ثقافة وفنون

وَجْهٌ جمالُه مُقَسّم

وَجْهٌ جمالُه مُقَسّم

توفيق قريرة

الأشعار التي استشهد به النحاة القدامى، استحضروها لبيان وجْه لغويّ قد يكون شاذا أو نادرا بالنسبة إلى القاعدة، أو قد يثير إشكالا نظريا نحويّا، أو يكون دليلا عليه. لكنّي وأنا أعود بين الفينة والأخرى إلى هذه الشواهد من كتاب سيبيويه، أو من غيره من كتب اللاحقين، تستوقفني مع ما استوقفتهم من ظواهر نحوية عناصر أخرى جمالية، أجد فيها تعابير أحيانا نادرة عن جماليّات قديمة قد لا نعرفها.
البيت الذي سنوليه أهمية في هذا المقال هو لابن صريم اليشكريّ أورده سيبويه في الكتاب (2/134) بنسبته إليه ونسبه أبو سعيد السيرافي إلى أرقم بن علباء. ذكر سيبويه البيت في سياق الحديث عن رفع إنّ وأخواتها في حالات منها إضمار الهاء وتخفيف التشديد في إنّ، أو كأنّ يقول الشاعر: (ويَوْماً تُوافيِينَا بوَجْهٍ مقَسَّمٍ // كَأنْ ظِبْيَةٌ تعْطُو إلى وارِقِ السََّلْمِ).
يذكر الخطيب التبريزي في كتاب «شرح ديوان الحماسة» (1/206) أنّ باعث بن صريم اليشكريّ «شاعر جاهلي فارس شجاع» عرف بثأره لدم أخيه وائل الذي كان بعثه عمرو بن هند اللخمي ليجبي له الإتاوة من قبائل العرب، حتى أوقع به وهو يحدّثه شيخ من بني أسيد فألقاه في البئر فقضى. فأقسم باعث أنْ لن يفتر ثأره حتى يملأ البئر التي أسقطوه فيها دما. وفي ذلك يقول (سائل أسيدَ هل ثأرت بوائل… أم هل شفيت النفس من بلبالها// إذ أرسلوني مائحا بدلائهم … فملأتها علقا إلى أسبالها).
اختار التبريزي في الحماسة قصيدة أخرى غير التي ينتمي إليها بيت الكتاب، وهذا بديهي لأنّ عين الحماسيّ وهو يختار عيون القصائد غير عين النحويّ وهو يعالج أحكام الكلام وقواعده، من وجهة نظر نحويّة. والمعطيات التي قدّمها التبريزي عن الشاعر لا تفيد النحويّ. صحيح أنّ الشرّاح والمحقّقين تكفلوا بعد سيبويه بإسناد كثير من الأشعار المجهولة إلى أصحابها، لكنّ ذلك كان منهم اجتهادا لا يفيد النصّ النحويّ من قريب أو من بعيد. كان أولئك النحاة يجتهدون اجتهاد متأدّبين طلبوا النحو من غير أن ينسوا أنّ لشواهده الشعرية جماليّات، وأنّ لأبياته حكايات وأنّ في البيت أو الأبيات ما يهمّ أكثر ممّا يركّز عليه النحويّ. لقد وضع كثير من النحاة والأدباء القدامى كتبا في شرح شواهد النحو، وربّما نسب بعضهم الأبيات الشعرية التي استشهد بها سيبويه إليه فقالوا «أبيات سيبويه». لقد حفظت المدوّنة النحوية من دون قصد أبياتا كانت دليلا لكلّ محقّق كي يبحث عن القصيدة كاملة وينقب عن مناسبتها.
يصف الشاعر في البيت موضوع الشاهد النحويّ، امرأة جميلة زائرة وهي ولئن كانت منتظَرة في هذه الزيارة (توافينا) فإنّها حرمت من عادة مألوفة في الشعر: كونها مزارة. غير أنّ ذلك لم يحرمها مركزيتها المطلوبة فقد صنعها قدومها الحدث وكانت الطريقة التي بها رسم الشاعر بؤرة الجمال في الوجه هي اللافتة فقد كان مقسَّم الجمال. الوجه هو حمّال الهويّات ومفتاحها ولكنّه أيضا حمّال علامات على الباطن والنفس، وهو قبل ذلك من آيات الجمال الجسدي الأصلية. أوّل انطباع يحمله إلينا الجسد القريب هو انطباعنا عن الوجه، فهو علامة مشحونة ثقافيّا ترسل إلينا رسائل يتلقّاها البشر، ولاسيما الرجال تلقّياً يتناسب وطبيعة علاقته المطلوبة بمن يراه. طبعا نحن نركز في الرؤية الأولى على سمات الوجه التي نريدها وقتها. فعلى سبيل المثال إن كنت في سياق خصام فأنت لن تركز على سمات الجمال في وجه خصمك، امرأة كانت أم رجلا؛ ومن كان مختطفا في سياق إجرامي فلن يركز إلاّ على السمات التي تمكّنه من أن يحفظ وجه خاطفه لذلك فإنّ تركيز الشاعر على سمات الجمال يعكس النفسية التي ترى فهي في وضعية انسجام مع المرأة الزائرة.

ما يشدّ في البيت هو عبارة وجه مقسّم، التي إن نحن رأيناها من منظار جمالي دلّت على عمق وتصوّر في رؤية الجمال. الأصل في عبارة (وجه مقسّم) عبارة أطول هي (وجه مقسّم جماله) أي أنّ الجمال فيه ليس مركّزا على موضع دون موضع حتّى لكأنّ العين تظل حائرة على أيّ قسمة من أقسام ذلك الجمال تركّز. الجمال البؤريّ هو ما يسعى إليه الوصّافون من الشعراء، كأن يركزوا على سحر عيون الجميلة وكيف أنّها قاتلة؛ وحين يموت الوصّاف بعين قاتلة يتعطّل الوصف ويموت عند العين ولا يحيا. الجمال البؤري هو ما يستوجب وصفا بؤريّا على مناطق الجمال في الجسد، وهو في حقيقته محاكاة لعين الواصف الرجل إذ تتوقف على منطقة من مناطق الجمال لا تغادرها.
لكنّ الوجه المقسّم لا يقتضي وصفا بؤريّا فهو وصف متكافئ وموزّع على أقسام جمال الوجه، لكنّ الشاعر لم يتوقف عند العينات، بل اكتفى بهذا القول الموجز فكان وصفه خطاطيّا، لأنّه لا يحمل لنا تفاصيل العينات الجميلة. هو وصف انطباعي بالنسبة إلينا يحتفظ فيه الرائي بجمال ما يرى دون أن يشاركنا تفاصيله بدعوى التقسيم. يدخل الوصف في ضرب من الاختزال الذي لا يعطيك شيئا بعده ولا شيئا قبله. هذا جسد مقبل فيه وجه جميل جماله مقسّم ولك أن تعيد القسمة بينك وبين نفسك ستدخل في سياق الإحصاء والعدّ للعناصر الجميلة ستكون العين جميلة والأهداب والأنف والجبهة والوجنة والخدّ كلّها جميلة جمالا لا تفصيل فيه، إلاّ إذا فصّلت بأن تتخيّر أيّ جمال تكون للعين وللأهداب وللأنف وللخدّ.. ستصنع جمالك الخاص بك لهذا الجمال المقسّم، وستلبسه الزائرة والحق أنّها زائرتك لا زائرة الشاعر فأنت من استحضر تفاصيل جمالها المقسم.
إنّ وصفا كهذا يتعامل مع الوجه وكأنّه مخفي عليه برقع، وبدلا من أن يسدل الشاعر عليه ستارا من السواد، يسدل عليه ستارا من البياض الذي يشع حتى يعمي فلا ترى شيئا. لم يتحرّر المشهد من سجن الوصف فيه إلا حين غادرنا بالقراءة الصدر، وانطلقنا متحرّرين إلى كامل الجسد نبحث وقد بات الوجه الجميل شيئا أسرّ به الشاعر دون أن يعلن عن مراكز محرّرة من الجمال أرسلها إلينا عبر الاستعارة الرامزة. كانت المرأة طويلة العنق كانت غزالا يميل عنقها ميلا عليك أن ترسمه وأنت تتخيله بتوقيع جماليّ مخصوص؛ لست حرّا في التوقيع فلقد قيدك المجال الذي يتحرك فيه الغزال الشبيه: عنق يتطلع ولك أن تحدّد إلى أيّ شيء إمّا إلى ورق السلم المخضرّة، تريد أن تختارها من بين الأشواك، وإمّا إلى الطائر الذي سكن بين جنبات الشجر كأنّها تبحث عنه. العنق هو بعبارة العرفانيّين الميدان الذي يحوي الوجه هو الإطار المتحرّك الوحيد الذي يبحث بحركته عن صيد ناعم يختفي بين الأشواك. يمكن أن أستفيد أنا حفيد سيبويه من هذا البيت في سياق نحويّ، ولكنّه عرفاني فبدلا من أن أركّز مثلما فعل سيبويه على النصب بكأنّ أو تخفيفها أو إضمارها، فإنّي أركّز على فكرة نحوية عرفانية تتمثل في أنّ المعنى النحوي هو معنى إدراكي تمثيلي، وهو يبنى بالاعتماد على ثنائية الوجه الأرضية ذلك أنّ أيّ عنصر لغوي (وجه/ عنق) إنّما يدرك بالنسبة إلى ميدان إدراكي أوسع منه يعدّ هو فيه وجها Figure ويعدّ الميدان الأوسع أرضية Ground فالعنق أرضيّة للوجه وحين يوصف يصبح الجسد هو الأرضية المضمرة. كأنّنا قلنا لك إنّ النحو متغير الموضوع، ويمكن للشعر أن يكون سندَه الشاهد. ولكنّنا في هذا الإطار أخفينا عليك أنّ الشاعر يبني الكون من وجهات نظر مختلفة هي التي حدّثناك عنها في هذا المقال حديثا لا يأبه به النحو القديم، ولكنّ النحو الحديث الإدراكي يؤسس عليه جوهره في البحث.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب