في رواية «خيط الروح» للمغربي مبارك ربيع… المتخيل الشعبي مرآة للواقع
مصطفى عطية جمعة
مدهشة أحداث رواية «خيط الروح» للروائي المغربي مبارك ربيع، الصادرة عن المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء 2015، حيث تتناول محورين أساسيين؛ زماني ومكاني، فأما الزماني فهو إعادة قراءة الماضي الشخصي وماضي الوطن من منظور أحد المناضلين القدامى، الذين ضحوا بحياتهم وسنوات شبابهم حالمين بتغيير الوطن.
وأما المكاني فهي قرية من إحدى قرى المغرب وهي «تازودانت» وواضح من الاسم أنه يعود إلى اللغة الأمازيغية، ومثل هذا الاسم منتشر بكثرة في القرى الواقعة في الريف المغربي، بين جنبات جبال أطلس المتنوعة في تضاريسها، وما تحمله من مظاهر الطبيعة الخلابة؛ من غابات وأنهار وقمم وهضاب، ومزارع ومراعٍ ممتدة، وهذا نلمسه من ثنايا الوصف على امتداد صفحات الرواية الطويلة.
تميزت هذه القرية بوجود موقع أثري يضم بقايا الديناصورات التي سكنت في هذا المكان منذ أعماق التاريخ، فهو مقصد للبعثات الاستكشافية الأثرية، خلال عقود طويلة، كما أن القرية فيها متحف يعرض ما تم العثور عليه من رفات الديناصورات، وفيها أيضا مقابر للبشر الذين سكنوا فيها من قبل، وفيها أيضا مقرات للبعثات الأثرية، العاملة في مواقع بعينها، وتمخر سياراتها الطريق للقرية مثيرة الغبار، وهذا أمر مألوف لدى سكان القرية، وهم ينشطون في عملهم اليومي في الزراعة أو التحطيب، أو رعي الماشية، وهناك قوة أمنية تحمي الباحثين.
السرد في الرواية
وفي «تازودانت» نلتقي مع شخصيتين، تمثلان خطي السرد في الرواية، الأولى شخصية «الفكّاوي» والثانية شخصية «يمود». فالأول حكاء شعبي يتنقل بحكاياته في الأسواق والبيوت والتجمعات الشعبية المسماة «حلقات الفرجة» يشبه في طريقة سرده رواة السير الشعبية قديما، حيث الحكي المنمق باستخدام السجع، وذكر أطراف من سير القدامى. إنه أحد أبناء «تازودانت» ولديه حس سياسي يميل للاشتراكية، ولكنها اشتراكية فطرية، فلم يقرأ عن المذاهب السياسية، وإنما تحرك وسط الناس بحسه الإنساني العالي ورغبته في مجتمع فاضل، إنه صاحب قضية تتمثل في نشر العلم بين الناس، وإفادتهم وإرشادهم إلى منابع العلم والحكمة في الحياة، لذا يترنم بأبيات شعرية فيها:
غاص فيبحر جهال النصوص
وكل ثقيل يغوص
غشيم غبي عشي
وما درى وفي قعر البحار الفصوص
فرسالة الرواية الأساسية هي نشدان الحقيقة والعلم والمساواة، فالفكاوي لم يسع إلى مال أو جاه أو ممتلكات، وإنما يجاهد ضد الظلم، وضد طبقة الملاك المتحكمين في أرزاق «العمال المياومين» فهو يمارس السياسة الشعبية، من خلال وجوده بين الناس، وتذكيرهم بمصالحهم وعدم الرضوخ للقهر. يتحدث الفكاوي عن «الدياصور» وهو بطل غامض، خرج من مخيلة الراوي الفكاوي، قيل إن نسبه يعود إلى البطل عنترة بن شداد العبسي، أو يأجوج ومأجوج، أو الغرانيق، وكان صالحا يساعد الناس في حاجاتهم، فتضافر الناس وقرروا أن يكون الدياصور أميرا عليهم، وزعيما لهم. ومع الثراء والغنى والجاه، تبدلت نفس الدياصور، من «القاع» إلى «القمة» وصار همه الحفاظ على مكاسبه المادية، فعرف طريق الانتهازية والتحكم والقهر، واكتسح الفضاء أمامه، لا يهمه إلا متعه الخاص وزيادة ممتلكاته وحمايتها، وقد سايره الناس وخشوا من سطوته، عملا بالمبدأ الحياتي بـ«تجنب الأذى أفضل من مواجهته» أي الاتصاف بالسلبية التي تكون سببا في فرعنة الحاكم واستبداده.
الشخصية الثانية «يمود» وهو باحث أثري قضى قسطا كبيرا من حياته في البحث عن هياكل الديناصورات، وله تجربة قديمة في النضال السياسي في تجمعات اليسار المغربي، أفضت به إلى الاعتقال الطويل، الذي اضطره إلى مراجعات كثيرة مع نفسه ورفاقه حول الواقع السياسي المعيش، وسبل النضال والتغيير في المجتمع، بعيدا عن العمل السري، ولا تزال تداعب مخيلته وقائع الإضراب في كلّيته في الجامعة، وقد جاء تعبيرا عن غليان المجتمع ومؤسساته.
ما يستوقفنا في هذا الرواية أيضا؛ طرحها للفكر اليساري من خلال مبادئه وغاياته السامية، المتعلقة بمنظومة الحريات والحقوق ومناوءة الظلم، والانتصار للضعفاء، مثلما ورد على لسان «يمود» وفي الوقت ذاته، شعرنا بإيمان عميق، يقرأ وقائع الحياة ضمن تصرفات القدر وتدبير الله سبحانه، ليرضى كل امرئ بما أعطاه الله، وبما وجهه في حياته، وذلك ما جمعته شخصية الفكاوي. فها هو ذا يدعونا إلى النظر والاعتبار في طبيعة الإنسان التي تأتي بين ضعفين، ضعف عند الميلاد، وضعف عند الشيبة وكبر السن، وهو ما وضح في ختام الرواية، فقد حضرت شخصية الفقيه المادني، وهو داعية معروف في المغرب، من جيل يمود، وقد تقابلا في المعتقل، فاسترجع ـ ضمن ذكرياته الممتدة على طول الرواية ـ علاقته مع الفقيه المادني. لقد دعاه إلى الصلاة في السجن وكان وجهه مشرقا، وعرف يمود منه أنه تخرج في كلية الشريعة، وعمل بالتجارة رافضا أي منصب أو وظيفة، وذاعت شهرته كداعية وخطيب وفقيه بين الناس، ولكنه اعتقل مثل آخرين، وتقابل في السجن مع يمود ورفاقه، وأدرك ساعتها أن الدين لا يعارض مبادئ اليسار ورغبته في التغيير المجتمعي والسياسي، بل إن الدين فيه شق اجتماعي يأمر بذلك.
لقد كانت المراجعة الأساسية لطبيعة النضال السياسي في المجتمع من قبل القوى السياسية وأيضا لمفهوم الأدلجة وسبل تطبيقه في المجتمع بأنه: «نعم لدولة غير أيديولوجية، ولمجتمع مدني غير مؤدلج.. نعم لإنسانية الإنسان، ولمشروعية رغباته الذاتية وميوله الشخصية، لكن لا حساب لشيء آخر، بل مع كل الحسابات المبدئية مهما تكن المرحلة تستلزم».
البناء الفني في الرواية قائم على ثنائية البناء والمناوبة بين الأسطوري والتاريخي، وبينهما وشائج عديدة، فهناك خطان متوازيان: الدياصور والديناصور بوصفهما كائنين مختلفين، وواضح أن الفكاوي نحت اسم الأول عندما سمع عن الثاني، فالفارق بين اللفظتين حرف واحد هو النون، ولكن الدياصور مقصود منه إنسان بشري مثالي، استثمر قوته في قضاء مصالح الناس. أما الثاني فهو حيوان هائل الحجم، نسجت حوله أساطير قديما، وتخيلته روايات وأفلام حديثا. ومن خلال هذا البعد المبتكر، الذي يقف بين الأسطوري والعلم، الخيال والتاريخ؛ تسير أحداث الرواية وبنيتها.
من جانب آخر، هناك شخصيتان يدور السرد في فلكهما وهما: يمود، والفكاوي، الأول يساري قديم راجع نفسه، وانخرط في الحياة العامة من جديد، غير متخل عن يساريته القديمة، وإنما يبحث عن سبل أخرى للتغيير، أما الثاني فهو يساري بالفطرة، مؤمنا بمبادئ الإنسانية والتسامح والتلاقي والعدالة بين جميع الناس. كان يحلم بتأسيس مجتمع الحرية والعدالة والمؤسسات وقتل الفقر والعوز. وهذا لا يعني أن الاثنين – الفكاوي ويمود – لا يلتقيان إنسانيا أو سرديا، فكلاهما يعيش في قرية واحدة، ويحلو ليمود سماع حكي الفكاوي، وحين يسأل يمود الفكاوي عن مصادر حكاياته، أين قرأها؟ يرد الفكاوي أن العلم منة من الله، وما الحواس إلا وسائل للوصول إليه. وتكون المفارقة أن الفكاوي يصارح يمود بأنه تعرض للتغييب على أيدي الصحاب (الدرك والشرطة) عندما استدعوه وحققوا معه في الكلام الرمزي الذي كان يسوقه الفكاوي في حلقاته، عن العدالة والحكومة والنظام، من خلال شخصيته المخترعة الدياصور، ثم أودعوه سجنا وأيام السجن الطويلة، على الأرض الإسمنتية في قبو مظلم، لا يعرف ليله من نهاره، ولا أمسه من غده، يكتفي بأن يصلي دون وضوء استعدادا للموت في أي لحظة، وبذلك تلامست الشخصيتان، والتقى الخطان السرديان، وأصبحت الدلالة مشتركة والمصير واحدا، فكلٌ منهما ساع في الخير ومن أجل الحقيقة. فلا عجب أن يكون عنوان الرواية «خيط الروح» لأن ما بين الدياصور والديناصور خط روحي، ينقل الديناصور من عالم الحيوانات المنقرضة إلى عالم الإنسان، وإن مات الدياصور أو عاش، أو كان حقيقيا أو متخيلا، فالنتيجة واحدة، فشخصيته متكررة في المجتمعات الإنسانية، قديمها وحديثها، كما أن ما بين يمود والفكاوي خيط روحي مشترك في الأهداف، مختلف في الوسائل.
وحول هاتين الشخصيتين المحوريتين تلتف شخصيات أخرى، منها شخصية مصطفى وفتحية رفيقا «يمود» القديمين في النضال والاعتقال، ولكن بعد عقود من الانخراط في مؤسسات المجتمع والحكومة، تغيرت النفوس، وصار كل رفيق يهيئ حياة لنفسه، يخطط لمستقبله، ويتمنى الدعة والراحة في حاضره، خاصة بعد إطلاق عملية عفو شامل عن المعارضين، وتعويض المعتقلين، كان هدف مجيدة ـ ومصطفى معها ـ ومنذ الأسطر الأولى في الرواية أن تخرج «يمود» من عزلته الاختيارية، وتُدخله في مسارات الواقع، بعيدا عن تمسكه بذكريات الماضي والنضال، وهو عائش بين عظام الديناصورات، وبعبارة أخرى يخشى أن يتحجر شخصه وذكرياته في هذه القرية النائية، وتصبح ضمن أطلال التاريخ.
حاور مصطفى يمود كثيرا، وطمأنه أنه لم يسقط في حبائل السلطة والجاه، وغير مغرم بالمنصب السامي والمكانة والمال، إن المبادئ ثابتة، ولكن تتحقق بوسائل أخرى، فالمناضل السياسي مثل الرحالة الذي يبحث عن طرق جديدة. وهذه رسالة أخرى تبثها الرواية، فالمراجعة للأيديولوجيات والنضال السياسي، لا تعني التخلي عن الثوابت، وإنما النظر في الوسائل، فالمناضل كان يحلم قديما بالتغيير الشامل في المجتمع، متوقعا أن الأمر يتم بثورة راديكالية شاملة، وأن الناس خلال سنوات ستتغير حياتهم وقناعاتهم، فالغاية هي التغيير للأفضل، ولكن الوسيلة تختلف، وهنا تنتصر الرواية للتغيير السلمي المتدرج، عبر منظمات المجتمع المدني والاندماج في المجتمع، وإصلاح أحوال الناس والنهوض بهم.
البنية السردية الثنائية
أسلوب السرد جاء متناسبا مع البنية السردية الثنائية ولنا أن نتخيل السمات الأسلوبية المفارقة بينهما. فعندما يحكي الفكاوي فإن حكيه سرد شعبي، مسجوع، معمق، وافر الثراء اللغوي، يحرص على إفهام البسطاء، ونقل القيم والمعلومات إليهم. أما الملمح الثاني للأسلوب، فهو سرد روائي جامع ما بين التداعي الحر والارتداد والحوار والوصف. وقد برع المؤلف في الحكي بضمائر عديدة، منها المتكلم والغائب عندما يتعلق السرد بشخصية يمود والموقع الأثري، وعندما يرتد به الزمن إلى أيام النضال السياسي والاعتقال. أيضا، يتم الحكي بضمير المخاطب مع حكايات «الفكاوي» التي يرويها للمنصتين له، مازجا فيه أيضا ضمائر الغائب. ويرد الحوار عادة بين شخوص الرواية، أو يأتي في متن السرد، أي ضمن الحكي ذاته، مثل حوار الفكاوي مع يمود، عندما أقنعه أن يحمد ربه أن ظل حيا، ولم يلق مصير رفاقه من قتل وتغييب قسري. لقد حكى الفكاوي تجربته في الحياة في حواره مع يمود، وآثر المؤلف الضمني أن يسجل الحوار حكيا متدفقا مشوقا مثلما دأب في روايته في الفصول الخاصة بالفكاوي، لنستمتع بتنويعات بديعة في البنية السردية والحوارية، فهو يروي مجيبا عن السؤال. جمعت هذه الرواية بين الأسطوري والواقعي، المكاني والزماني، بفكرة جديدة، تحاول أن تقرأ الواقع ومآلات المناضلين السياسيين، وكيف صارت أحوالهم في الحياة، كما أن المؤلف نجح ببراعة دالة على خبرة وحنكة روائية متراكمة من أعمال سابقة؛ أن يضفر تلك التوليفة في رواية طويلة متنًا، عميقة معنى، منوعا أساليب سرده؛ ما بين السرد الروائي المعهود كتابة، والحكي الشعبي المتوارث شفاهة، لتصبح الرواية عنوانا على تاريخ من النضال الصادق، ربما نختلف أو نتفق مع بعض القناعات والرؤى، ولكنها في النهاية تدعو إلى التعايش والتلاقي واحترام التوجهات والآراء، ونبذ التعصب والاقتتال والنفي للآخر على أسس أيديولوجية.
كاتب مصري