نجيب محفوظ: من «أولاد حارتنا» إلى «الحرافيش» بين الدين والحداثة

نجيب محفوظ: من «أولاد حارتنا» إلى «الحرافيش» بين الدين والحداثة
وينشي اويانغ | ترجمة: عبد المنعم الشنتوف
تبدأ رواية «أولاد حارتنا» ببعدها التمثيلي التاريخي حديثها عن الديانات التوحيدية وتاثيرها على الإنسانية وتنتهي باللقاء بين الدين والحداثة والعلم. ويمكن النظر إلى رواية ملحمة «الحرافيش» بوصفها تكملة لرواية «أولاد حارتنا» ونسخة دنيوية منها. وقد كتبت وفق أسلوب الحكايات أو السير الشعبية «الأزلية والهلالية». وهي تروي تحول البطريرك عاشور الناجي إلى أيقونة في سياق حكاية تحول أسرة من الفقر إلى الثراء. وسوف يكتسب عاشور الناجي في نهاية الرواية هالة قداسة ليشبه من ثم شخصية الجبلاوي الراشحة بالغموض والإلهام والحضور الملح.
يهتم محفوظ، في السياق نفسه، بكل أشكال الخضوع للسلطة ومقاومتها. كيف يجري الاستحواذ على السلطة وتصريفها والفكاك منها؟ ترتبط أعماله الروائية أيضا بالأفراد في سياق علاقتهم بالسلطة، التي تختلف بالنظر إلى رتبتهم الاجتماعية وطبيعة شخصياتهم ومستوى فهمهم. وقد تمرد فهمي في ثلاثية القاهرة ضد الاستعمار الإنكليزي والسلطة الأبوية، فيما كان ياسين يعاني من الحيرة والتخبط، فيما لاذ كمال بالتأمل الفلسفي. كان التنويع الهائل في شخصيات محفوظ منذ المرحلة الواقعية المبكرة مرورا بمرحلة تجريب التمثيل الصوفي والواقعية وإعادة كتابة النصوص العربية والأجناس الأدبية ما قبل الحديثة، خاضعا لتاثير وغواية السلطة، ويستوي في ذلك أن تتخذ شكل ثقل ووطأة السياسة، أو المنزلة الاجتماعية، أو التأثير المادي أو الرقابة النفسية والاجتماعية، أو الهيمنة الرمزية. تروي رواية «السراب» حكاية رجل عاجز عن مقاومة حيل ومناورات أمه، فيما تقدم رواية «اللص والكلاب» حكاية سعيد مهران الذي يقع ضحية لدسائس مثقف جائع للسلطة. وتعرض رواية «الكرنك» لنفسية الجلاد العصية على الاختراق.
تتسم مقاربة ومساءلة محفوظ للسلطة بتنوعها وتعدد أبعادها وقدرتها على القبض على العلاقة الجدلية والحوارية بين السلطة والذوات المرتبطة بها، سواء من حيث الامتلاك أو الخضوع.
يعيد نجيب محفوظ في رواية «ليالي ألف ليلة» صوغ وكتابة ألف ليلة وليلة ويسعى في سياقها إلى دمقرطة السلطة السياسية، التي ينظر إليها من خلال بعدين إضافيين: إعادة الاعتبار إلى شهريار بوصفه طاغية دمويا وتخليه عن العرش واتخاذ الشعب المبادرة بغاية المشاركة في الشأن السياسي. يكون السبيل إلى هذه السيرورة المزدوجة، أو بالأصح الدمقرطة غير المكتملة، من خلال بحث عميق يستلزم إعادة تقييم للموروث الثقافي العربي الإسلامي بشكل خاص. تقوم رواية رحلة ابن فطومة بمتابعة دقيقة للبنيات المعرفية التي تمثل أساس الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعمول بها في العالم وعبر كل الأزمنة والعصور. ولَم ينج العالم الإسلامي من نقده اللاذع. وعلى الرغم من وعد الله للمسلمين والقرآن بوصفه وحيا مقدسا، فإن الإسلام من حيث التطبيق فشل في تحقيق وضمان العدل للمسلمين.
لم يخجل نجيب محفوظ الذي نشأ نشأة إسلامية من أن يتخذ مواقف متناقضة. فقد حرص على تجنب الرقابة من خلال التمويه. ويمكن اعتباره والحالة هذه أستاذا. وهو يكتب حكايات رمزية وأمثالا، خصوصا في مرحلة كتابته ما بعد الواقعية. والأهم من ذلك أنه يرسم حدودا فاصلة بين المصرّح به والمسكوت عنه، والنظرية والتطبيق. تعتبر رواية «ثرثرة فوق النيل» نقدا لاذعا لفترة حكم جمال عبد الناصر وخلخلة لجذور جيل بكامله من الاستلاب السياسي، وأسلوب العيش المنحط. وتعتبر روايات «أمام العرش» و»يوم قتل الزعيم» و»العائش في الحقيقة» تمثيلات لأنور السادات وحسني مبارك، فيما تشكل روايتا «أولاد حارتنا» و»رحلة ابن فطومة» اللتان يفصل بين زمني كتابتهما أكثر من عقدين تمثيلين للإسلام بوصفه مؤسسة ثقافية يعتورها الفشل والإخفاق، تتمثل الغاية في أسطرة الماضي وتقديس التراث، سواء من حيث الشكل أو الذاكرة التاريخية للقديم ـ كيف يجري سرد تاريخ الإسلام أو السلطة الأخلاقية في الأخير؟ كيف يجري تدعيم وتقوية الإسلامية بمتن النصوص؟ ويساهم كل ذلك في تحديد أنماط التطبيق على المستويين السياسي والاجتماعي. يبدو يسيرا على الرغم من ذلك تقديم الإسلام بوصفه الأفضل. ويبدو هذا النمط من الفعل التوازني إجرائيا وفعالا في سياق محاكمة وإدانة رواية «الآيات الشيطانية» باعتبارها سبا وازدراء للإسلام وفتوى إهدار الدم التي أصدرها الخميني عام 1989. ولم ينفع الحرص الذي أفصح عنه من السعي إلى اغتياله عام 1994. وقد أفلت من الموت، لكن أعصاب يده اليمنى تعرضت لتلف كبير، بحيث لم يعد قادرا على الكتابة لأمد طويل. وكان من جراء ذلك أن اقتصر على تحرير مقاطع صغيرة. وقد تزامن ذلك مع ضعف بصره. ويفسر كل ذلك عزلته التي أفضت إلى توقف شبه تام عن الكتابة بعد 1989. وتعتبر «قشتمر» روايته الأخيرة المكتوبة بنفس سردي طويل. ويتضمن عمله «أصداء السيرة الذاتية» الصادر عام 1995 فصولا قصيرة جدا بحيث لا يتجاوز الواحد منها الصفحة.
يعتبر محفوظ من لدن العديد من النقاد والدارسين أب الرواية العربية. ولا يعزى السبب فقط إلى الطول الزمني لتجربته في الكتابة والاعتراف العام بفنه، وإنما بدوره الريادي في تكريس مركزية الرواية بوصفها شكلا تعبيريا جديدا في الثقافة العربية. ويذهب إلياس خوري في دراسته عن نجيب محفوظ إلى القول، إن الرواية العربية بوصفها شكلا أدبيا جديدا في الثقافة العربية انبعثت بفضل نجيب محفوظ وشهدت تحولا من صيغة نثر يفتقر إلى الشكل، ويزاوج بين لغة الماضي القديم وتجربة الحاضر، وعلى هامش انشغالات الكتاب عند منعطف القرن العشرين. ويمثل لذلك بطه حسين في سيرته «الأيام» وجبران خليل جبران في عمله «خليل الكافر». وفي الوقت الذي كان منشغلا فيه بصوغ وثيقة اجتماعية تهم تطور المجتمع المصري فقد قام بدمج الرواية في كتاباته في غمرة الفهم التاريخي للشكل الروائي الأوروبي. وقد اكسب بهذا الصنيع للرواية العربية تاريخا كانت تفتقر إليه.
تمكن نجيب محفوظ من أن يبدع شكلا روائيا يشتمل على دلالتين: معرفة المجتمع المصري، والبعد الطبيعي والواقعي الذي أتاح له أن يبدع تجربة ذات محتوى مصري وشكل أوروبي. غير أن نقطة التحول التي أبدعتها التجربة المحفوظية تتمثل في هذه الرحلة الطويلة صوب الصورة الوطنية من خلال مرآة الآخر. يقر إلياس خوري في سياق احتفائه بنجيب محفوظ بالفضل لتجربة التزامه الطويلة في تجديد بورتريه القاهرة والقاهريين. تعتبر القاهرة بمثابة متاهة من قوى التغيير والحداثة والكوزموبوليتية والتعقيد المتصارعة. وتتنوع وتتباين ردود أفعال واستجابة القاهريين العالقين في شبكات السلطة المتداخلة في هذه المدينة: القاهرة القديمة والجديدة، المدينة والعشوائيات. تقديس الطواغيت والمستبدين، الهيمنة الأبوية، العمل الخيري التطوعي، أو مكر النظام الأمومي، اجتناب المساس بالرموز الدينية، تقديس أبطال الماضي، وسائل وأدوات المراقبة الحكومية المسالمة، التجار التقليديون وصغار البورجوازيين والأغنياء الجدد، مجرمو الأحياء السكنية العشوائية الفقيرة، وهوامش البؤس والقوادون، أصحاب المقاهي والفلاحون، الوفديون والناصريون، الانتهازيون والأصوليون، أصحاب الطموح أو الخانعون، والمكتفون بالنظر والتأمل من رجال ونساء. تتيح لنا كل هذه الشخوص جدارية إنسانية غنية. يثير إلياس خوري الانتباه إلى القيمة التي يتسم بها أسلوب الكتابة عند محفوظ، الذي يقوم بالمزج بين أساليب الشعر والنثر العربية القديمة وأنماط الحكي العربي في الشكل الروائي. وقد تمثل ذلك في إعادة كتابته لألف ليلة وليلة واستثماره لأدب الرحلة والسير الشعبية أو السيرة التقليدية. ولعل هذه القيمة التي تسم الكتابة الروائية عند نجيب محفوظ هي التي منحت للرواية العربية حسب إلياس خوري هوية ومسارا خاصين وعبّدت الطريق لجيل جديد من الروائيين كي يخوضوا مغامرة البحث عن الشكل واللغة والموضوع.