منوعات

أطفال غزة بين أنياب الجوع وأهوال الحرب: حكايات من قلب الحصار

أطفال غزة بين أنياب الجوع وأهوال الحرب: حكايات من قلب الحصار

مريم مشتاوي

في تلك الأرض الطاهرة المحتلة، هناك حيث تلتقي الأحلام بالكوابيس، وحيث تُخنق الابتسامات تحت وطأة الألم، يقف الجوع كوحش شرس يلتهم براءة الأطفال ويخنق أرواحهم الصغيرة. إنه الجوع الذي لا يعرف الرحمة، ولا يستثني أحداً من قسوته، بل يترك آثارا دامية في الأرواح والأجساد.
لم تكتف الحرب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول بتدمير المنازل وتشريد العائلات وقتل الأطفال مراراً وتكرارا، بل سلبت الأرض كل مظاهر الحياة. وجاء الجوع ليعذب الأطفال. جاء لتستحيل تلك العيون البريئة التي كانت يوماً تلمع بالأمل والسعادة، إلى عيون مطفأة، تنظر إلى العالم بوجع يفوق كل وصف وباستسلام مطلق. لقد سرق الجوع من صغار غزة بريق الحياة. إنه حصار الموت الذي فرضه جيش الاحتلال المتوحش على الأطفال.
اليوم تنتظر تلك العيون الصغيرة قطعة خبز، تنتظر يدا حانية تمتد لتطعمها، تنتظر نهاية لعذابات لا تعرف لها سببًا.
تقف تلك الأجساد المنمنمة مرتعشة وهي تتآكل يومًا بعد يوم. أكثرها توقف عن النمو، بالكاد يقوى على الوقوف. لقد أصبحت خطوات الأطفال متثاقلة، وكأنها تحمل على أكتافها أثقال العالم.
في غزة تحولت الأحلام الصغيرة إلى سراب بعيد. لم يعد الأطفال يحلمون باللعب ولا بالمرح، ولا بالدراسة والتلوين، لقد تبددت كل الأحلام أمام وحش الجوع الذي لم يترك لهم فرصة للتفكير بشيء سوى البقاء على قيد الحياة.
اليوم نشعر جميعنا بالظلم والعجز، ونتساءل: لماذا؟ لماذا يعانون؟ لماذا يُحرمون من أبسط حقوقهم؟ لماذا يحملون آلاما أكبر من أن تُحتمل، وهل الرحمة انعدمت بشكل كامل؟
لقد أخرس الجوع الأطفال. فالألم فاق قدرتهم على التعبير. وكلما زادت معاناتهم، زاد هذا الصمت حدة وثقلاً.
من هنا جاءت بطلة حكايتنا الصغيرة.. إنها هناء الصغيرة.. تلك الطفلة التي لا يتعدى عمرها ثلاث سنوات ونصف السنة، وهي تعيش في خيمة متهاوية. أما وزنها فهو نفس وزن الطفلة الرضيعة. لذلك بدأت أمها تلبسها ملابس الرضع فثيابها كادت تهوي عن جسدها النحيل، وكل ذلك بسبب الجوع المتوحش الفاجر الكافر. لقد جاعت بسبب الحصار ولم يبق منها شيء يذكر. هكذا أصيبت بمرض مزمن. وهي اليوم بالكاد تمشي. لا تتكلم أبداً، وليست لها قدرة على أن تحمل ملعقة لتأكل. أمها هي التي تطعمها وتحملها طوال النهار خوفاً عليها من السقوط وكسر رجلها أو يدها. وأمها أيضاً من يدخلها الحمام.
هناء باتت مريضة جداً تعاني من أنيميا حادة، وهي محرومة أيضاً من الدواء ومن فرص النجاة بعد انقطاع الأدوية عن القطاع بشكل كامل. تقول أمها والرعشة تغلب شفتيها: حالياً إحنا إيش بناكل؟ معلبات والمعلبات كلها مضرة والله ما بقدر وفر الخضراوات.. لو توفرت معاي فلوس بشتريها.. ولكن سعرها كتير غالي.
ثم تضيف والحسرة تعتصرها: «والله العلاجات اللي بتاخدها هناء أقلام السكر ورؤوس أقلام الأنسولين فيه صعوبة بتوفيرهم».
أم هناء تذهب دوماً للمستشفى علها تحصل، ولو على دواء واحد يخفف من آلام صغيرتها، ولكن من دون جدوى. لقد حرمت الصغيرة من كل شيء. حُرِمت من اللعب ومن الكلام. وبقي هناك سؤال يتيم تردده بين الفينة والأخرى حين تستجمع بعضاً من أنفاسها المتقطعة: لو أنا يا ماما مت بدكم تزعلوا عليّ؟
كلما نطقت هناء تلك الكلمات، حاولت الأم جاهدة كتمان دموعها، حتى لا تزداد آلام صغيرتها. تطمئنها وهي تتحسس وجهها بيد مرتجفة. كانت تلامس جبينها المحموم وتحاول بكل قواها أن تنقل إليها بعضًا من قوتها، بعضًا من أملها الذي يتضاءل يومًا بعد يوم. كانت تروي لها حكايات عن أيام السلام، عن الزهور والألعاب، عن مستقبل أفضل.
ففي تلك الخيمة تطول الليالي كثيراً وتصبح أشد ظلمة يوماً بعد يوم.. كلما نامت هناء، تسهر أمها بجانبها لتستمع إلى أنفاسها المتعبة، وهي تناجي السماء بدموع صامتة. إنها تدرك أن الوقت يمر ببطء شديد، وبأن الحلول تبدو بعيدة المنال. ولم يبق لها سوى عجيبة سماوية تنقذ طفلتها من الموت المحتم.
قصة هناء واحدة من قصص العذاب الكثيرة المنتشرة في قطاع غزة. ففي رقعة لا تبعد كثيراً عن خيمة هناء، طفل آخر ينام من الجوع والتعب فوق أكتاف والده النازح ليلاً. يمشي والده تحت القصف وهدير أصوات الدبابات لساعات طويلة وهو لا يعرف كيف يسد عطش أو جوع طفله! هكذا يمضي الليل ببطء، وكأنه يأبى أن ينتهي، تحمل فيه الرياح أصوات الأنفاس المتعبة. يمشي الأب بخطوات مثقلة بالهموم، يحمل طفله الصغير، وكأنما يحمل آخر أحلامه وآماله فوق كتفيه.
يمر الأب بجانب بيوت مهدمة. ولا يرى سوى وجوه منهكة تطل عليه من بين الركام، ويسمع أصواتاً أليفة تئن وهي تناديه من بعيد. ويرى على مفارق الطرقات عيوناً غارقة في يأسها. ومع كل خطوة يمشيها تتردد في ذهنه أسئلة لا إجابة لها: «متى ينتهي هذا العذاب؟ متى يجد طفلي شيئاً من الأمن والسلام؟» حينها يعلو صوت الصمت المخيف، ثم يعود صدى الانفجارات التي لا تهدأ.
تلك الليالي الطويلة وحدها تشهد على صمود شعب جبار، شعب يحارب بكل ما يملك من قوة، حتى وإن بدا المستقبل مظلمًا، حتى وإن اختنقت الأحلام تحت ركام الحصار، يظل هناك شعاع خافت من الأمل يتسلل من بين الدموع. إنه الأمل الذي يحمله الأب فوق كتفيه، والأمل نفسه الذي تسهر لأجله أم هناء وهي تعد أنفاسها المتعبة.

كاتبة لبنانيّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب