ثقافة وفنونمقالات

متى نشاهد فيلماً عن بوضياف؟سعيد خطيبي

سعيد خطيبي

متى نشاهد فيلماً عن بوضياف؟

سعيد خطيبي

روائي وصحافي جزائري

أشاهد الأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير (أو ما يطلق عليه «الأفلان») وهو يتكلم في التلفزيون مثل تاجر واثق من سلعته. يسأله الصحافي: «ما رأيك في الذين يطالبون حزبكم بالانسحاب من الحياة السياسية؟». يرد عليه أمين الأفلان الأسبق: «هذا كلام خصومنا وهم فئة صغيرة». من يسمع هذا الكلام، يظن أن الناس يظلمون الأفلان، والحق أن أمين هذا الحزب لا يقرأ التاريخ. لأن أول من طالب بإحالة الأفلان إلى التقاعد هو محمد بوضياف (1919-1992). وهو الرجل الذي أسس الأفلان عام 1954، وقد سبق له أن صرح بالحرف الواحد: «لا يوجد حزب يولد تحت ظل بندقية». في نظره أن ذلك الحزب أنهى مهمته باستقلال البلاد، وكان من الأريح له الانسحاب، حفاظاً على سمعته التاريخية. وعندما وصل محمد بوضياف إلى الحكم، في شتاء 1992، وصار رابع رئيس للبلاد، عزم على إنشاء حزب بديل للأفلان، حزب وطني جامع آخر. هذه الفكرة سوف تتجسد عام 1997، والحزب البديل سوف يصير اسمه: «التجمع الوطني الديمقراطي».
إذن، مشكلة جبهة التحرير الوطني ليست مع خصومها، بل إن مؤسسها لم ير جدوى من بقائها، وهذا الموقف الصريح والصدامي من محمد بوضياف سيجعل منه شخصاً محل نقد ـ في الأزمنة الحالية ـ بحكم أن حزب الأفلان يحوز قاعدة شعبية واسعة، وله مقاعد في البرلمان، ولا واحد من أعضائه يرضيه أن يسمع كلام محمد بوضياف مرة أخرى. لذلك يبدو محمد بوضياف شخصاً غير مرغوب فيه، على الأقل في السينما، من يجرؤ على تصوير فيلم عن حياته وينقل على لسانه أقواله؟ أو يعود إلى مواقفه الأخرى، عقب الاستقلال، التي لا تزال محل جدال؟ هذه الأشياء وأخرى (سوف نأتي على ذكرها) تمنع بوضياف من الظهور على الشاشة. على الرغم من أن شخصيات أخرى رافقت الرجل ونالت حظها من الفن السابع، ظهرت في أفلام من تمويل الحكومة، بينما شخصية بوضياف لا تزال في انتظار دورها.

مجاهد وبندقية

من بين المشاريع التي أصر عليها عبد العزيز بوتفليقة، في السنوات الأخيرة من حكمه، هي إطلاق سلسلة أفلام سينمائية تدور حول شخصيات من حرب التحرير. وتوالت الإنتاجات عن شخصيات معروفة: مصطفى بن بولعيد، كريم بلقاسم، أحمد زبانة، إلخ، وصولا إلى فيلم «العربي بن مهيدي» هذا العام، في انتظار فيلم آخر عن زيغوت يوسف. وهي أفلام لاقت دعماً سخياً، لكنها لم تحقق المردود المرجو منها. ظهورها كان باهتاً في المهرجانات، وعروضها في الداخل كذلك لم تحقق إجماعاً. إذن رحل بوتفليقة، لكن المشروع لا يزال مستمراً. فهناك تركيز على الأفلام التي تستعيد شخصيات من التاريخ. والغالب أن التركيز يدور حول الأسماء التي لم تثر جدلاً، ولا خصومات بشأنها، بينما شخصيات أخرى كان لها دور حاسم في الوصول إلى الاستقلال، وكانت لها مواقف سياسية صريحة، فقد جرى استبعادها، من بين هؤلاء، محمد بوضياف.

سيرة من التقلبات

في أكتوبر/تشرين الأول 1956، اختطف الاستعمار طائرة يركبها محمد بوضياف، برفقة أربعة زعماء آخرين، من شخصيات الواجهة في حرب التحرير. وجاء في تقرير الأمن الفرنسي (المحفوظ في مركز الأرشيف «أكس أون بروفانس» فرنسا) أن بوضياف هو الشخصية الأهم من بين زملائه الآخرين. فقد انخرط في العمل السياسي مبكراً، في صفوف حزب الشعب، ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية، انضم كذلك إلى (المنظمة الخاصة) وهي جناح عسكري وتلقى تكوينه على يد مصالي الحاج، ثم انفصل عنه وكان من مؤسسي جبهة التحرير الوطني. سجنه الاستعمار ست سنوات، وصار وزيراً في الحكومة الجزائرية المؤقتة. عقب الاستقلال، اختلف مع أحمد بن بلة فوجد نفسه في سجن في الصحراء، ثم أطلق سراحه، ونفي ما يقرب من ثلاثة عقود، ثم عاد رئيساً للبلاد عام 1992، قبل أن ينتقل إلى جوار ربه، بطلقات نار، وهو يلقي خطاباً في مدينة عنابة (شرق البلاد). وكانت وفاته بداية الحرب الأهلية، التي ستدوم عشر سنوات، إثر تزايد العمليات الإرهابية للجماعات المتطرفة. حياة من الصراعات قضاها محمد بوضياف، ما جلب له خصوماً، مما يعسر التفكير في فيلم عنه. بالتالي، فإن مشروع الأفلام التاريخية، الذي صار الحدث الأبرز في الجزائر، في السنين الأخيرة، يراد منه مداهنة التاريخ لا مناقشته. يراد منه فرض تاريخ واحد، من غير الخوض في تفاصيل، ومن غير حل الجدال المتعلق بشخصيات من حرب التحرير.
الأصل في فيلم تاريخي أن يتيح للمشاهد نظرة مغايرة إزاء حدث ماضوي. إذا كان هذا الفيلم يتطابق مع ما جاء في كتب مدرسية عن التاريخ، فما هي الفائدة منه؟ لماذا تصرف عليه أموال بحكم أن المضمون متاح سلفاً؟ وتلك هي الحالة في الجزائر. غالبية الأفلام التي جرى تصويرها وعرضها، عن شخصيات تاريخية، إنما هي تكرار لما هو متداول ومتفق عليه. لا تعرض شيئاً جديداً. الغرض الآخر من فيلم تاريخ، هو أن يعرض حكايات جانبية. هذه الحكايات سوف تتكاثف وتحيل إلى التاريخ العام للشخصية. الفيلم التاريخي يتيح نظرة للمسكوت عنه في حياة الشخصية التاريخية التي يصورها. وهذا كذلك عنصر غائب عن الأفلام في الجزائر، حيث إن السيناريو يبدو محتشماً، لا يقول كل شيء، مكتفياً بالخطوط العريضة من حياة الشخصية التاريخية، دون مغامرة في تفاصيلها الحميمة. وإذا تفادينا الجدل في شأن محمد بوضياف، وصدقنا أن العودة إلى حياته في فيلم، سوف تفتح باب الجدل، فإن الأفلام التاريخية لها وظيفة أخرى، هي تصوير حيوات أشخاص غير معروفين، أو أشخاص نسيهم الناس، وإعادة وضعهم في سياق مشاركتهم في الحدث. وهذا موضوع يبدو أن القائمين على السينما لم يفكروا فيه. المخرجون يفكرون فقط في الشخصيات المعروفة، كأن تلك الشخصيات وحدها من صنعت التاريخ، ونتجاهل من نسيتهم كتب التاريخ. كما يجري تناسي الأجانب الذين شاركوا في حرب التحرير. وذلك موضوع آخر، من الصعب التفكير في فيلم جزائري مطول، بدعم حكومي (إذا استثنينا فرانز فانون) تدور وقائعه عن فرنسي شارك في الحرب ضد الاستعمار (مثل فرنان إيفتون أو موريس أودان).

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب