مقالات

بين داكار وباريس: توضيح بمعروف وتسريح بإحسان

بين داكار وباريس: توضيح بمعروف وتسريح بإحسان

مالك التريكي

يبدو أن الفرحين من العرب والأفارقة بنهاية النفوذ الفرنسي في افريقيا الغربية لا يهمهم أن البلدان التي أغلقت قواعد فرنسا وطردت جنودها لم تسترجع سيادتها الوطنية كما تزعم، أو كما يتوهم الكارهون للاحتلال إذا كان غربيا مع تغاضيهم عنه إذا كان غير غربي. وإنما استعاضت عن الوجود العسكري الفرنسي بتدخل عسكري روسي ميليشياوي التركيب نظامي التمويل وذي صيت ذائع في مجال المذابح والفظائع، فضلا عن أن هذه البلدان قد وقعت تحت نير طُغَم عسكرية لم تأت إلى الحكم بخيار الانتخاب بل بسلاح الانقلاب.
كما يبدو أن الذين يتذكرون أن مالي قررت تطليق فرنسا (والتطليق الأحادي المتشنج غير الطلاق التفاوضي المتأني) بعد الانقلاب العسكري المزدوج في 2020 و2021، قد نسوا أنه لم يكن في تلك البلاد قبل 2013 أي جندي فرنسي! ذلك أن مالي هي التي استنجدت بفرنسا، في إطار طلب أيدته جميع حكومات إفريقيا الغربية، لصد هجمات الجماعات الإرهابية التي يسميها الإعلام الغربي إسلامية أو جهادية، تجنيا على الإسلام والجهاد، والتي كانت على وشك الزحف على باماكو التي لم يكن الجيش المالي بقادر على حمايتها، فأنجدها الرئيس فرانسوا أولاند بستة آلاف جندي. بل إن أولاند ذهب إلى باماكو وألقى خطابا غير مسبوق اعترف فيه بجرائم الاستعمار الفرنسي ونادى بوجوب إعادة بناء العلاقة مع إفريقيا الفرنكوفونية على أسس جديدة. ويتشابه الوضع اليوم في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد من حيث استيلاء العسكر على الحكم والاستعاضة عن الوصاية الفرنسية بالوصاية الروسية تأبيدا بذلك لمواريث التبعية والتفريط في السيادة.

تجاهلنا نحن العرب حقيقة أن ما تنعم به السنغال من استقرار منذ عقود إنما هو من ثمرات سياسة التعقل والاعتدال والحكم الليبرالي. وقد أوقعنا التجاهل في الجهل لأننا لم نتعلم منها شيئا

إلا أن الوضع في السنغال مختلف تماما. ذلك أن إعلان الرئيس باسيرو ديوماي فاي أواخر نوفمبر عن قرب إغلاق القاعدة العسكرية الفرنسية في داكار إنما يندرج في سياق منطق من النضج الوطني والسياسي الذي لا مجال فيه لنوبات النكاية أو الكراهية. سأله صحافي لوموند عن الوجود العسكري الفرنسي في السنغال فقال باستنكار واثق هادئ: «كم يوجد في فرنسا من جندي سنغالي؟ وكيف يمكن التوفيق بين وجود القوات الأجنبية وبين الاستقلال؟ بما أن فرنسا لا تقبل هذا على أراضيها فإنه لا يسعها أن تفرضه على الآخرين. نحن الآن في طور صياغة عقيدة تعاون عسكري لا مكان فيها لحضور روسي أو فرنسي أو أمريكي أو إماراتي (..) ليس لدينا قاعدة عسكرية في الخارج، فمن الطبيعي إذن ألا نقبل عناصر أجنبية على أراضينا».
إنه توضيح سياسي مقنع بأن أوان الفراق التاريخي قد آن. توضيح بمعروف وتسريح بإحسان!
أما أقوى علامات مراجعة العلاقة مع فرنسا على أسس جديدة من التعاون المدروس والتحالف النقدي فهي أن الرئيس فاي حرص على إحياء ذكرى المذبحة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في ثياروي، قرب داكار، قبل ثمانين عاما، والتي ظلت فرنسا تصر لعقود على تسميتها مجرد «تمرد» قبل أن تقبل على لسان أولاند بتسميتها واقعة «قمع دموي» ثم تعترف على لسان ماكرون بأنها مجزرة. ولهذه المجزرة، التي وقعت يوم 1 ديسمبر 1944، في الوعي الوطني السنغالي مكانة مماثلة لمكانة مذبحة سطيف يوم 8 مايو 1945 في الوعي الوطني الجزائري. وقصتها أن عشرات آلاف السنغاليين قد جندوا للقتال في فرق رماة الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن كثيرا منهم أسروا مع رفاق السلاح من المغاربيين والفرنسيين، ولم يقع تحريرهم من المعسكرات النازية إلا في نوفمبر 1944. وعندما عادوا إلى السنغال كان في حسبانهم أنهم سيحصلون على مستحقاتهم التي لم يتقاضوها طيلة أعوام، ولكنهم فوجئوا بأن السلطات العسكرية الفرنسية قررت تسيير قطارات ترجع بهم إلى قراهم وأريافهم بدون دفع مليم واحد لأي منهم (علما أن الجنود الفرنسيين تسلموا أجورهم غير منقوصة). عندها ثارت ثائرة الجنود السنغاليين ورفضوا مغادرة ثكنة ثياروي إلا بعد نيل حقوقهم. فما كان من الضباط الفرنسيين إلا أن أطلقوا النيران فأردَوْا 35 سنغاليا، حسب الرواية الرسمية الفرنسية، ولكن المؤرخين يقدرون عدد القتلى بالمئات.
هذا، ولطالما تجاهلنا نحن العرب حقيقة أن ما تنعم به السنغال من استقرار منذ عقود إنما هو من ثمرات سياسة التعقل والاعتدال والحكم الليبرالي. وقد أوقعنا التجاهل في الجهل لأننا لم نتعلم منها شيئا رغم أنها بلاد قريبة منا قرابة الدين والتاريخ والجوار.

كاتب من تونس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب