ثقافة وفنون

ليلى تكشف أسرار المنسيين بين ماءين

ليلى تكشف أسرار المنسيين بين ماءين

واسيني الأعرج

«لتعبري البحر عليك أن تقرئي وجه الماء، فلن تعبري البحر إلا إذا عرفته».
تشكل موضوعة الماء في الرواية الخليجية، في السنوات الأخيرة، هاجساً حياتياً تتم قراءة الأسرار القديمة من خلاله، سواء من حيث كونه حاجة حيوية قامت من حولها الصراعات والحروب المدمرة، والحضارات أيضاً، أو من حيث كونه حالة رمزية تتوخى أدوات الأنثروبولوجيا لفهمها. نحن أمام قصص تحكمها الحكايات والخرافات والأساطير، المرتبطة بالحياة العميقة للناس. وقد تراكم عددياً هذا الجهد «المائي» حتى تشكل كظاهرة تستحق التأمل والدراسة والفهم.
وكان من حظي، بسبب أسفاري أو تنشيط عدد كبير من الورشات الكتابية في بلدان الخليج كلها، أن قرأت العديد من الروايات التي شكلت موضوعة الماء جوهراً حيوياً وثقافياً وحضارياً اهتماماً كبيراً. وقد شدت انتباهي إحدى الروايات العربية الخليجية بقوة في فترة تنشيطي» لخلوة الكتابة الإبداعية» في الإمارات العربية، وكان من بين الحضور في هذه الورشة كاتبة معروفة هي «لولوة المنصوري»، وسعدت بأني كنت قد قرأت روايتها «قوس الرمل/ ملهاة المهد والماء». وفكرت أن أنظم جلسة حولها لشابات الورشة والشاب الوحيد معهن، حول موضوعة الماء تحديداً، بالاستناد إلى هذه الرواية تحديداً. وكانت الجلسة جميلة في شكل سهرة ثقافية، حيث تم استنهاض كل رمزيات الماء الخفية في مختلف مناطق الخليج، والبحر وأهواله، والصراعات التاريخية والحروب من حواليه، مأساة النواخذة بين متعة «الدانة» وشقاء من يستخرجها، ثم الأساطير القديمة المرتبطة بالماء، ومنها ملحمة جلجامش. وكان الشعر العربي القديم قد سبق إلى ذلك الاهتمام. وبدأت الروايات تتوالى بكل تنوعاتها المختلفة، إلى أن التقيت بالروائية البحرينية الشابة ليلى المطوع، التي تكرمت بإهدائي روايتها في معرض أبو ظبي الأخير. وعندما قرأتها، تأكد أن موضوعة «الماء» أصبحت هاجساً فنياً يستحق كل الاهتمام. والجميل في تعدد المنظورات، التنوع المصاحب له.
داخل هذا الكم، عرفت ليلى كيف تصنع خصوصيتها بروايتها المميزة «المنسيون بين ماءين». أي المنسيون؟ وأي الماءان؟ سؤال يتبادر إلى منذ هذه العتبات النصية؟ أمر كهذا يقتضي جهوداً بحثية كبيرة. وليلى ليست في تجربتها الأولى؛ فقد سبق أن شاركت في 2016 في ورشة البوكر، لعرض مشروعها وتنقيحه أمام المشاركين في الورشة. وسبق أن كتبت روايتها الأولى «قلبي ليس للبيع» التي صدرت في 2012 ولاقت اهتماماً طيباً، وتأتي رواية «المنسيون بين ماءين» الصادرة عن دار رشم هذه السنة، لتعيد طرح سؤال الماء، لكن هذه المرة في ثنائية واضحة تتبطن أسئلة كثيرة تكشف عنها الرواية من خلال سرديتها الهادئة. يجد القارئ نفسه في بلاد هي البحرين، التي لم تذكر ولا مرة، وليست هي: بين ماء البحر وماء الينابيع الذي يصعد من الأعماق محملاً بالأساطير الأشد توغلاً في لاوعي الناس. نلمس بسرعة ونحن نتوغل في النص، أن الماء يتحول إلى هوية تتشكل في عمق الفرد المولود في تلك المنطقة. ولا تتوانى الساردة عن أن تعرّف نفسها أنها «ابنة الماء» [إنا من الماء وإنا إليه لعائدون] أي ابنة هذا التاريخ بكل أمواجه المتلاطمة وأساطيره وحكاياته التي تحتفظ بها الحارات الشعبية إلى اليوم. ويبدو واضحاً الميراث الشعبي الذي اشتغلت عليه الروائية، والذي يرتفع بالحياة نحو مصدرها الموغل في التاريخ. حتى تلامس ملحمة جلجامش الأسطورية الذي ارتحل إلى الماء بحثاً عن عشبة الخلود. وكما استعاد الكاتب البحريني الكبير قاسم حداد شخصية طرفة بن العبد، استعادته ليلى ضمن مناخ آخر مع حضور نفس المؤشرات التاريخية والأسطورية. فشخصية سليمة الافتراضية في الرواية شكلت سنداً حكائياً، إذ تطأ دم طرفة، دون رضى زوجها صفوان. فتصمم أخت طرفة، الخرنق «التي تأكل لحم الجمال» ومنهم تأخذ شدتها وأحقادها وانتقامها. لكن الخرنق بنت ردة فعلها على الحيلة والذكاء والأذى العظيم، إذ دفعت بالأمير إلى أن يهيم في حب سليمة، من شدة ما أنشدت من أشعار عن جمالها، فهام الأمير بها دون أن يعرفها. فطلب الأمير من صفوان التخلي له عن جسد زوجته، فيتحايل هذا الأخير مع زوجته ويبعثان له امرأة جميلة، لكن الخرنق كانت بالمرصاد؛ عندما مر الوالي وصفته بالمخدوع. يعرف الحقيقة من خلالها، فيأمر بصلب صفوان، بينما تختفي سليمة في البحر بحملها الذي تلده بين الأمواج قبل أن تذهب نحو الشاطئ. وعلى الرغم من أن هذا العالم الغني والمدهش يمر عبر سردية ناديا، لكن ذلك لم يسجنها في دائرة السارد العليم المكتفي بذاته، والانغلاق، بل ظلت الحكايات مفتوحة تتخطى الضوابط السردية المعتاد.
ليس مهماً أن يلتبس الأمر على القارئ أحياناً بين الشخصيات المرجعية والتاريخية وبين الشخصيات التخييلية، فقد عرفت ليلى كيف تجمع ذلك كله داخل عالم تخييلي شديد الأناقة والحضور. من هنا، فهذه الرواية يجب أن تقرأ في أفق الأسطورة والمرأة التي تنهض من ورائها شرطيات المرأة اليوم. البحر عندما تسرق من أعماقه الدانة، يثور وتصعد أمواجه عالياً مهدداً بمسح كل شيء في طريقه، فيستجديه البحارة بأن يرحمهم ولا ينتقم منهم. البحر الذي لا يرق قلبه إلا إذا رأى جسد شنانة لكي يعيد لها ابنها الذي ابتلعه. البحر ليس مكاناً فقط، ولكن شريك في الحياة، يغضب ويسعد كما البشر جميعاً.
لهذا اختارت الكاتبة لروايتها الشريط الساحلي في داخل كل واحد من أهل الجزيرة شيء منه. الساحل تتعدد أوجهه، فهو ليس مكاناً فقط، ولكنه تاريخ وأساطير متعاقبة. فهو الفضاء الذي حملت فيه مارا لتنجب ماء، أي الحياة. وهو المكان نفسه الذي ركضت فيه سليمة طويلاً بكل قواها لتنقذ نفسها ووليدها من الوالي الذي دمرته الخديعة. وهو مدار آيا ناصر حول نفسه بلا كلل، بحثاً عن والده، والساحل عندما يخدع، يلبس جلد الأرض في منطق الدرويش، هو المكان الذي ردموه ليبنوا عليه أمكنتهم الضيقة، حتى النوارس الجاسوسة تجد فيه مرجعها.
من هناك خرجت النسوة تقودهن هند دفاعاً عن الأرض والعرض ومحاربة الأسطول الذي إذا انتصر سيأخذهن سبايا. فقد ارتفعت ليلى بنصها علياً كلما تعلق الأمر بحالات المأساة. لم تكتف بالوجه المكشوف للماء، ولكنها صنعت منه تاريخ وأساطير روايتها. ليست الينابيع الحلوة في عمق البحر في النهاية إلا بقايا نساء دفن في البحر. وراء هذه العوالم الأسطورية تتخفى محنة البشرية كلها: تيه آدم وحواء، سفينة نوح المتمايلة في البحار العاتية، أنكيدو ومأساة جلجامش الضائع في البحث عن المستحيل. هذه العناصر الكبيرة المرتبطة بالمصائر البشرية تحتاج حتماً إلى دراسة عميقة لاستخراج «دانات» النص دون تهديمه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب