مقالات

عام على الحرب: فشل سياسة الاحتواء الأمريكية

عام على الحرب: فشل سياسة الاحتواء الأمريكية

عمرو حمزاوي

منذ اليوم الأول للحرب في غزة، وإدارة الرئيس جو بايدن لم تقيد العمليات العسكرية المستمرة لحكومة بنيامين نتنياهو في القطاع على الرغم من كلفتها البشرية والمادية الكارثية. فقد كان استمرار واردات ومبيعات السلاح والذخيرة الأمريكية لإسرائيل كفيلا بإطلاق يد حكومتها وجيشها دون شرط أو حد. غير أن خليط التوافق والتواطؤ بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو فيما خص الحرب في غزة لم يكن معناه تلاقي أهداف الطرفين لجهة التداعيات الإقليمية للحرب. فالولايات المتحدة الأمريكية كانت تعمل على منع التمدد الإقليمي إلى ساحات أخرى.
كانت عين واشنطن على جبهة لبنان حيث احتمالات التصعيد بين حزب الله وإسرائيل دوما قائمة، ولاحتواء الخطر سارعت الإدارة الأمريكية إلى إرسال قطع بحرية إلى شرق البحر المتوسط وحشد إمكانيات عسكرية إضافية لتوجيه رسائل ردع واضحة إلى حزب الله وراعيه الإقليمي إيران.
خلال الأسابيع الأولى للحرب، أسفرت رسائل واشنطن، ومعها تقديرات المصلحة السياسية من قبل حزب الله التي ذهبت في اتجاه الابتعاد عن مواجهة مفتوحة مع تل أبيب وكذلك تقديرات المصلحة الوطنية للحكومة الإيرانية التي لم ترد تصعيدا مفتوحا مع القوة العظمى وحليفتها في الشرق الأوسط وتخشى على منشآتها النووية ومواقع النفوذ الإقليمي التي راكمتها، أسفرت هذه العوامل مجتمعة وفي البداية عن منع حرب شاملة بين حزب الله وإسرائيل.
غير أن منع الحرب في البدايات لم يحل دون تبادل إطلاق الصواريخ والمسيرات بين الطرفين، وهو ما أوقع بعض الضحايا المدنيين هنا وهناك ورتب نزوح أكثر من 100 ألف إسرائيلي من قراهم ومدنهم في الشمال وأسقط عددا من القادة الميدانين لحزب الله في جنوب لبنان.
ثم كان أن صعدت حكومة اليمين المتطرف التي يقودها بنيامين نتنياهو من جهة باغتيالات متتالية لقيادات حزب الله وبتفجيرات الباجير وأجهزة اللاسلكي وبغارات متكررة على ضاحية بيروت الجنوبية، وتواكب كل ذلك مع إطلاق وزراء ومسؤولين عسكريين تصريحات متتالية بشأن اقتراب الحرب الشاملة مع حزب الله للحد من قدراته الصاروخية ولإبعاده عن المنطقة الحدودية بين البلدين وإعادة المهجرين الإسرائيليين في الشمال.
صعدت حكومة نتنياهو تجاه حزب الله ومن وراء الحزب إيران دون التفات للضغوط الأمريكية والأوروبية التي طالبت بحماية لبنان وتمكين الغرب من الانخراط في وساطة هادئة في اتجاه هدنة طويلة المدى بين إسرائيل وحزب الله تستند إلى تطبيق القرار الأممي 1701. وعلى الرغم من عدم رغبة الحزب وراعيه الإيراني في التورط في تصعيد مفتوح، لم يكن أمامه بعد الاغتيالات والغارات المتتالية وبعد اغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله سوى الرفع التدريجي لعمليات إطلاق الصواريخ والمسيرات على أهداف عسكرية ومدنية في الشمال لإثبات إمكانات الرد وإبعاد شبهة السلبية والاستباحة.

كانت عين واشنطن على جبهة لبنان حيث احتمالات التصعيد بين حزب الله وإسرائيل دوما قائمة، ولاحتواء الخطر سارعت الإدارة الأمريكية إلى إرسال قطع بحرية إلى شرق البحر المتوسط

وتبع ذلك إطلاق إيران لصواريخها المائتين على إسرائيل ردا على قتل نصر الله ومن قبله اغتيال إسماعيل هنية في طهران، ثم توحش إسرائيل في غاراتها وضرباتها على لبنان وتورطها في هجوم بري على مناطق جنوبية ومشاهد دمار ونزوح تتشابه مع ما يحدث في قطاع غزة منذ العام الماضي، ومن ثم صرنا وبالنظر إلى جبهة لبنان في جنوبه وشمال إسرائيل في حالة الحرب الشاملة التي لم تردها الولايات المتحدة وهو ما يعد فشلا سياسيا واضحا لإدارة بايدن في تعاملها مع أزمات الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر 2023.
من جهة ثانية، كانت عين واشنطن وهي ترسل قطعها البحرية وتحشد إمكانياتها العسكرية في الشرق الأوسط على جبهتين إضافيتين، هما سوريا والعراق. للولايات المتحدة في البلدين قواعد لقواتها المسلحة ولوجودها الاستخباراتي يرتبط بالحرب على عصابات الإرهاب وبقايا تنظيم داعش وحماية حلفاء محليين، ويرتبط أيضا باحتواء النفوذ الإيراني وبتحجيم من ترعاهم الجمهورية الإسلامية كحزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى. ما أن نشبت الحرب في غزة، إلا وكانت رسائل الردع الأمريكية تتجه لمنع الهجمات الإرهابية ضد قواعدها ومنع الخطوات التصعيدية ضد قواتها من قبل أتباع إيران. بعد الأيام الأولى للحرب والتي لم تحدث بها هجمات في سوريا والعراق، تحول الأمر مع استمرار القتل والدمار والكارثة الإنسانية في القطاع إلى كر وفر بين الميليشيات الشيعية وبين القوات الأمريكية بضربات متبادلة. كر وفر حمل بكل تأكيد احتمالية لاستمرار استنزاف تدريجي لواشنطن يورطها في المزيد من العمليات العسكرية والاستخباراتية، ورتب تمدد سياق المواجهات بتدخل إسرائيل بضربات إضافية ضد أتباع إيران خاصة المواقع السورية لحزب الله، ودفع الحرس الثوري إلى المواجهة غير المباشرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل بضرب حلفاء محليين لواشنطن في سوريا والعراق.
دخلت كل ذلك تدريجيا حيز الواقع الإقليمي بهجمات الميليشيات الشيعية على القواعد الأمريكية، وبضربات الولايات المتحدة وإسرائيل للميليشيات، وبهجمات الحرس الثوري الإيراني على كردستان التي تدير شؤونها حكومة حليفة لواشنطن وذات علاقات جيدة مع تل أبيب وتذرعت طهران لتبرير الهجمات بتهديد أمنها القومي من خلال مجموعات «مارقة» تنطلق من أربيل. وهنا أيضا فشلت سياسة الاحتواء الأمريكية.
من جهة ثالثة، واجهت واشنطن بعد أيام من حرب غزة جبهة إضافية للتوترات الإقليمية هي المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. فقد تحركت جماعة الحوثي لمهاجمة السفن التجارية القادمة عبر باب المندب والمتجهة إلى إسرائيل موظفة مسيرات وصواريخ أمدتها بها إيران خلال السنوات الماضية.
أضرت هجمات الحوثيين ومازالت بخطوط الملاحة التجارية والدولية في ممر مائي بالغ الأهمية للعالم، ممر مائي ينتهي بقناة السويس التي هي أقصر الطرق الرابطة بين آسيا ذات الإنتاج الصناعي الكبير ومنطقة الخليج ذات الإمدادات النفطية الضخمة من جهة وبين القارة الأوروبية التي تستورد صناعيا بكثافة من آسيا وتعتمد على بترول وغاز الخليج للوفاء باحتياجاتها من الطاقة.
لم تتوقع إدارة الرئيس جو بايدن تهديدات الحوثيين، ووجهت كرد فعل مباشر رسائل ردع إلى الراعي الإيراني، وحين دخلت الهجمات الحوثية على السفن التجارية في نسق تصاعدي سارعت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف متعدد الأطراف للعمل عسكريا لتأمين خطوط الملاحة الدولية وحشدت قطعا وإمكانيات بحرية بحثا عن ردع فعال. غير أن التحالف متعدد الأطراف الذي يضرب أهداف الحوثيين منذ فترة ليست بالقليلة والسفن الأمريكية والبريطانية التي تجمعت في البحر الأحمر لإيقاف مسيرات الحوثيين لم تسفر عن توقف هجماتهم، وهو ما دفع واشنطن بالتنسيق مع لندن للهجوم على مواقع مختلفة للحوثيين في العمق اليمني عدة مرات خلال الأيام القليلة الماضية. كما على الجبهة اللبنانية وفي الساحتين السورية والعراقية، لا يبدو أن نسق الأفعال وردود الأفعال حول اليمن في سبيله إلى خفض مناسيب التوتر الإقليمي عند المدخل الجنوبي لأحد أهم الممرات الملاحية في العالم، وهو ما بعد دليل فشل ثالث لسياسة الاحتواء الأمريكية.

كاتب وأكاديمي من مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب