تحولات دونالد جاد: من الفن التشكيلي الأوروبي إلى تحديات الفكر المعاصر
مهدي غلاّب
لطالما وصف رائد الفن التقليلي دونالد جاد الفن التشكيلي الأوروبي بالمسن، رغم أنه مثل أحد صناعه لسنوات طويلة، قبل أن يتخلى عنه في منتصف الطريق، نظرا لتبنيه توليفة فنية تشكيلية مجددة في عصرها، لا هي بالصباغية اللّونية ولا بالنحتية المجسمة، بل تجمع بين التقنيتين مرة واحدة، مع احتفاظها بجماليات محايدة تتجاوز إطارالعمل لتترجم خصوصيات المحيط القريب.
تكمن أهمية هذا التأسيس في بساطته من جهة واحتفائه بالإطار المكاني من جهة أخرى، سواء كان ذلك في الموقع «إن سيتي» (الخارج) أو في المعرض «إن فيزي»(الداخل) فيما يستمد العمل شرعيته من حجمه وهيئته تارة، ومن إلغاء جوهره وتفاصيله تارة أخرى. نتج عن هذا التماشي ظهور بوادر أصناف فنية ثورية بأهداف، ودون أهداف مهدت لها الحركة التجريدية المتنامية مع الطلائعيين في بداية القرن العشرين منها الفن التقليلي.
تتعارض هذه الحركة الفنية مع مساحات الطلاء والتمويه والسردية، وهو موقف يتماهى معه منظرو مفهوم العصرنة (الحداثة الفنية الغربية modernisme) بعد الحربين العظميين، وعلى رأسهم المؤرخ كليمان غرينبيرف، وهو سعي يثبت مقدار حياد الفنان وقياس درجة التخلي عن البصمة الشخصية ونبذ التوقيع والقطع مع العناصر التعبيرية السردية والتاريخية، بحيث يتم تنفيذ المخطط التشكيلي آليا داخل ورشات ومنشآت صناعية.
توجه جاد بعد ذلك مباشرة إلى تأسيس نمط تشكيلي تأملي جديد يحدد مقومات اتجاهه الأدنى، تفاوت فيه مع عدد من أقرانه مثل فلافين ونيومان وشتيلاّ. تعتمد الفكرة على استثمار العناصر الصناعية والشبه صناعية، المعدنية الخام تارة والعضوية طورا، والتي تستدعي بالضرورة عددا من الإنشاءات والهياكل العملاقة – على الأغلب – منها الفولاذية والإسمنتية والخشبية. برزت بصماته بالخصوص في إنجاز حزم ومكعبات عملاقة، بارتفاعات خرافية أحيانا يظهر فيها الفرد محدودا للغاية. وهي إنجازات تختلف طبيعة وحجما عما سبقها من الإنجازات البصرية، وبما أنها نتاج عصرها لا تجعلنا – حتما- نبحر في أغوار الجماليات التشبيهية التقليدية الحالمة في المحامل داخل الصالونات والمعارض والأروقة، بقدر ما تحيلنا إلى الوعي بالفضاء الجماعي في ضوء التطورات والتحولات المنقطعة عما سبق من التراكمات. تمثل ذلك على أرض الواقع في إنجاز عدد من الإنشاءات الخرسانية والمكعبات الضخمة، إضافة إلى عدد آخر من التنصيبات الخشبية والفولاذية المتوسطة، التي تعكس نمطا تشكيليا تقليليا معاصرا، تميز به جاد عن غيره، مثلما تميز رفاقه؛ فلافين بأنابيب الضوء (تنصيب) وسميث بالكتل والأحجام الحديدية والخشبية المجردة والأشكال الهندسية البدائية (نحت) وماردن بالمربعات المسطحة ثنائية الأبعاد (صباغة). وكلها تدخل في خانة الفن الأدنى الذي استفاد كثيرا من مختلف التقلبات الاجتماعية والتغيرات الحضارية في العصر الحديث، ورفع شعار الحساسية الإيكولوجية والفوضى اللونية حتى قبل ظهور فن الأرض، فقطع بذلك الفن الأدنى حبل التواصل مع كل التيارات والمدارس الفنية التي سبقته. تبعا لذلك شكل ظهور التيار التقليلي في ستينيات القرن الماضي بمثابة ولادة رائدة للفن الأمريكي المعاصر، عملت على تكريس الجديد وإحداث الشرخ الاستطيقي، الذي هز عرش الفن الأوروبي وأقصاه بصفة دائمة، بحيث لم يعد النظر يقتصر على زوايا العمل بحد ذاته، بل على مجمل الفضاء المحيط، لاسيما مع ظهور التنصيبات الدائمة في المواقع.
أعمال الرواق لم تستثن بدورها من القاعدة، رغم اختلاف طبيعة المواد وتفاوت الأحجام لتترك عددا من التساؤلات المحيرة لدى المتلقي تدفعه بالضرورة إلى الدخول في دوامة تأسيس مخالف يذهب في اتجاه الاعتراف بتحديات الواقع المعاصر، وبالتالي محاولة فك شيفراته والمصالحة معه.
المكعبات الخرسانية من الجحود الجمالي إلى استنطاق الفكرة
رغم تفاعلها مع المحيط الطبيعي الخارجي ودرجة الانسجام مع المتطلبات الفنية، فإن الإنجازات الجمالية المكعبة العملاقة لدونالد جاد انحصرت رأسا في مجمل اللاجماليات المراد تقديمها، لإسقاط القناع الأوروبي الزائف، ولشد انتباه الجمهور والمتابعين حول الإشكاليات والقضايا الفكرية والفلسفية المعاصرة المطروحة، نظرا لاعتبار حضور العمل في الساحة الفنية البصرية، مجرد آلية وساطة، تتميز بالبساطة التامة التي تجعل فهمها وتناولها أمرا ممكنا من طرف كل أطياف المجتمع، خاصة أن المكعبات المتناولة بالقراءة والدرس تتميز بخاصيتين اثنتين:
– الأولى: أحادية اللون وانعدام الزينة والنقوش مع غياب البصمة الشخصية للفنان (دون توقيع، دون عنوان، دون خلفيات رومانسية تأثيرية).
– الثانية: تسلسل العمل المطروح على الساحة، أي تعددية تكرار المكعب نفسه أو الرف في الموقع الواحد، ما يستدعي من القارئ والناقد – أمام سذاجة العمل- إلى الاستيقاظ من السبات الميثولوجي العقيم، والاتجاه مباشرة إلى استثمار مكامن المحيط المباشر، ليجد المتقبل نفسه في حالة شك وتساؤل عن مصير الفن والفرد والعالم على حد سواء. تطرح كل هذه النقاط مجموعة استفهامات مرتبطة أساسا بالمناحي الفكرية تتواصل وتتكامل مع الفن المفاهيمي ورواده على غرار المعاصرين كوزيت، لاويت وكلاين.
يقول جاد عن المهمة الموكلة للتقليليين: «إن المعركة التي يجب أن يخوضها كل فنان هي تحرير نفسه من الفن الأوروبي العجوز».
كاتب تونسي