف إلى أحزاب سياسية أو تيارات دينية.
3 – بعدها عن الخطاب الوطني الشامل للعراق مع استثناء لبعض الصحف المعارضة.
4 -عدم استمرارها في الصدور لمدة طويلة، فقد تميزت معظم الصحف والمجلات بقصر اعمارها.
7 -غياب القوانين والانظمة التي تنظم عمل الاعلام والعاملين فيه .
9 -افتقار اغلب الصحف و المؤسسات الاعلامية إلى أخلاقيات المهنة الاعلامية بالالتزام بقواعد مهنة الصحافة في المصداقية والمهنية.
10 – التمجيد بشخصيات معينة تقف خلف تمويل هذه الصحف و المؤسسات الاعلامية
6 -تميز العمل في المؤسسات الاعلامية بالمخاطرة، فقد تعرض الاعلاميون للتصفيات والملاحقة والاضطهاد والتهديد والقتل، ففي الوقت الذي أقدمت فيه قوات الاحتلال على غلق مكاتب بعض الصحف المناوئة للاحتلال نراها تدعم صحفا اخرى اوجدتها بشتى الوسائل والاغراءات وبشكل مباشر وغير مباشر. لقد قتل ما يزيد على 500 صحافي خلال عقدين من الزمن، واصبح العراق يصنف بأنه البلد الخامس عالمياً في مؤشر الإفلات من العقاب.
لقد شهدت الصحافة العراقية بعد عام 2003 مرحلة جديدة لم تر مثلها من قبل، لكن كثيراً من الصحافيين تعرضوا للأذى أو الاغتيالات مع تعدد وسائل الإعلام والتوجهات واتساع مساحة القدرة على التعبير. ومع ذلك فانه حين يمتلك الصحفي القدرة على التعبير فلا يعني هذا بالضرورة أنه يمتلك القدرة على البقاء حياً في بلد تجاوز فيه اغتيال الاعلاميين بالمئات .
المنبر الثقافي العربي والدولي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب