ثقافة وفنون

مفاهيم ومصطلحات وصلات بأنواع مجاورة: أفق متنوع الرؤى للكتابة السيرية

مفاهيم ومصطلحات وصلات بأنواع مجاورة: أفق متنوع الرؤى للكتابة السيرية

حاتم الصكَر

1

تمثل السيرة مشروعا كتابياً تتخلله الكثير من التفريعات والتفاصيل، كونها تخرج من التقسيمات النوعية المألوفة المنبثقة عن جنسي الشعر والنثر، كالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية والمقالة، لتجد لنفسها مكاناً لصيقاً بأنا الكاتب كفاعل سيري في السيرة الذاتية، وسارداً عن سواه في السيرة التي يكتبها عن الآخر، أو ما عرف عربياً بالسيرة الغيرية.
ورغم ما صدر من دراسات حول نوعيْ السيرة المعروفيْن، يحس المهتمون بشعرية الكتابة السيرية أنه لا تزال ثمة حاجة لتطوير الدرس النقدي حول الكتابة السيرية، وبلورة بعض قوانينها المستجدة وشعريتها وجماليتها والموجهة لكتّابها في الأساس.
فلقد طال الحديث وتكرر عن مفاهيمها ومصطلحاتها، وصلتها بالأنواع المجاورة لها، وعن اشتراطاتها التي تتحول وتتعدل على وفق مقولات ما بعد الحداثة، وإتاحة الكتابة للجمهور، وتَجاوز القيود التي افترضها المنظّرون الأوائل. لا سيما تلك التي حددوها لموضوع الصدق اللازم في السيرة، وتخصيص الضمير السردي (أنا) العائد للشخص في السيرة الذاتية، والغائب في إشارة للآخر في السيرة الغيرية، وعلاقتها بالسرد الروائي، وبالتوثيق والتاريخ وسواها من كلاسيكيات النوع السيري.
تقترح الدراسات الحديثة اليوم تصنيفات متعددة للكتابة السيرية، سمحت بتجنيس أنواع محايثة للسيرة التقليدية التي تقتصر على حياة الكاتب أو سواه، لتشرع في تحريك موضوع السيرة ومادتها وأشكالها الفنية بالضرورة. فصار متاحاً الحديث عن سيرة شعرية أو ثقافية، وأخرى تدوينية بهيئة مذكرات أو يوميات أو رسائل أو شهادات ومحاورات. وقد عرفت الكتابة السيرية العربية مؤخراً بعض المحاولات في تجريب تلك الأنواع، لعل أحدثها ما قدمه الشاعر اسكندر حبش في محاوراته في كتابيه عن اثنين من شعراء قصيدة النثر عقد معهما محاورات مطولة تتنقل بين حياتهم الشخصية وتجاربهم الشعرية. والكتابان هما «صلاح فائق – ذاكرتان وخمس مدن «،2021، و«وديع سعادة – نثر حياة بين ضفتين» 2021.
وفي كتابة قصيدة السيرة تلمسنا محاولات أولى، يُذكر فيها عادة عمل محمود درويش «لماذا تركت الحصان وحيداً»، 1995، و«جدارية»، 2000، وديوان أمجد ناصر «حياة كسرد متقطع»، 2004، وقصيدة أدونيس «هذا هو اسمي: 1969، وديوان «قيافة الأثر – سيرتي تتتفقد قصيدتي»، 2020، و«البحث عن الحاضر – ديوان السيرة الذاتية» لهاشم شفيق. وأدونيس وقصيدته «هذا هو اسمي»ـ 1969، وعمله «الكتاب – أمس المكان الآن» 1995-2002، بكونها سيرة شعرية غيرية عن المتنبي.
ولعل هذه الأعمالَ السيرذاتية الشعرية وسواها، أو ما يعد مقاربة لها وتمهيداً، أحدثُ من صيغة تجربتي الشعرية أو السيرة التي يكتبها الشعراء عن حياتهم وشعرهم. ومنها في العربية نماذج كثيرة دُرست وقومت، ولكن بكونها سرداً سيرياً يدخل الشعر موضوعاً فيها، وليس كما يحصل في قصيدة السيرة من وجود الحياة مشظاة بحسب نظام الشعر وبنية القصيدة. وقد فتحت مجلة «الآداب» في عدد خاص بالتجارب الشعرية باباً لسرد الشعراء ما يميز تلك التجارب والوقائع المساندة والمحايثة لها. وقد طوّرها بعضهم كالبياتي ونزار وعبد الصبور إلى كتب تحمل عناوين تحيل إلى تلك التجارب.
ولم يعن شعراء قصيدة النثر في المرحلة الحالية بتسجيل كِسَر من حياتهم، بل استعاضوا عنها بتدوين وقائع منفصلة ومتفرقة منها، لاسيما تجارب الحرب ووجودهم فيها أو سواها من الموضوعات. وأحسب أن معالجتهم المميزة لِكُنْه القصيدة ومعاناتها، وما استحدثوه من وعي ميتاشعري يكتب عن القصيدة من داخلها ويتأمل وجودها، هو تطوير للحس السيري وانعطافة في معالجة حديثة للسرد السيري في قصيدة النثر.
وقد لفتني وأنا أعد مادة كتابي «إيكاروس محدقاً في شمس القصيدة»، 2024، تلك النصوص التي تتنوع في الوقوف إزاء القصيدة، والكتابة عنها من خلالها في شتى حالاتها، وما يتصل بها من تجربة أو تصورات. وربما شجع على شيوع تلك المواجهات بين الشعراء وقصائدهم لا الشعر فحسب، هو انفتاح مساحة قصيدة النثر ونظامها السطري واستغناؤها عن التوتر الموسيقي الذي تحكمه التفعيلات لاستثمار تلك المساحة للتأمل في عمل الشعر وفعل القصيدة.
وهم بذلك يجعلون للقصيدة المتحدثة عن نفسها وجوداً خاصاً، يشكّل جزءاً من سيرة غير معلنة عن صلة الشاعر بقصيدته أو ما يراه بصددها.

2

وأبرز ما يلفت هنا هو الحديث عن السيرة التي يكتبها مؤلف عن نفسه، ولكن باستخدام وجهة نظر تحاول تفتيت السيرة، والتنقل الحر في أزمنتها وكذلك في موضوعاتها. وتدخل فيها تقنيات كتابية تهشم الشكل المألوف للكتابة السيرية، كاللجوء إلى المونتاج السردي، والتنقل الحر بين التنظير للقصيدة وسرد المرجعيات الفاعلة في التجربة، والحديث عن نصوص بعينها، أو رصد محطات في تطور الوعي بالكتابة ذاتها، والكتابة بوجه عام.
وسيكون علينا الانتظار طويلاً للانتقال من السيرة الثقافية التي أنجزها نقاد وشعراء، إلى كتابة متحررة من أطر التقاليد الفنية المستهلكة التي تضع في ستراتيجية خطابها التوجه إلى متلق فضولي يريد أن يرى في السيرة ما يحب ان يراه تشويقاً وإثارة، لا ما يقدمه له النص السيري.
إن مثل هذه الكتابة السيرذاتية تتمرد على قالب السرد السيري الخطّي الخاضع للتسلسل التاريخي، والانغلاق على الذات دون مواجهة خطاب السيرة مع المرجعيات الفاعلة في التجارب، أو التقاطع مع تجارب معاصرة للشاعر، أو بسط الرأي في موضوعات شعرية وجمالية مهمة.
ولدينا في الكتابة السيرية الغربية نماذج يجدر بنا تأملها وعرض مزاياها تحفيزاً لتنشيط هذا النوع السيري المهم، والذي نعجب لأن النقد الأدبي لم يولِه العناية الكافية واقتصر الاهتمام به على كتابات نقدية انصرفت لتقصي هذا النوع الكتابي وتنويعاته الممكنة. كما أن النقد الثقافي في هبَّته العربية وحماسته لكشف الأنساق الفاعلة في النتاج الأدبي والشعري خاصة لم يلتفت دعاته في دراساتهم لعمل تلك الأنساق وتمظهراتها في الكتابة السيرية. مع أنها تكشف عن تجليات تلك الأنساق بشدة كونها لصيقة بالذات، ما يجعل تأمل المهيمنات على الوعي، وتأويل نصوصه ممكنة وذات دلالة ثقافية.
أما الغربيون فكونهم عكفوا على كتابة السيرة ونقدها وتتبع تطور أساليها وكيفياتها، ابتكروا أشكالاً طريفة لنصوص السيرة. يكتب رولان بارت كتابه السيري «رولان بارت بقلمه» ممتلئاً بالمشاكسة والمساخرة وخلط المعرفي بالشخصي، ولا يلتزم بخط زمني أو مكاني للكتابة. يضع صوراً ويؤولها ويحلل وعيه من خلالها، ثم ينتقل إلى شذرات ومقاطع يضع لها عناوين مستقلة، مهما كانت الفقرات قصيرة. يتنقل بين الوقائع والمفاهيم. ويلاطف نفسه وذكرياته وأصدقاءه وكتبه. يحلل الإيقاع والخيال والتفكيك والدلالة، ويضع جدولا يوميا يتسم بالطرافة والسخرية عن أشياء عادية يفعلها ويتأمل جدواها. يضع قائمة بما يحب ولا يحب. لا يتقيد بطريقة سرد واحدة. يتحدث أحيانا عن نفسه بضمير الغائب. ويتعرض لكتبه سريعاً. وفي الطبائع لا يصرح بما يحس ولا يريد أن يفعل. يقتبس من كتاب التيفاشي «نزهة الألباب» خبراً ذا دلالة إيروتيكية ويضع له عنواناً مناسباً: إشباع. يتحدث عن الشذرات وكأنها فعل يقوم به سواه فيقول: «يجب أن يبدأ البدايات وأن يكتبها، ومن ثم يميل إلى التكثير من اللذة: لذلك يكتب شذرات: بقدر ما توجد شذرات، توجد بدايات وتوجد لذّات…».
متن حافل بالصور والاستعارات والأحداث والتعليقات والذكريات، لكنه لا يخضع إلا للذاكرة ونظامها الحر وتداعياتها، والخيال الذي ينتج صورها.
وفي الكتابة السيرية الغيرية نعرض لكتاب عن دريدا «البحث عن ديريدا – ثلاث سنوات مع دريدا- دفتر كاتب سيري»، لبونوا بيترز. لجأ المؤلف إلى سجلّ أو ما أسماه الدفتر السيري، ليدوّن كل ما حصل له أثناء جمع مادته للكتابة عن دريدا. لقد أرادها سيرة لدريدا لا سيرة دريدية كما يقول. سافر لمدن كثيرة في فرنسا والعالم، تتبع ما كُتب عن دريدا. أجرى لقاءات وحوارات مع أصدقائه ومن عاصروه، مع أسرته، وطلابه، ومؤلفي كتب عنه. يقابل أعلاما ً مثل جيرار جينيت وجوليا كريستيفا وميشيل ديغي…
وأهم ما يخص موضوع توسيع أفق الكتابة السيرية نقف عند مقترحاته في تجنيس النوع السيري في عدة أصناف. منها السيرة – التجربة، والسيرة- الشهادة، والسيرة الملف، والسيرةالروائية والوجدانية، والسيرةالفكرية، والسيرة المفككة، وسيرة التفاصيل، والسيرة الشاملة أو الكاملة.
تلك يوميات عن مرحلة إعداد كتاب يريد تدوين ما يحصل للكاتب، وما يروم وما يتحقق من بعد. إن الكتاب أشبه بميتا سيرة تطفو فوق المتن السيري المزمع كتابته. يشرك القارئ في التفاصيل، ويمهد لسيرة يمكن أن توصَف بأنها شملة، احتكاماً إلى ما ينوي فعله بكل ما ضم دفتره السيري من يوميات.
إن عمل السيرة ذاتية أو غيرية هو بناء لحياة وتجربة، وتقاطع مع تلك الحياة حيث يكون الأمر ضرورياً وهذا ما ينعكس في كتابتها، ويدعونا لأن ننشد تطويراً أدبياً وثقافياً لهذا النوع الكاشف والمعرفي في هرم الكتابة الأدبية.

٭ مادة كتاب «رولان بارت بقلم رولان بارت» من ترجمة ناجي العونلّي، 2018. ومادة كتاب «البحث عن دريدا دفاتر كاتب سيري) بترجمة فتحية دبش، 2020.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب