إيران منعت إحياء ذكرى مهسا أميني خوفاً من شرارة جديدة لـ«ثورة الحجاب: شعار «امرأة، حياة، حرية» لم يمت والرسائل الموجهة للنظام لم تغب

إيران منعت إحياء ذكرى مهسا أميني خوفاً من شرارة جديدة لـ«ثورة الحجاب: شعار «امرأة، حياة، حرية» لم يمت والرسائل الموجهة للنظام لم تغب
رلى موفّق
لو كان النظام الإسلامي الإيراني مرتاحاً على وضعه، غير قلق من ارتدادات الاهتزاز الأكبر الذي أصاب إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها العقيدة الدينية لحكم ولاية الفقيه، وهي «إلزامية الحجاب»، جرَّاء الحركة الاحتجاجية التي امتدت لأشهر طويلة وحملت شعار «امرأة، حياة، حرية» على خلفية مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في السادس عشر من أيلول/سبتمبر 2022 خلال اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق بتهمة سوء ارتداء الحجاب الذي تفرضه إيران على النساء، لما كانت السلطات ذهبت إلى إجراءات قمعية واعتقالات وتهديدات مع حلول الذكرى الثانية للحركة الاحتجاجية التي شكَّلت النساء قلبها النابض، وكانت الأكبر منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979.
الإقامة الجبرية
ما حصل هو أن السلطات الإيرانية فرضت الإقامة الجبرية المؤقتة على أسرة أميني، وأبلغت والديها أنهما ممنوعان من مغادرة المنزل، محذِّرة من تعرضهما للاعتقال في حال مخالفة التعليمات، وذلك بعدما أعرب أمجد أميني، والد مهسا، عن نيّة أسرته إقامة مراسم للذكرى الثانية لوفاة ابنته في مقبرة مدينة سقز في محافظة كردستان – إيران. هذا الإجراء أكده تقرير منظمة «هنجاو» الكردية، ومقرّها أوسلو. ولكن المسألة لا تحتاج إلى تقارير حقوقية لتأكيد أن السلطات منعت أهل مهسا من زيارة قبرها، إذ من الطبيعي أن تذهب الأُسر إلى المقابر لقراءة الفاتحة عن روح أحبّائها في المناسبات، فكيف في ذكرى الوفاة؟
وخوف السلطات من أن تُشعل الذكرى الشرارة مجدداً لاندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات، حمل الأجهزة الأمنية في المدن الكردية الواقعة غرب البلاد على تنفيذ اعتقالات في صفوف الناشطين السياسيين والمدنيين وأقارب ضحايا الاحتجاجات، في محافظات: كردستان، وكرمانشاه، وإيلام، وأذربيجان الغربية، وعلى إقامة نقاط تفتيش عند مداخل المدن.
لم تذهب عائلات الضحايا إلى المقابر ولا خرجت إلى الشوارع، لكنها دعت، وفي رسالة مشتركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى وضع وردة في أي مكان يحضرون فيه إحياءً لذكرى الضحايا. ولا أفلحت الضغوط في منع إحياء الذكرى بوسائل تعبيرية أخرى، وفي مقدمها الإضراب العام يوم الأحد في 15 أيلول/سبتمبر، حيث شهدت عدة مدن في كردستان إضراباً من قِبل أصحاب المحال والتجار استجابة لدعوات متعددة صدرت عن أحزاب وجمعيات ومنظمات، وأقفلوا محالهم رغم بعض التهديدات الأمنية أو محاولات تحطيم أقفال المحال لفتحها بالقوة. وأشارت منظمة «هنغاو» المعنية بحقوق الإنسان، إلى تنفيذ الإضراب في مدن سقز، ومهاباد، وبوكان، وديواندره، وسنندج، ومريوان، وأشنويه، وكرمانشاه، وقروه، وبيرانشهر.
تسجيل صوتي من سجن إيفين
الناشطة نرجس محمدي، المسجونة منذ العام 2021 في طهران، لنضالها ضد عقوبة الإعدام ولرفضها إلزامية الحجاب، والحائزة على جائزة نوبل للسلام في 2023 نشرت في حسابها على منصة «إنستغرام» تسجيلاً صوتياً من سجن إيفين لمجموعة من السجينات السياسيات وهُنّ يرددن أناشيد وشعارات، بمناسبة ذكرى الاحتجاجات، ومنها شعار «المرأة، الحياة، الحرية» وهتاف «إصلاحيون محافظون انتهت الحكاية» فضلاً عن شعارات أخرى تُطالب بإطلاق سراح السجناء ووقف الإعدامات.
وشاركت محمدي في إضراب رمزي عن الطعام إلى جانب 33 امرأة في سجن إيفين «تضامناً مع المحتجين في إيران ضد السياسات القمعية للحكومة». ودعت المجتمع الدولي إلى «كسر حاجز الصمت في مواجهة الاضطهاد والتمييز المدمِّـرَين اللذين ترتكبهما الحكومات الدينية والاستبدادية ضد النساء، عبر تجريم الفصل العنصري بين الجنسين». وكتبت في رسالة من السجن تناقلها مقرَّبون منها على مواقع التواصل الاجتماعي: «أدعو المؤسسات الدولية وشعوب العالم… إلى التحرُّك».
وشهدت مدن عدة حول العالم تجمعات ومسيرات، وخصوصاً في باريس، ولندن، ولوس أنجلوس، وواشنطن، ونيويورك، وتورونتو، وهامبورغ، وستوكهولم.
أمجد أميني، والد مهسا، اعتبر – في منشور له على «إنستغرام» – أنّ التضامن الواسع من قِبل التجَّار وأصحاب المحال والشعب في المناطق الكردية، وكذلك الإيرانيين في مختلف أنحاء العالم، يُمثِّـل «تحذيرًا ورسالة احتجاج واضحة للسلطات بألّا يتعرَّض أبناء الوطن للظلم، كما حدث مع مهسا وأمثالها». وقالت مجكان افتخاري، والدة مهسا، في رسالة لها: «إن أولئك الذين لا يتحملون رؤية جمال ابنة وطنهم… سيلعنهم التاريخ إلى الأبد».
وكان لافتاً البيان الذي أصدره اتحاد الكتَّاب الإيرانيين في الذكرى الثانية لـ«حركة الحرية» وفيه أنه لم يمر يوم من دون أن تمتلئ شوارع طهران بمظاهر المقاومة من النساء. في المقابل، واصل النظام طريق القمع والاختناق، ومارس سياسات القمع المستمرة، بينما لا يزال بعض المحتجّين في السجون، وتتعرض عائلات الضحايا لقمعٍ مستمر، بما في ذلك الضغوط الاقتصادية.
المشهد الجديد
ما نشأ بعد مقتل مهسا أميني جعل الحركة المُطالِبة بالحرية للشعب الإيراني، تمرّ بأصعب المنعطفات، متوقفاً عند «المشهد الجديد الذي بدأته الحكومة بعد الانتخابات الأخيرة»، متهماً السلطة بأنها لا تزال تسعى إلى «استمرار قمع الحريات»، وإقرار قوانين تجعل «التدخل في حياة الناس أكثر إمكانية».
ما يثيره متابعون لواقع تشكيل حكومة الرئيس مسعود بزشيكيان هو اختياره القائد العسكري والشرطي إسكندر مؤمني لمنصب وزير الداخلية، وهو شخصية جدلية بسبب خلفيته العسكرية وتعليقاته السابقة حول ضرورة فرض قواعد الحجاب الإلزامي. كانت آمال مَن انتخبوا بزشيكيان كبيرة بالرجل، كونهم اعتبروه من خارج منظومة المحافظين وأقرب الى النهج الإصلاحي، لكن ذلك الرهان قد لا يكون في محله، نظراً إلى أنه يُولي الولاء الكامل للولي الفقيه، ومحاط بمؤسسات يغلب عليها المحافظون المتشددون، وهو وإنْ أظهر بعضاً من الليونة في قضية إلزامية الحجاب، إلا أنها كانت تتعلق بكيفية التعامل مع هذه القضية وليس بأصلها.
وبشكل جليّ، خرج أحمد علم الهدى ممثل خامنئي في محافظة خراسان الرضوية الذي يعتبر أن الحجاب هو مخطط العدو لإسقاط النظام في إيران، ليعلن أنه يمكن للحكومة أن تقول إنها تفضِّل هذه الطريقة لمواجهة خلع الحجاب، ويمكنها استبدالها بطريقة أخرى، ولكن لا يمكن السماح بحرية خلع الحجاب.
وفق المنظمات الحقوقية، فإن النظام الإيراني رفع من منسوب استخدام عقوبة الإعدام كوسيلة لإسكات معارضيه، حيث أعلنت منظمة حقوق الإنسان الإيرانية أن ما لا يقل عن 100 شخص قد أُعدموا في إيران خلال شهر آب/أغسطس الماضي، مما يرفع عدد عمليات الإعدام التي نفَّذتها إيران في الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي إلى ما لا يقل عن 402 شخص. وأعربت 26 منظمة حقوقية في بيان مشترك عن قلقها العميق واعتراضها الشديد على وضع السجناء السياسيين المحكوم عليهم أو المهددين بصدور أحكام إعدام بحقهم في إيران، مشيرين إلى الجهود الواضحة والواسعة التي يبذلها النظام الإيراني للانتقام من انتفاضة «المرأة، الحياة، الحرية» واستمراره في قمع وخرق حقوق النساء في إيران.
وقالت منظمة العفو الدولية، في تقرير لها، أن مسؤولي النظام الإيراني ومرتكبي الجرائم ضد الشعب ما زالوا يفلتون من العقاب بشكل ممنهج. ولا يزال المواطنون في إيران يعانون من تداعيات القمع العنيف للاحتجاجات التي جرت في عام 2022، بينما يظل مرتكبو عمليات القمع هذه، التي توصف بأنها «جرائم» بموجب القوانين الدولية، بعيدين عن المحاسبة. وأنه بعد عامين من الانتفاضة ضد النظام الإيراني، زادت السلطات من انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وشنَّت «حربًا ضد النساء والفتيات» من خلال تصعيد القمع العنيف ضد مَن تخالف قوانين الحجاب الإجباري.
من أجل حقوق الإنسان
ولم ينسَ وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، إصدار بيان في المناسبة مؤكدين وقوفهم إلى جانب النساء والفتيات في إيران والمدافعين عن حقوق الإنسان عبر مختلف فئات المجتمع في معركتهم اليومية المستمرة من أجل حقوق الإنسان والحريات الأساسية. حيث قُتل ما لا يقل عن 500 شخص، واعتقل أكثر من 20 ألفاً خلال حملة القمع الوحشية التي قادتها قوات الأمن الإيرانية ضد مظاهر المعارضة في العامين 2022 و2023. ولكن تبقى الحركة الدولية موحدة على الرغم من ذلك. صحيح أن عدداً الدول الغربية أقروا بعضاً من العقوبات على مسؤولين في النظام الإيراني، لكن لهجة البيان المشترك بقيت طرية، إذ حضَّت الإدارة الإيرانية الجديدة على الوفاء بتعهدها بتخفيف الضغوط على المجتمع المدني في إيران ووضع حد لاستخدام القوة لتطبيق فريضة ارتداء الحجاب.
تجسيد في الرواية
أصبحت التظاهرات حول الحجاب وحادثة مهسا أميني مادة خصبة للرواية والأفلام لكتَّاب ومخرجين إيرانيين أو من أصول إيرانية، ولا سيما في ضوء تسليط مهرجانات سينمائية ودُور نشر ومعارض كتب الضوء على ما يحصل في إيران. وكان فيلم «الحقيبة الحمراء» قد رُشِّح للأوسكار العام الفائت عن فئة الأفلام القصيرة. وهو يحكي قصة فتاة شابة مسافرة من طهران تخلع حجابها وهي هاربة، فيما ينتظرها عريس مُفترض يكبرها بأعوام، حاملاً باقة من الورد. والفيلم للمخرج سيروس نشواد، وهو من اللوكسمبورغ لكنه من أصول إيرانية. وجاء اختياره في المرحلة ذاتها التي كانت تشهد تضامناً دولياً مع النساء الإيرانيات. وأخيراً صدرت في فرنسا رواية تحت عنوان «بدجنس» (Bedjens) ومعناها الفرد السيّئ – والمقصود هنا المرأة العاطلة – للصحافية في صحيفة «الفيغارو» والكاتبة الفرنسية الإيرانية دلفين مينوي. تحكي الرواية قصة امرأة من شيراز تسعى للعيش بحرية، وترى في التظاهرات سبيلاً لها لذلك، تماماً كما عبر اليوميات الصغيرة من الشِعر والغناء إلى أحمر الشفاه. وتتناول الازدواجية في العيش اليومي والظلم والبحث عن الحرية في المجتمع الإيراني الذي تعرفه الكاتبة من خلال عملها لسنوات في طهران.
في الثالث عشر من نيسان/أبريل الماضي، وقبل شهر من مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادثة تحطم مروحيته في 19 أيار/مايو 2024، أعلنت الشرطة الإيرانية عن بدء تنفيذ «خطة نور» الهادفة إلى فرض الحجاب والعفّة بجدية أكبر في الطرق والأماكن العامة كافة. يومها اعتبر الشارع الإيراني أن هذه العملية بمنزلة عودة شرطة الأخلاق والآداب، التي كانت غابت عن الشوارع لامتصاص موجة الاحتجاجات الأوسع والأكبر والأخطر منذ قيام الجمهورية الإسلامية. لكن مقتل رئيسي، الذي ترافق مع جملة من التحديات الداخلية والخارجية التي تضع مستقبل النظام برمته على المحك، قد دفع بالسلطات الإيرانية، في رأي المراقبين، إلى حيِّز التراخي بغية الاحتواء، وبقاء اعتماد «سياسة الاستيعاب» إلى حين تمرير العواصف التي تضرب المركب الإيراني من كل حدب وصوب.
وباختصار، رسمت الناشطة نرجس محمدي بكلماتها تفاصيل الصورة في الذكرى الثانية لحركة الاحتجاجات إذ كتبت: «رغم الطريق الصعب الذي ينتظرنا، نعلم جميعاً أن لا شيء يعود إلى ما كان عليه في السابق. يشعر الناس بأعظم تغيير في معتقداتهم وحياتهم ومجتمعهم. وهو التغيير الذي، وإن لم ينجح بعد في إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، إلا أنه هزَّ أسس الاستبداد الديني».