ثقافة وفنون

ربات الخدور: التراجم وتاريخ النساء في مصر القرن التاسع عشر

ربات الخدور: التراجم وتاريخ النساء في مصر القرن التاسع عشر

محمد تركي الربيعو

كانت الكاتبة اللبنانية زينب فواز قد بدأت في أكتوبر/تشرين الأول عام 1891، بإعداد كتاب بعنوان «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» الذي ضم 453 ترجمة موجزة للنساء عبر التاريخ البشري. وقد شكل هذا الكتاب لاحقا مصدرا للعديد من الباحثين في تاريخ النساء في المنطقة العربية. مع ذلك تعتقد المؤرخة مارلين بوث صاحبة كتاب (شهيرات النساء: أدب التراجم والنوع في مصر) أن كتاب زينب، لم يحظ بالقراءة الكافية ليومنا هذا، على صعيد قراءة المناخ الثقافي الذي ولد فيه، أو على مستوى دوافع المؤلفة، وأيضا المصادر التي اعتمدت عليها في جمعها لتراجمها. ولعل هذه الأسئلة وغيرها، هي التي دفعت المؤرخة بوث لإصدار كتاب آخر سنة 2015 بعنوان (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور: كتابة تاريخ نسوي من خلال التراجم في مصر أواخر القرن التاسع عشر) وترجم مؤخرا للعربية، ترجمة سحر توفيق، عن المركز القومي للترجمة.
تعتقد بوث أن كتاب زينب يعد أول عمل كبير باللغة العربية عن تاريخ النساء، ورغم أن زينب اعتمدت منهج التراجم التقليدي، إلا أنها أعادت استخدام هذا المنهج من وجهة نظر نسوية على الأغلب، وسعت من خلال هذه التراجم إلى وضع تاريخ النساء العالمي بين أيدي قرائها.
كانت زينب قد ظهرت في المشهد العام من خلال قلمها أوائل سنة 1890، عندما بدأت النساء العربيات لتوهن نشر الكتب والمقالات والدواوين، وتختلف القصص حول انتقال هذه الفتاة من جبل عامل في لبنان إلى مصر، فهناك من يربط ذلك بوجود أخ لها، وآخرون يعتقدون أنها سافرت إلى مصر هربا من مشروع خطوبة، فهربت بداية إلى شمال بيروت، ووجدت عملا منزليا في بيوت عائلة الأسعد، ثم سافرت إلى الإسكندرية. وبغض النظر عن قصة قدومها، فقد شكلت مصر لزينب حياة جديدة، فخلال وجودها التقت بالكاتب والناشر الصحافي حسن حسني الطويراني 1850ـ1897، الذي كتب باللغتين العربية والتركية، ليصبح لاحقا مرشدا ومعلما لها.
أخذت زينب في عام 1891، تنشر بغزارة في صحيفة «النيل» وربما نشرها في الصحافة، جاء أيضا في سياق التطور الذي عرفته المنطقة في وسائل الاتصال، مثل المطابع والصحف وانتشار الكتب، التي ساهمت وفق ما يعتقده جيمس غالفن في كتابه عن سوريا، في تشكيل المخيال القومي الجديد للمنطقة. وكذلك الحال في مصر، كانت الصحف تأتي في سياق غليان اجتماعي وثقافي، ما جعل من الكتابة في الصحف، أو نشر الكتب أمرا مهما في حياة النخب الثقافية، وإن كان ذلك لا يعني أن الثقافة الشعبية لم يبق لها وجود في القاهرة. كما عرفت هذه الفترة ظهور دعوات نسوية، وهو أمر نلمسه في طريقة إعداد زينب للتراجم. إذ بدت بعض شخصياتها للقراء والقارئات غير لائقة، ولا تحتفل بأنواع الفضيلة التي جرى حث الفتاة العربية من الطبقتين العليا والمتوسطة على التحلي بها: التواضع، التقوى، اللياقة، الطاعة. فبعض التراجم قدمت أمثلة لبطلات يجمعن بين العاطفة والبطولة والأسطورة في التاريخ، لكننا لن نجد في تراجم زينب الكثير من الفضائل. فعند حديثها عن زنوبيا ملكة تدمر، تذكر أن ما دمرها هو طموحها وليس قلق روما من الهزيمة الإمبريالية. يروي السرد أسرها وتعرضها للإذلال بوضعها في موكب أسرى الامبراطور أورليان.
كانت زينت تتجنب التصوير المتسق للقدوة المثالية الملائمة اجتماعيا والمحددة وفق النوع، أي الملائمة لبنات جنسها، فقامت بتصوير أوسع، لتتأكد أهمية حصول الأنثى على معرفة تاريخية واسعة، ولذلك نراها تتحدث عن مانون رولاند (مفكرة فرنسية 1754ـ1793) التي عاشت في ظل أسرة ارستقراطية فرنسية، وتعرفت على التاريخ أثناء تجوالها مع والدها في شوارع باريس، ما أدى إلى بلورة حماسها لثورة 1789. والواقع أن رولاند ربما لم يكن لديها اهتمام بالنشاط السياسي حتى وفاة أبيها، لكن الصيغة التي نجدها في الدر المنثور حول حياتها، تؤكد دراسة التاريخ كمجال للبنات وحراك للاهتمامات السياسية للبالغات.

بائع الدندرمة «الأيس كريم» في شوارع القاهرة

الزواج والحب في تراجم زينب

أثناء قيام زينب بجمع تراجمها، بدا هناك مفهوم عصري للزواج يتبلور بين نخبة المعلقين والكتاب، يعزز علاقات الرفقة والتفاهم المشترك وما يتصل بذلك من مفاهيم مثل الزواج الأحادي والأسرة النواة. وكان المؤرخ الأمريكي كينث كونو قد أشار في كتابه «الزواج والحداثة في مصر» أن فكرة الحب كمدخل للزواج، لم تكن قد تطورت بعد في كتب الفقه وكتيبات الزواج، التي كانت ترى الزواج علاقة قائمة على النفقة مقابل الطاعة. ولذلك يعتقد كونو، أن فكرة الحب في الزواج لم تظهر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في مصر. في المقابل تعتقد المؤلفة مارلين بوث بأن كونو ربما لم يركز على مصادر أخرى لفهم هذه الحالة، بينما نلمس في تراجم زينب رؤية لا تقدم «الطاعة» كملمح سائد في الزواج، بل قدمت الشريكين الرفيقين كمتعادلين في القدرة على صناعة القرار وفي الحقوق. إذ تشير زينب الى أن الحب والمودة ليسا فقط من محصلات الزواج، بل كعوامل تاريخية قوية أدت إلى الزواج، أو إلى قطع الروابط الزوجية. ورغم أن العديد من النساء اللواتي يمتلئ بهن كتابها خضعن لزيجات مرتبة، لأسباب تتعلق بالأسرة الحاكمة، أو بالتقاليد، فإن ما يقدم كمثال نموذجي هو الزواج القائم على الحب. ففي ترجمتها لحياة زينب ابنة حدير، نراها في ليلة زفافها تصر على تبادل الحديث مع زوجها لمعرفة أخلاقه. كما نرى زينب وهي تحث على تعليم البنات، ليس بغرض خلق زوجات مناسبات في الأساس، وإنما لانتاج نساء سعيدات ومسؤلات ينبع عملهن من أجل الأسرة والأمة من شعورهن باحترام الذات والقدرة على كسب العيش عند الضرورة.

عمل النساء

شغل موضوع عمل النساء بال زينب وعدد من نخب تلك الفترة، ولذلك أرادت من خلال التراجم إبراز أهمية اعتماد النساء على أنفسهن اقتصاديا. فمع انغمار مصر المتزايد في اقتصاد عالمي بقيادة الغرب، بدأت تتقوض الصناعات اليدوية الصغيرة، وغيرها من الأعمال القائمة على العمل في البيت، التي شاركت فيها النساء. ومن المحتمل أن العمل الخدمي تنامى في المناطق الحضرية، رغم أنه لم يكن ليعتبر مناسبا بالنسبة لعائلات الطبقة الوسطى، ولذلك نرى الأرامل والمطلقات موضع اهتمام في صحافة أواخر القرن التاسع عشر، باعتبارها امرأة وحيدة لا تخضع للمراقبة. وضعيفة اقتصاديا وبالتالي فهي معرضة لخطر أخلاقي. ولذلك تحاول زينب في تراجمها الاحتجاج على هذه الرؤية، من خلال الدعوة إلى ضرورة إمداد النساء بالمهارات والمعارف التي تتيح لهن دخول قوة العمل. ولعل هذا ما نراه في ردها الحاد على الكاتبة السورية هنا كرواني، التي في رأيها استخدمت «الأخبار والأمثال عن الأقدمين» دون وعي، فهي، أي كوراني، تظهر موقع النساء في المنزل بوصفه أمراً طبيعيا، في حين تعتقد زينب أن من حق النساء العمل خارجاً.

صورة فلاحة مصرية عام 1874

لكن كيف ألفت زينب كتابها؟

ولعل من الفصول الغنية في الكتاب، هو الفصل المتعلق بالمصادر التي اعتمدت عليها زينب في إعداد كتابها. هنا تبدو صاحبة ربات الخدود، حسب المؤلفة معتمدة على أربعة مصادر ذكرتها في مقدمتها، تنتمي للقرن التاسع عشر وهي، دائرة المعارف لبطرس البستاني، دوريتان: المقتطف واللطائف، والتاريخ العالمي ليوحنا أبكاريوس: قطف الزهور في تاريخ الدهور. والمصادر الأربعة كلها من إنتاج مفكرين عرب تربوا وتعلموا ضمن الدوائر المسيحية السورية العثمانية، ونظروا كلهم إلى العالم الخارجي، واستخدموا الطباعة لوضعه أمام القارئ المحلي. كان بطرس البستاني من المفكرين العرب الأوائل الذين نادوا بتعليم البنات تعليما نظاميا. وكتب أنه في مقابل المعاجم التاريخية للأمم المتحضرة، لا بد من تضمين تراجم شخصيات شهيرة من الإناث، ولذلك نرى زينب تلجأ إليه، واللافت هنا أن روايتها عن السيدة آمنة أم النبي العربي، تستمدها من البستاني، وهذا يعني أن المثقفين العرب عند منعطف القرن كانوا يقرؤون ويستعيرون دون اعتبار للحدود الطائفية. كما نرى تأثير البستاني في زينب في ترجمتها للسيدة خديجة بنت خويلد، إذ يبدو أن ثلثي معلوماتها قد جمعتها من البستاني، والثلث الأخير من ابن الأثير ومصادر أخرى. وعلى صعيد ترجمتها للنساء الغربيات، نراها تنهل من كتاب إبكاريوس الذي نشر في بيروت عام 1885. ففي هذا الكتاب وعدد صفحاته 694 صفحة مصورة، يروي التاريخ السياسي للعالم، وبدرجة ما المعتقدات والعادات لكل قارة يقطنها الإنسان، وقد استطاعت زينب من خلاله استكمال معارفها عن الحاكمات من النساء من آشور القديمة حتى إنكلترا.
في الفصول الأخيرة، تقف المؤلفة عند نقطة غائبة عن الباحثين، وتتعلق بلحظة صدور الكتاب، إذ تعتقد المؤلفة أن هناك نقطة ربما نادرا ما نوقشت وتتعلق بمعرض شيكاغو 1893، ففي هذا المعرض بدا للجنة المعدة له أنه ليس بوسع النساء من الشرق الأوسط القدوم، وحتى لو تمت دعوة بعضهن، فغالبا ما اقتصر الأمر على بعض السوريات، اللواتي أكدن على فكرة الشرق المتخيل، الذي لا يسمح للنساء بالخروج، أو حتى يرين في عمل النساء داخل المنزل أمرا طبيعيا، كما في مثال هنا كوراني، التي زارت المعرض. وردا على هذا الجانب، تبدو زينب مهمومة ومشغولة بمعرض شيكاغو، ولذلك حاولت حسب المؤلفة إعداد كتابها كي يكون نصا يقدم دليلاً على عكس ما يعتقده الحضور من أن نساء العرب جميعا صامتات، غير متعلمات، ولا تمثيل لهن في تاريخ نساء العالم. ولذلك يبدو أن أحد أسباب ظهور تراجم زينب في عام 1893، هو في محاولتها إرساء تاريخ جمعي للنساء، مكتوب بقلم شرقي، والمثير هنا أن هذا التوجه كان يتقاطع مع توجه أمريكي في هذا العام، لنشر مجموعات من تراجم النساء. إذ كانت كتابة حياة النساء نوعا من رد الفعل بين الأمريكيين من أصل افريقي. وسواء وصل كتاب زينب إلى معرض شيكاغو، من عدمه، إلا أنه تمكن من تقديم جهد لم يشارك في التقسيم الاستعماري للعمالة القائم على الفكر الغربي مقابل المواد الخام والعمالة اليدوية للشرقيين، كما تمكنت من دحض الفهم الكولونيالي للتقسيم العالمي للعمل الذي تأثر بشدة بمفاهيم بنية العلاقات بين الجنسين في بعض المجتمعات، ما جعل كتابها إبداعا نسويا عربيا ليس في عصرها فحسب، بل حتى أيامنا.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب