مقالات

معاناة اهل غزة بقلم الباحث محمد حجازي -غزة

بقلم الباحث محمد حجازي -غزة

معاناة اهل غزة
بقلم الباحث محمد حجازي -غزة
مرت عشرة شهور، بل عشرة دهور، تئن منها الكواهل والظهور، ما أبقت لنا إلا صورة وهياكل، أثخنها خبز الطحين الأبيض والمعلبات السامة، بعد شهور عجاف، فيهن بضع أيام سمان، سرعان ما سُرقت وعاد الجوع بأضراسه يُقطِّع أمعاء الفقراء التي قرقرت: “نموت بالحرب ولا نموت بالجوع”، فيما اختزنها الداء، داء الموت ولا موت، داء الخوف ولا أمان، داء النزوح ولا قرار، داء انعدام الأفق، وسوء الخلق، وليالي القلق، وصباحات تتعلق بالأمل، أي أمل ولو كان كاذبًا ومكذوبًا، تنتظر خبرًا مُسكّنًا لاَلام الغلابا الذين أكلتهم النار، نار الحرب المُمَّولة بالصمت والخذلان، ونار الحطب التي خَمد جمرُها واستبدلت بكل ما يصلح للحرق، والحر الذي اشتد هجيره وتوقد سعيره في اَب اللهاب، فيما الماء بعيد، والسير إليه يُنذر بالسراب.
إنها الحرب، تطحن اللحم مع الحجارة، ويشتبك العظم مع الحديد، رؤوس متطايرة، بعيون ذاهلة، وشفاه مفتوحة تود نطق كلمة ما، ولو نطقتها لما وصلت أحدًا، ولو خرجت لأراحتها من عناء غصتها، وأطراف مبتورة، أقدام معلقة على الأعمدة، وأياد ملقاة على الأرصفة ودماء تلطخ الجداران ترسم لعنتها بخط أحمر، وملابس تدلُ بلونها على لابسيها مغيبي الوجوه والملامح، وأحذية يتكرمون بها لمن يحظى بنمرتها فيلبسها، ثم يتركها طائعًا لمن يخلفه متوجًا بالحذاء القتيل، وبقايا يلملمها الصغار، أكف وأصابع، اّذان، ظفائر، أمعاء. هل ترغبون بالمزيد، من يعش يروي، ومن يروي ربما يكفًّر عن ذنب شهادته على هذا الهولوكست المتحضر الذي نُشوى فيه لإراحة الكوكب من جنسنا البشري!.
أي حرب هذه تشبع فيها الكلاب الضالة من لحمنا المُلقى في الطرقات، فتصبح أكثر ضراوة؟ أي حرب هذه تعيدنا لاجئين إلى الخيام بعد 76 عامًا من نكبة 1948م، لتدور النكبة على رقاب أحفادهم، نكبة حقيقية لا تقارن بها جدتها النكبة، وبيوتنا عرائس مهروسة بين الركام، لم نهنأ بها ولم نكمل فرحتنا بين جدرانها؟ أي حرب هذه تستصدر أسوأ نسخة من ولاة النهي والأمر، والتجار الفجار والباعة معدومي الضمير في أسواق الحرامية، وأسواق الذهب أقصد الخضار التي تباع بالـ”غرام” للذين يملكون مالًا ودونهم الذين ينتظرون أن تكون بمستوى مظلوميتهم، وناهبي الممتلكات والخصوصيات، نهبوا البيوت وأهلها يُخرجونهم أشلاءً، ونَهبوا حلي النساء الشهيدات، فيما الأقارب الذين صاروا عقارب، والنسايب الذين تحولوا مصايب، والجيران الذين جاروا على بعضهم، والاخوة الذين تعادوا وتصارعوا على ما سرقوه وما طَمِعوا فيه؟ أي حرب هذه تَساوى فيها الحاكم والمحكوم، والظالم والمظلوم؟
هذه الحرب التي سُميَّت بالكاشفة أو الفاضحة، التي وقعت علينا، أو قعنا عليها، لا يهم، فقد وقع الصاروخ في الرأس، ولا فائدة الاَن من الأسئلة التي قتلتنا بحثًا عن إجابتها المفقودة أو المُغيّبة أو الغيبية: لماذا وكيف وما الهدف وما النتيجة وإلى أين سنصل، وحالنا ما بعد وكيف كان قبل، ونحن مكشوفي الظهر، وسوى الروم خلف ظهرك روم. تلك الأسئلة التي تطرق رؤوسنا المثقلة، كلما اصطففنا لطابور مياه الشرب أو الغسيل والاغتسال كلاهما سواء، أو المساعدات التي يصلنا منها الفتات، أو التكيات المسروقة تَسوِّلا باسم الناس ومنحهم ماءً وصلصة، وسيارات الماء “المفلتر” كذبًا وزورًا، تلصق بها بوسترات الشكر للمتبرعين، سيارة واحدة لعشرين مُتبرِّعًا!. لقد جربنا الحرب سنوات وسنوات، وعلمنا مبتدأها وخبرها، وفعلها وفاعلها ومفعولها وجارها ومجروها والمضاف إليها من عمرنا الضائع، فأين نعرب دماء أربعين ألفًا حظيت بأسمائها، وعشرين ألفًا لا بواكي لهم، لم تتعب الرحى من طحنهم ولم يتوقف النهر عن الطوفان، فأين نصرخ بجملة مفيدة يسمعها شعبنا والعرب والعجم والكرد والبربر والعالم الدجال الأعور.
هذه الحرب ستمضي، كما مضت غيرها، وما أسهل أن نبني البنيان ونُعمِّر البيوت ونرصف الطرقات، وما أسرع أن تعود الحياة وتنفض الشوارع غبارها وتغسل زينتها بالندى وتدفئها بالشمس، وينمو الزيتون والليمون والبرتقال في أرضه التي لن تخذله، فالخبيزة والبقلة والملوخية أشبعتنا في زمن الحرب، حتى قيل: “لنضع شعارها على علمنا” وفاءً لها، وستخرج الوردة من أشواك الشظايا، والغصن يخنق القذيفة القاتلة، والأوراق تستر الخراب، والثمار جائزة الحالمين بالأمل والمحرومين منه، وما أهون أن ننسى البلاء، فمن عاش يعش سعيدًا، ومن مات يمت شهيدًا، والكل على طابور الانتظار، لكن ما أصعب أن نبني الإنسان المهدوم وملعون من هدمه، وأن نبني كرامته التي أهينت، ومشاعره التي كسرت، وكبريائه الذي تساقط ليستر زوجته من الهواء المتلصص، أو يُسكت طفله بعلبة حليب أو ماء بلون الماء، أو يداوي جرحه النازف في خوالج الذاكرة، أو يواسي نفسه بأن تتوقف الحرب في يوم ما، أو في شهر ما، أو سنة ما. توقفي أيتها الجريمة، توقفي برب الشهداء والأموات في مسالخ الاعتقال، ورب اليتامى والأرامل، ورب العجائز الذين يشفقون على أبنائهم وصغارهم، قالت جدتي المرحومة أم عاطف التي شهدت من الحرب أربعة شهور: “يا ريت أكون فداكم، أموت وتعيشوا انتو”.
أنا الموقع أدناه، الصامد في الشمال، ولولا أهلنا وشعبنا الذين قبضوا على جمرة صبرهم وصمودهم وعزيمتهم وجوعهم وعطشهم وخوفهم وفقرهم ونزوحهم وتشردهم ومرضهم وضعفهم وقيلة حيلتهم لما بقي الشمال شمالًا، الذين أكلوا أعلاف الدواب، وطرقوا كل الأبواب، وفتشوا في كل ما يسكت عواء بطونهم، حتى قُتِل فلذات أكبادهم وهرسوا تحت عجلات الشاحنات، ومظلات المساعدات المهينة. الذين تركوا يصرخون ملء الدنيا “هل من ناصر ينصرنا”، ينامون بلا غطاء في أيام الشتاء تحت مطر الماء والغربان القاتلة، ويستيقظون لجلب الماء والحطب وشحن البطاريات، هذا جدول صباحهم، ويخشون من الغروب، فالليل قادم مُحمَّلٌ بالرعب والبحث عن مكان اَمن، وفي طريقهم نحو ما يسمى بالإيواء، ينال منهم الموت ما يشتهي، ثم حل عليهم الربيع مُجدبًا، لم تزهر الزهور، فكفى برؤوس الضحايا التي أزهرت من دم النحور، ثم جاء الصيف سيفًا مسلطًا على أفران الخيام، التي تمتد من الشمال إلى الجنوب، حالهم واحد، وأجسادهم تنهشها الحشرات وتمر من بينها القوارض، وبانتظار الخريف فمن تسقط أوراقه أولًا، على أعتاب الذكرى الأليمة.
أولئك الشماليون الذين زلزلوا من فوقهم ومن أسفل منهم، بالأحزمة النارية والبراميل المتفجرة التي مسحت المربعات الكاملة – كنت شاهدًا على مسح حارتنا “حارة السنايدة” في بلوك 6 بمخيم جباليا، وتبخر وفقدان المئات من عوائلنا وإلغائهم من السجل المدني- والقذائف المدفعية وقنابل الصوت والدخان والارتجاج، قصفًا ونسفًا من الجو والبر والبحر. هربنا من الموت إلى الموت، إما أن نموت أو نعيش معًا، لا خيار ثالث. جمعنا عظام أحبتنا البيضاء، مسحنا عليها بأكف حمراء، توجناها بجماجمها الذهبية، لا وقت للبكاء لا جدوى بالرثاء. حين تنتهي الحرب سنبكي كثيرًا، كثيرًا سنبكي على الشهداء، وسنعطي قتلانا حصتهم العزيزة من العزاء، ونصنع لمن لا قبر له، شاهدًا في مقبرة الذاكرة “عاش الحرب، راجيًا النجاة، ليروي قصته في المدينة اليتيمة”.
أكتب إليكم أصدقائي، بعد شهور طويلة من الانقطاع، ما زلت على قيد هذه الحياة بكل ما قيل ويقال وسيقال عنها، متمسك بها، أرفض الموت الرخيص، ألعن القاتل والمأجور، وأبصق في وجه الذين سرقونا وضيعونا وخذلونا وتركونا ألف بصقة وبصقة. لقد دفعنا الضريبة كاملة من دمنا ومالنا وأمننا ومسكننا. لا أعلم، إن كنت سأكتب لكم مجددًا، ما كتبته وأكتبه أحتفظ به، ربما يخرج للنور يومًا، لكن خط الانترنت سيء، أضطر للخروج إلى منطقة أخرى، والحصول عليه بسعر شيقل للساعة الواحدة، وفي أحسنه ثلاثة شواقل “دولار واحد” تقريبًا، وكم مال تبقى حتى يدفع لانترنت نصعد على مسرحه، ونروى هذه التراجيديا، ويتضامن المتفرجون وربما يتأثرون، وقليل منهم يبكون، وتُقلب الصفحة لما هو أكثر إثارة وفائدة، دعونا في هذا القاع الذي وصلنا له أخيرًا، نتسلح بالصبر والصلاة، ونَعدُّ الأيام التي عشناها كإنجاز تاريخي، وننتظر الاَتي بقلب منفطر وعين مطفأة ورأس مرفوع وروح تقاتل حتى اَخر الطريق.
كُتبت على عجالة، فاعذروا أي إطالة، أو خروج عن النص، أو إساءة للذوق الرفيع!
والسلام عليكم لا الحرب عليكم
أخوكم وابنكم/ محمد حجازي
20 اَب/ أغسطس 2024م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب