
سينما مصرية تتجاوز الطائفية: من الريحاني إلى شاهين وسناء جميل

كمال القاضي
كثيراً ما طرحت السينما المصرية نماذج إبداعية، دللت بها على انتفاء شُبهة الطائفية عن مجتمع مُختلط تعيش فيه كل الفئات والطوائف الدينية تحت سقف واحد، لكن قليلاً ما تم ذكر أسماء النجوم الكبار الذين ينتمون لأجيال مُختلفة عشقت الفن، وعبّرت من خلاله عن جُل القضايا الوطنية والإنسانية، بعيداً عن الانتماءات الدينية أو العرقية، فحققوا النجاح وتواصلوا مع الجماهير فعاشت أعمالهم طويلاً وتركت آثارها الإيجابية على الشخصية المصرية والعربية، حيث تجاوز التأثير الثقافي والإنساني المحيط الإقليمي والمحلي وصار قوة نافذة عابرة للقارات.
نجيب الريحاني
من بين نجوم المسرح والسينما الكبار، الفنان نجيب الريحاني، وهو عراقي الجنسية مصري النشأة قبطي الديانة، لم يُفرق صاحب النهضة يوماً بين ديانته وانتمائه الوطني للبلد الذي عاش فيه، فهو فنان أجمع المصريين على موهبته الفذة كممثل تراجيدي وكوميدي في آن واحد، وأحبوه كما هو وانفعلوا بكل الأنماط الفنية التي قدمها، سواء في المسرح أو السينما، من كشكش بيه إلى الأستاذ حمام، مروراً بكل النوعيات الأخرى التي كان لها التأثير ذاته في أفلام مثل «سي عمر» أو «لعبة الست» أو «أبو حلموس» وغيرها. وحقق الريحاني نجاحاً جماهيرياً غير مسبوق في أربعينيات القرن العشرين، قبل أن يعرف الكثيرين ماهية الإبداع السينمائي وطبيعته وأوصافه، كمؤثر ثقافي شديد الأهمية، وما زال الفنان الكبير إلى الآن يُعد أحد رموز الفن المصري البارزين، تتوالى على فنه الأجيال وتمر السنوات تلو السنوات، وهو باق كعلامة ثقافية أصيلة وشخصية مرموقة تحظى بكل الاحترام والتقدير.
يوسف شاهين
وبمرور الزمن تجددت دورة الحياة الفنية والإبداعية، وظهر في المشهد السينمائي مُبدع جديد تخصص في الإخراج السينمائي، وتشبع بثقافة اجتماعية حضارية قامت على مبدأ الكل في واحد، لا فرق بين مسلم ومسيحي، فجاءت أعماله مُعبرة عن ثقافته الإنسانية بكل وضوح، حيث قدّم في بداية حياته واحداً من أهم الأفلام التي أكدت معنى الانتماء «ابن النيل» بطولة شكري سرحان وفاتن حمامة، ليُصبح عنوان الفيلم دالاً على ثقافة مُخرجه، فالنيل مصدر العطاء وسر الحياة والدفاع عنه هو تمسك بالبقاء ورغبة صادقة في التحفيز على النماء والتطور والنهضة.
وفي تجربة أخرى هي الأقوى في مشواره الإبداعي، قدّم لنا شاهين فيلم «الأرض» للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي كنموذج لتحدي الفناء والتمسك بالجذور في مواجهة الراغبين في الهدم والتخريب وإفساد حياة الفلاح البسيط، بإبعاده عن أرضه ومحاولة إغرائه بالحياة المدنية الأكثر رفاهية ورخاءً. لكن يوسف شاهين فطن مُبكراً إلى المؤامرة التي استهدفت اغتيال الفلاح المصري، فقدم رؤية تحذيرية عميقة المعنى والدلالة، شاركه فيها أبطال الفيلم الكبار، محمود المليجي ويحيى شاهين وحمدي أحمد وعزت العلايلي ونجوى إبراهيم وصلاح السعدني وعلي الشريف في إجماع على الفكرة الوطنية التي تُعلي من قيمة الأرض كرمز للبقاء والوجود. ولم يكن فيلم «الأرض» هو النموذج الوحيد الذي أشار به المخرج الراحل إلى مصريته الأصيلة ووطنيته التي لا تقبل المزايدة والفصال، فهناك من بين إبداعاته الكثيرة ما يؤكد جدارته بالوطنية، وارتباطه القوي بمصر، بلداً وموطناً، كفيلم «باب الحديد» الذي دافع فيه عن عمال السكة الحديد وطالب لهم بعمل نقابة تُدافع عن حقوقهم المشروعة، كفئة عاملة تسعى بالكد والكفاح كي تحيا حياة كريمة غير بائسة ولا ذليلة.
ومن فيلم «باب الحديد» الذي رفع شعار الكفاية والمساواة إلى فيلم «الناصر صلاح الدين» الذي دافع عن بيت المقدس وألهب حماس الجماهير وأوعز إليهم لينتفضوا دفاعاً عن مقدساتهم الدينية، وقد نجح شاهين بالفعل في ترسيخ الفكرة لدى الشعوب العربية، لكنه بالطبع لم يكن معنياً بتطبيقها واقعياً، ويكفيه أنه عرض القضية بكل تفاصيلها وأخرجها من صفحات التاريخ ووضعها تحت الضوء ليعرف القاصي والداني أنها واقع حي لا يغيب ولا يندثر.
وبالقطع كان فيلم «جميله بوحيرد» واحداً من أعماله النضالية التوثيقية المهمة لكفاح المناضلة الجزائرية الكبيرة جميلة بوحيرد، أيقونة المقاومة والشجاعة ضد الاحتلال الفرنسي، في مرحلة تاريخية دقيقة وصعبة وهو علامة ناصعة في تاريخ السينما المصرية والعربية، وبالطبع في تاريخ يوسف شاهين الفني والإبداعي.
سناء جميل
ولأن الدور الوطني والإنساني لم يقتصر فقط على الفنانين الرجال في مسيرة العطاء والمشاركة المُجتمعية الحضارية، يستلزم الأمر الإشارة إلى الفنانة الراحلة سناء جميل، كواحدة من حلقات الوصل والاتصال بين الثقافة الفنية والجماهير، فقد كانت إحدى ركائز الدعم لمفهوم الوحدة الوطنية، بكل معانيها الإيجابية، كونها صاحبة الروائع التي تجلت من خلالها صور الإبداع النسائي المُعبر عن نبوغ الفنانة وتمسكها بالقيمة كمكون أساسي للنهضة والرقي، فسناء جميل هي بطلة فيلم «بداية ونهاية» الذي كشف التأثيرات السلبية للفقر المُدقع على الشخصية البسيطة، التي لا تملك مقومات الدفاع عن وجودها وبقائها في ظل القسوة وتعاظم التحديات والعراقيل. وهي ذاتها الفنانة التي جسدت الشخصية المُستبدة زوجة العُمدة (عتمان) صلاح منصور في فيلم «الزوجة الثانية» لتُدين الممارسات القمعية والتعسفية لذوي السُلطة من الجائرين على حقوق الضُعفاء والمهزومين. كذلك شاركت سناء جميل في فيلم «الرسالة» مع المخرج مصطفى العقاد بدور نوعي مهم، وقدمت عشرات الأدوار السينمائية والتلفزيونية الأخرى، التي انتقدت الظواهر الاجتماعية السلبية كمسلسل «الراية البيضا» ومسلسل «ساكن قصادي» ومسلسل «عيون» فهي الفنانة المسؤولة المُلتزمة التي أدركت منذ بدايتها وحتى وفاتها، قيمة الموهبة وحق الجمهور والمجتمع على الفنان.
كاتب مصري