غزة والضاحية أولى بالهتافات من الطماطم «العيش» يفوز على الحرية والدولار يسحق العدالة الاجتماعية

غزة والضاحية أولى بالهتافات من الطماطم «العيش» يفوز على الحرية والدولار يسحق العدالة الاجتماعية
حسام عبد البصير
القاهرة ـ ذلك الهتاف الذي كان محبباً للجماهير حتى سنوات مضت «عيش حرية عدالة اجتماعية» حينما كان الدولار متوقفاً في حدود سبعة جنيهات خفت داخل الأذان رويداً رويداً، حتى إذا ما كسرت الورقة الخضراء عتبة الخمسين جنيهاً بات المواطن ثائراً كان أو راضياً بالأمر الواقع، منهكاً في عجلة البحث عن عمل إضافي لعله ينجح في تلبية المطالب الدنيا لأسرته ولا يهرب حينما تلاحقه «أم العيال» بلسانها المشدود على آخره بمصاريف البيت وقيمة فواتير المياه والكهرباء والاتصالات وقيمة الإيجار الشهري، بالنسبة لملايين العائلات التي تواجه الكثير من الأعباء بسبب ارتفاع قيمة إيجار الشقق لمستوى غير مسبوق بعد أن حل قرابة تسعة ملايين سوداني بين يوم وليلة ضيوفاً على المصريين فأشعلوا قيمة الإيجارات لما يزيد على ثلاثة أضعاف، ما جعل أمل الزواج بالنسبة لملايين المصريين حلما لا سبيل للوصول إليه، فضلاً عن هم توفير ثلاث وجبات قلصتها كثير من العائلات لوجبتين بعد ترحيل وجبة الغداء ما بين الخامسة والسابعة مساء لإلغاء وجبة العشاء لمواجهة الغلاء الذي لم يعد يرحم فقيراً ولا ثرياً. في ظل ظروف قاسية كتلك يصبح الحديث عن الحريات والإنخراط في عملية التغيير السياسي بالنسبة للكثيرين محاولة شبه مجنونة وضرباً من الهذيان، فقط رياح الحرية ليس بوسع ثائر عاطل عن الهتاف أن يتنفسها سوى في جزيرة الوراق، التي شهدت مؤخراً أحداثاً عاصفة حيث يخوض عشرات الآلاف من أهالي القرية صراعاً للتمسك بأرضهم وديارهم وعدم النزوح إملاء لرغبة أي طرف أو جهة.
كان حلما وراح
ذلك الهتاف الذي كان ملهماً للملايين غداة ثورة الخامس والعشرين من يناير خفت، إذ بات الربيع العربي غير محتمل في ظل وجود سلطة غير مرحبة بأي حراك من أي نوع معتبرة قوائم الأوليات من وجهة نظرها يتجسد في جمهورية جديدة يتطلب تشييدها حالة من السكون، ومعتبرة أن مطالب التغيير ليس وقتها الآن، لهذا لم تحتمل رئات المصريين استنشاق رائحة التغيير ذو الكلفة المرتفعة بالنسبة للداعين إليه خاصة وأن كثيرا من رموز وشباب يناير ما زالوا يقبعون في انتظار أن تشملهم قوائم العفو الرئاسي عبر أي صيغة، بينما السواد الأعظم من المواطنين بات همهم شبه الوحيد سد الأمعاء الخاوية والتي تتطلب الانقضاض على سوق العمل بحثاً عن وظائف إضافية من أجل سد الهوة السحيقة بين الأجور والنفقات، والتي زاد من اتساعها بشكل غير مسبوق تردي وضع العملة الوطنية التي باتت في أشد حالاتها ضعفاً، ونجم عن ذلك للأسف تآكل الطبقة الوسطى بفعل غياب شمس العدالة الاجتماعية وبسبب الغلاء الذي يشوي الجيوب ولا يمنح الفرصة لأحد باستدعاء الأمل. فبعد مرور ما يزيد على ثلاثة عشر عاما على هتاف المصريين بالحرية والكرامة الإنسانية، باتت مجموعة صغيرة يتركز في يدها المال والثروة. الدكتور مصطفى مدبولي الذي تعد حكومته الأطول عمراً يصر على أنه ليس بالامكان أبدع مما كان، وأن المستقبل يحمل الكثير من الإنجازات وأن البلاد تشهد نهضة شاملة في كافة المجالات، كافة ليس بوسع أحد أن ينكرها، وهو ما ترفضه ما تبقى من قوى المعارضة جملة وتفصيلا. وبمرور الوقت أصبح قطاع عريض من المصريين على يقين بأن شعارات ثورة الخامس والعشرين من يناير التي يحفظها الصغار كما الكبار ليست صالحة للتداول، في ظل تأميم الميادين فضلاً عن نجاح الآلة الإعلامية للسلطة على مدار السنوات التي تلت خلع حكم الإخوان المسلمين بعد ثورة شارك فيها الملايين في الثلاثين من حزيران/يونيو عام 2013 أسفرت عن ردم شعارات ثورة الخامس والعشرين من يناير بجميع أحلامها بعد إقناع معظم البسطاء بطول البلاد وعرضها أن سبب حالة الضنك التي يواجهونا يتجسد في ثورات الربيع العربي الخالد، لأجل ذلك فقد شعار عيش حرية عدالة اجتماعية، مع الوقت بريقه ولم يعد قابلاً لجذب الملايين الغفيرة التي كانت حناجرها تهتف قبل أعوام غير عابئة بتغول سلطة ولا بطش قوة ما.
تلك المطالب التي سبقتنا إليها العديد من شعوب العالم ما زالنا بعيدين عنها كل البعد، هذا ما يعترف به رموز الثورة والكثير من رموز القوى الوطنية بسبب الحقائق التي باتت راسخة على الأرض متجسدة في حالة اللهاث التي أصابت السواد الأعظم من المواطنين باحثين عما يقيم الأود لا غير، إذ تركزت الثروة في أيدي حفنة لا تذكر ممن يطلق عليها بـ«كريمة المجتمع» وأحدثت ردة واسعة في وجدان الكثيرين من من تبقى حلمهم بالثورة قائماً. وحينما شرع العقلاء من نخب المثقفين والسياسيين يطلقون التحذيرات للحكومة بضرورة التصدي للغلاء ومحاصرة نيران الغضب المتراكم في الصدور بسبب فشل السواد الأعظم من المواطنين في تدبير احتياجاتهم الضرورية للبقاء على ظهر الحياة لم تصل في الغالب تلك الصرخات للحكومة التي قضت معظم فصل الصيف في العلمين، بينما يصر رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي على التمسك بزمام الأمل ويرفض بث اليأس مشدداً على أن الأيام المقبلة حبلى بمزيد من المبشرات بعبور المحنة وإن طالت المعاناة.
لمن لا يملكون
ليس بوسع معارض أن ينكر حركة العمران الواسعة التي تشهدها البلاد، حيث هناك زخم واسع لبناء مزيد من المدن الجديدة، وإذ ظل الرأي العام ينتقد إهمال الفقراء من تلك الخطط التي تستهدف من ورائها الحكومة تشييد بناء فاخر باستثناء تجمعات نادرة كالأسمرات، أصغى مجلس الوزراء مؤخراً لتلك الانتقادات بخصوص تلك المطالب وتعهدت بالفعل الحكومة على عاتقها أو هكذا زعم المجلس نيته إنشاء تجمعات شعبية في العديد من المحافظات. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه من أين سيدفع ملايين البسطاء أقساط تلك الشقق عالية الثمن رغم انها في قلب الصحراء؟
ومن المخاوف التي تعتري القطاع الأكبر من المواطنين فقدان الدعم العيني والذي يمثل بالنسبة لهم أداة مهمة للتغلب على أعباء الحياة خاصىة بالنسبة للخبز المدعم. وتشهد الأوساط السياسية والبرلمانية نقاشاً واسعاً حول جدوى استمرار الدعم العيني أو استبداله بدعم نقدي. وبدوره أشاد رجب محسن جلال نائب رئيس الحزب الناصري بالتفكير في التحول للدعم النقدي مشيرا إلى أنه سيساهم في تجنب التلاعب المستمر بالسلع التموينية ويمنع استغلال بعض «البدالين» وهو المسمى الذي يطلق على بقالي السلع التموينية الذين يستخدم نفر منهم السلع في أغراض أخرى ويمنعون وصولها لمستحقي الدعم. وأشار جلال إلى أن التحويل للدعم النقدي سيوفر مبالغ طائلة للخزانة العامة للدولة، كما أن قطع الدعم عن غير المستحقين يضمن وصوله إلى يد المواطنين المستحقين، مشددًا على ضرورة تكاتف الشعب ومراعاة الظروف الاقتصادية، خاصة في هذه المرحلة الانتقالية والتي لا بد منها لنعبر إلى بر الأمان. ودعا جلال لضرورة وضع بحوث مفصلة حول المستحقين الفعليين للدعم لغلق المجال أمام الاختلاس والتلاعب، لافتًا إلى أنه لضمان وصول الدعم لأصحاب الأولوية من المواطنين، يلزم الفرد شخصيًا بالحضور لصرف الدعم عن طريق البطاقة الشخصية، وللحالات القعيدة، أو غير الممكن عليه الذهاب للاستلام فيجب تعيين موظفين مختصين بتوصيل الدعم للمنازل بالتعاون مع وزارتي التضامن الاجتماعي والتموين. واعترف نائب رئيس الحزب الناصري بوجود صعوبات تقع على عاتق وزارة التموين، لأنها مقيدة بعدد من الموظفين ومن الصعب تعيين موظف مختص في كل موقع لصرف السلع التموينية لمراقبة ومراعاة الأمانة في عملية التوزيع.
ليتها تنجح
تهدف مبادرة «بداية جديدة لبناء الإنسان المصري» التي انطلقت بتوجيهات رئاسية، الاستثمار في رأس المال البشري من خلال برنامج عمل يستهدف تنمية الإنسان والعمل على ترسيخ الهوية المصرية. ويأتي ذلك في إطار الاهتمام ببناء الإنسان المصري، وفي ضوء توجيهات رئيس الجمهورية، وتتمثل أهداف المبادرة الرئاسية «بداية جديدة لبناء الإنسان المصري» في تحقيق رؤية مصر 2030 وبرنامج التنمية المستدامة في الصحة والتعليم والثقافة والرياضة، وتوفير فرص العمل بشكل تكاملي بين جهات الدولة والمجتمع الأهلي. كما تستهدف المبادرة تحسين جودة حياة المواطنين في جميع المحافظات، وكذلك تقديم خدمات وأنشطة وبرامج متنوعة مستهدفة كل الفئات العمرية. ومن أبرز أهداف المبادرة تحقيق عدالة توزيع وكفاءة تقديم الخدمات والأنشطة التي تستهدف المواطن مباشرة. وتطمح الحكومة من وراء المبادرة كذلك الاستفادة من الموارد المتاحة لتعظيم الفائدة التي تعود على المواطن ويشعر بها سريعًا فضلاً عن تعزيز المهارات البشرية وتطوير الخدمات الحكومية وتعزيز دور القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني في تقديم الخدمات بالإضافة لخلق أجيال صحية رياضية تتمتع بالثقافة وتحافظ على القيم والأخلاق والمبادئ بدعم الأزهر والكنيسة والأوقاف، وخلق أجيال قادرة على الإبداع والابتكار والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة. وتهدف المبادرة أيضاً تطوير البنية التشريعية وتحديثها وضمان الحماية الاجتماعية وتطوير المجتمع المحلي.
غزة أولى
يرى كثير من قيادات العمل الثوري فضلاً عن نقابيين وكذلك ثوار كثيراً ما هتفوا برحيل الرئيس الراحل حسني مبارك، أنه في الوقت الراهن يبدو من الأهمية بمكان أن تتوجه الحناجر نحو دعم غزة التي يقاتل أهلها وكذلك الضفة وبالتأكيد لبنان الذي يواجه حربا تتماهى مع سمات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بدلاً من المطالبة بالتغيير السياسي في القاهرة، إذ أن التصدي للحرب التي يشنها الكيان الصهيوني بمباركة أمريكية واضحة لكل ذي عينين، وعلى الرغم من أن السلطات تحول دون عودة الحراك للميادين خشية خروج الأمور من عقالها، وعلى الرغم من قرب مرور العام الأول من الحرب، إلا أن السكون هو العنوان العريض بالنسبة للعديد من العواصم العربية وفي القلب منها كذلك القاهرة، على النقيض من عواصم العالم في الغرب التي شهدت فعاليات واسعة تنديداً بإبادة الشعب الفلسطيني وهو الأمر الذي يثير الشعور بالمرارة تجاه الغزاويين وأخوانهم في الضفة الغربية لكون العالم العربي وكذلك الإسلامي ما زال يغض الطرف عن المذابح التي يتعرضون لها بشكل يومي فيما تظل الحناجر العربية خارج نطاق الخدمة. الشائعات لا تنتهي بشأن حظر المظاهرات في عدد من العواصم العربية، ويذهب البعض للتأكيد على أن سبب تأميم الشوارع والميادين في أغلب العواصم سببه مخاوف الأنظمة من جلب الغضب الأمريكي عليها، إذ تنظر واشنطن للحرب التي يشنها الكيان على قطاع غزة والضفة وكذلك لبنان والتي تعتبرها حربها الخاصة وإن زعم الرئيس الثمانيني بايدن عكس ذلك. إذ يتواصل منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر الماضي تدفق أحدث أنواع السلاح والقنابل الغبية زنة الألفي رطل والتي تهطل على الملايين من أهالي قطاع غزة والضفة والجنوب اللبناني والضاحية بدون أن يجرؤ العالم على إجبار سفاح الكيان على الكف عن إزهاق مزيد من أرواح الأبرياء.
ويبدو أن الرأي الأكثر وجاهة ويتبناه المنتظرون على أرصفة الأمل أن غزة ومن خلفها بيروت أولى بالهتافات والصراخ عن كل من سواهما على الرغم من تسجيل «البندورة» سعر خمسين جنيهاً في بعض المدن المصرية مؤخراً.
القدس العربي