ثقافة وفنون

أسمهان: دراما الكتابة ودراما الحياة

أسمهان: دراما الكتابة ودراما الحياة

إبراهيم عبد المجيد

هذا كتاب رائع عن أسمهان عنوانه «أميرة الحب والأحزان» للكاتب ماهر زهدي، إذا بدأت فيه لا تتركه من يدك. الكاتب تخصص في كتابة السيرة لمشاهير الفن. تختلف عن غيرها من السير في أنها تقدم كل شيء عن صاحبها في قالب درامي مثير للحركة والتأثير كأنه فيلم مرئي. من كتبه «نجيب الريحاني فيلسوف الضحك والبكاء» الذي كتبت عنه من قبل، وكتب أخرى عن لطفي لبيب وعبد العزيز مخيون ونعيمة عاكف وزينات صدقي وشادية وسيد مكاوي وفاتن حمامة وإسماعيل ياسين.
أدهشني أن هذه هي الطبعة الأولى للكتاب صادرة عن دار «بيت الحكمة» في القاهرة.
دهشتي جاءت من كلمة تقدير على غلاف الكتاب لكل من الكاتبين أحمد يوسف الناقد السينمائي، وكاتب المسلسلات الشهير محفوظ عبد الرحمن، وكلاهما رحل عن دنيانا. جعلني الأمر أسأل المؤلف كم طبعة صدرت للكتاب من قبل؟ ففاجأني بأنها الطبعة الأولى، وقد سبق ونشر الكتاب عام 2007 في حلقات في جريدة «الجريدة» الكويتية، وكانت هذه الكلمات من تعليقاتهما على الكتاب حين أعده للنشر.
لماذا تأخر نشر الكتاب إذن كل هذا الوقت؟ كانت الإجابة أنه أعطى نسخة للكاتب مكاوي سعيد لينشرها في دار «الدار» للنشر، التي كان يديرها مع محمد صلاح، لكن مكاوي مات ولم يُنشر الكتاب، فأصابه شيء من التشاؤم والحزن على مكاوي سعيد. لم يكن يتخيل أن يتم نشر الكتاب بعيدا عن مكاوي سعيد. كان سؤالي لأني تذكرت مسلسل «أسمهان» الذي أنجزه المخرج شوقي الماجري عام 2008 وأذهلنا وقتها. سألته هل ساهم في المسلسل فقال لا، لكن تاريخ نشر الكتاب مسلسلا في جريدة «الجريدة» أسبق من المسلسل بحوالي عام.
أحداث الكتاب كثيرة وشديدة الدراما تبدأ برحلة الهروب من بيروت للأم علياء بنت المنذر، ومعها آمال فهد الأطرش، أو أسمهان في ما بعد، وفريد وفؤاد الأطرش كانوا صغارا. هم أبناء فهد الأطرش الذي ينتمي إلى «آل الاطرش» التي لعبت دورا سياسيا كبيرا في الحياة السياسية في سوريا، وكانوا من أهم قادة الدروز أو «الموحدون» وهو اللقب الأحب إليهم. حياة الأب فهد الاطرش بين سوريا وتركيا، والحروب بين فرنسا وألمانيا ووصول فرنسا إلى جبل الدروز. دراما جميلة مع ميلاد أبناء علياء الأطرش، والطقس والحياة حولهم ومن أين جاءت أسماؤهم، ففريد ليكون فريدا وآمال لتكون أملا، وموت أختهم وداد وحزن الطفل فريد، وكيف قررت علياء أن تهرب بأطفالها إلى مصر خوفا من الفرنسيين من ناحية، ومن زوجها فهد الأطرش الذي كان قد طلقها وتزوج غيرها، ويريد أبناؤه منها في الجبل بينما هي في بيروت. يدق باب بيتها في بيروت في منتصف الليل وسط البرد القارص، فترتاع وتحتضن أطفالها وتسأل من بالباب. يأتيها الصوت «افتحي وستعرفين فليس هناك وقت». تفتح فتجد رجلا درزيا يخبرها أنه صدر أمر فرنسي بالقبض عليها وأولادها من فهد الأطرش، وعليها أن تهرب الآن، ولا تنتظر الصباح.

حوار يصور المشهد في دراما رائعة. تسرع إلى حيفا وتأخذ قطار فلسطين إلى مصر. تأتي نقطة الدراما الثانية حين تصل إلى منطقة القنطرة في سيناء، فيسألها رجل الجوازات المصري عن تصريح الدخول. لا تصريح معها. يسألها هل تعرف أحدا في مصر، فيقفز إلى ذهنها اسم سعد زغلول. تخاطر وتقول إنه يعرف عائلتها وعائلة الأطرش وزوجها فهد الأطرش في جبل الدروز. تتبدل لهجة رجل الجوازات ويذهب إلى أقرب تليفون يخاطب بيت سعد زغلول، فيأمره سعد زغلول أن يسمح لهم بالدخول، وكان ذلك في منتصف عشرينيات القرن الماضي. أتوقف عن الحكي هنا فبعد هذه البداية الدرامية تتالي الدراما في الحياة في القاهرة في أكثر من جانب. العمل لأمهم ذات الصوت الجميل في الغناء لإعالتهم وأيام فقر شديد. دراساتهم في المدارس وحبهم للموسيقى. غناء فريد ثم أسمهان. علاقة أسمهان بالصحافة ويأخذ محمد التابعي مؤسس مجلة «آخر ساعة» النصيب الأكبر، بل العظيم. يبدو لك قرينا لأسمهان. في كل المحن يسافر إليها حين تترك مصر أكثر من مرة إلى بيروت، أو القدس، ويقف معها بالرأي في محنها المتكررة، ومن الصعب أن تصدق أنه لم تكن بينهما قصة حب، فما فعله التابعي على طول حياتها دليل على حب عظيم لم يغادر قلبه. محنتها مع أخيها الأكبر فؤاد، الذي كان يراقبها في كل عملها الفني وكل خروجاتها، ويحاول منعها بالقوة والضرب عن الغناء والوسط الفني. زواجها أكثر من مرة بينها مرة مع الأمير حسن الأطرش وإنجابها ابنتها الوحيدة «كاميليا» منه وصراعه من أجل عودتها إلى جبل الدروز، وكيف عادت إلى الجبل وإلى بيروت ودائما تهرب وتعود إلى مصر. كيف طلقها ثم أعادها ثم طلقها لأنها لا تستقر إلا في مصر وفي عالم الفن والغناء. دراما تشتعل في مواقف مذهلة يصورها ماهر زهدي بلغة مرئية وحوار سريع يعكس أرواح أصحابه. حكايتها التي رددها الناس مع الملكة نازلي أم الملك فاروق، التي تزوجت من أحمد حسنين باشا وكانت تغير منها لظنها أن أحمد حسنين يحبها. زواجها من المخرج أحمد بدرخان والفنان أحمد سالم فاتن النساء الذي لم يطل. أسماء عظيمة في عالم الصحافة والفن مثل محمد عبد الوهاب ومصطفى أمين وأحمد بدرخان ومأمون الشناوي وغيرهم كثير جدا. غيرة أم كلثوم منها بينما لم يظهر ذلك لديها، أو من أم كلثوم، حتى تصل إلى الفاجعة الكبرى وهي موتها، أو قتلها فلا أحد يعرف الحقيقة. هنا تتجسد الدراما في سلوك أسمهان الغريب. فمع الحرب العالمية الثانية اقتربت من المخابرات الإنكليزية، ووجهت لهم النصائح للسيطرة والحضور في جبال الدروز، وطبعا أسماء عملاء المخابرات من الإنكليز وما عاد عليها من مال غيّر حياتها، لكنها كانت تنفقه بسرعة الحصول عليه.

ثم تأتي القفزة الأخرى وهي تعاون أسمهان مع الفرنسيين في مواجهة محتلي الشام منهم التابعين لحكومة فيشي، التي صارت في فرنسا بعد احتلال ألمانيا لها في الحرب العالمية الثانية. هكذا صارت تعمل في جهتين ليستا بعيدتين عن بعضهما حقا، لكنها مغامرة. تأتي المغامرة الثالثة وهي بداية تعاونها مع الألمان أنفسهم. وبين ذلك الأغاني التي قدمتها والفيلمان اللذان مثلتهما «انتصار الشباب» مع فريد الأطرش وإخراج أحمد بدرخان و»غرام وانتقام» من إخراج يوسف وهبي، الذي ماتت قبل أن ينتهي. تأتي فاجعة موتها قبل نهاية الفيلم وجدل كبير أثير حول موتها، فمن قال، إن وراءه أم كلثوم، ومن قال إن وراءه الإنكليز والفرنسيين بعد قربها من الألمان، ومن قال إن وراءه الملكة نازلي. لا أحد يعرف الحقيقة، لكن تظل الإشاعات عن أم كلثوم هي أضعف الحلقات.
ماتت أسمهان وهي تركب السيارة مع صديقتها التي لازمتها في مصر وخارجها كثيرا ماري قلادة، التي ماتت معها غرقا في الرابع عشر من يوليو/تموز 1944 كانت في سيارتها مع سائقها في الطريق إلى مدينة رأس البر. كان السائق يقود السيارة بسرعة مجنونة فسقطت في ترعة الساحل بينما قفز هو ولم يظهر بعد ذلك. عشرات الصفحات لا تكفي لايجاز الكتاب، لكن السمة البارزة على طول حياتها أنها منذورة للموت، ولا تخشى الذهاب إليه. آمنت برؤيا قارئ الطالع الذي قرأ كفها مبكرا وأخبرها أنها ستكون ضحية في الماء كما ولدت فيه. لقد ولدت أسمهان عام 1912 على ظهر سفينة أثناء عودة الأسرة من تركيا. عاشت لا تخاف الموت بل تذهب إليه. هذا هو سر تقلبها بين الرجال والبلاد وعدم استقرارها روحيا ولا ماديا، رغم الفرص العظيمة التي جاءتها في الحياة. هذه هي الدراما الغائبة عن سر التقلب في حياتها يجسدها ماهر زهدي أجمل تجسيد.

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب