
تجربة الأدب النسوي… انعطافاته ومآلاته

عباس خلف علي
عن دار نوران ـ تبسة ـ الجزائر 2023 صدر كتاب «السرد النسوي وتحولات الواقع السوري المعاصر» قراءة في أعمال الروائية سمر يزبك – حاولت فيه الباحثة أحلام مامي تكريس الأدب النسوي، كتجربة إبداعية لها صياغتها ومفهومها وتجاوز الإشكاليات التي تصاحب هذا المصطلح وما ينتجه من إجراءات حول التمايز أصلا بين صناعة الأدب كموجه فكري وإبداعي، بغض النظر إن كان ذكوريا أم أنثويا، والمطالبة بأن يكون للتجربة النسوية حضورٌ إبداعي في الإنتاج الأدبي والفكري على اعتبار الأدب النسوي ذا فاعلية وصانعا للقرار في كل المجالات السياسية والعلمية والاجتماعية.
المفهوم وإشكالات المصطلح:
تخوض الباحثة أحلام مامي في جملة من الآراء حول هذا الإشكال الذي يثيره مفهوم الأدب النسوي، وهي آراء متعددة ومتباينة منها، الكاتبة ليزا هولا تقول: الأدب إنساني وليس من المفترض تجزئته وهو ما أكدته يمنى العيد، التي رفضت تصنيف الأدب إلى أدب كمفهوم عام، وأدب تكتبه المرأة كمفهوم خاص، لذلك ترى أن الأدب بصورة عامة لم يكن فئويا، بل هو عمل إنساني يلغي مقولة التمييز بين الأدب النسوي، ووجودها كعنصر فاعل وحاضر في كل مقومات الحياة والإنتاج الفكري ومنها، مجال الكتابة، كما أن الناقدة نازك الأعرجي ترفض في كتابها «صوت الأنثى دراسات في الكتابة النسوية العربية»، لما يحيل إليه من دلالات تربط المرأة بالجانب البيولوجي ووظيفتها الجنسية كذلك نجد سعيد يقطين يرفض التصنيفات الأدبية، ويرى أن مفهوم الأدب الرجولي غير مستعمل وأن مقاربة النصوص، لا بد أن تنطلق من استجلاء مكونات النص جماليا وفكريا. وتؤكد الباحثة، أن تاريخ الأدب العربي بمجمله يركز بالدرجة الأولى على محتوى الإبداع، بينما تشير بعض الدراسات التي ذكرتها الباحثة إلى التميز الواضح في المفهوم بين مصطلح النسائية والنسوية، ويعد الأول أيديولوجيا يمارسه الرجال والنساء، ويميل إلى المرأة ويقف معها، والثاني يحيل إلى جنس الكاتبة والأعمال التي تبدعها الأنثى بهذه الخصوصية، ويميل بعضه هنا إلى مصطلح النسوية لما فيه من بُعد لغوي يوازي مصطلح الكتابة الذكورية. إدوار سعيد يطرح مصطلح (الأنثوية) في النسبة إلى (أنثى) ورفض مصطلحي الأنثوية والنسوية، موضحا أن الأدب الذي يعبر عن سمات خاصة بالأنثى ورؤيتها للعالم فيسميه بـ(الأدب الأنثوي) والأدب الأنثوي قد يكتبه رجل أو أنثى، في حين أن الأدب النسائي هو من إنتاج أنثى تحديدا. أما عبدالوهاب المسيري، فيرى أن مصطلح (النسوية والنسوانية والأنثوية) غير دقيقة، فهذه التسميات منطلقة من أجل تحرير المرأة والنظر في هذه المصطلحات التي هي بالأصل حركات لتحقيق العدالة وإنصاف المرأة إلى مفهوم أدبي وإبداعي، فهو يسحب المرأة إلى ذاتها، كما يسحب الذكر إلى ذاته، وهنا سوف تظهر محاولة الهيمنة من جديد هذا من ناحية، وسوف تظهر بؤر في التفرقة والتميز.. ما دفع الناقدة بيل هوكس إلى تجذير مفردة Feminism (النسوية ) التي انفجرت عنها المصطلحات والمفاهيم، وهي في الأساس (زئبقية مراوغة) ليس لها معنى محدد؛ ولذا قالت سارة جامبل في كتابها «النسوية وما بعد النسوية» عندما نذكر كلمة النسوية، يعتقد الكثيرون أنهم يدركون تماماً ما تعنيه الكلمة، وكأنه وضع بالضد من الأبوة، وهذا لا يمكن أن يستساغ إنسانيا وفكريا فتنشأ الثنائيات الضدية، رجل وامرأة، القوة والضعف، العقلانية والعاطفية، وكل تلك التضادات غير محايدة، وترى الناقدة توريل موي أن النسوية والأنثى والأنثوية هي مصطلحات سياسية تدعم أهداف الحركة المدافعة عن النساء، ولذا ركزت المرأة على دورها في المساواة، ودون تفريق وتجاوز فكرة الخطيئة التي تحمل النقص والتحقير المضللة، التي جعلت المرأة محاصرة بالهيمنة، ووضعتها في خانة المستثنى والمهمش، ولذا خاضت عبر الكتابة معالجات جديدة لا تقل شأنا عن دورها الإنساني، في تجربة النقد النسائي، الذي شكل تيارا واسعا من أجل التحرر من قيم الذكورة بمساهماته النيرة في التاريخ والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع التي أدت بالأخير إلى مواصلة المرأة مشوارها الفكري النقدي، والانتقال به إلى مجال الأدب، ومشاركتها في تطوير فرضيات الثقافة من خلال محاكاة القيم الجمالية فكرا وإبداعا.
بداية الكتابة النسوية العربية:
تشير الباحثة أحلام مامي إلى بدايات الكتابة الروائية، تحديدا في عالمنا العربي، التي مرت بعدة مراحل تاريخية سوف نتابعها بإيجاز، وهي تعد اللبنات الأساسية في تشكيل الفن الروائي، خصوصا التجربة النسوية التي تخوض في هذا الميدان الأدبي/ الروائي ودون أسماء مستعارة للتخفي عن عواقب جرأة الموضوعات المطروحة للرأي العام، حيث إنهن شعرن بأن الرواية هي الملاذ الأوسع في طرح مشكلاتهن، إزاء التسلط القسري للذكورة، فظهر هذا الجنس من الكتابة في البداية على يد كاتبات لبنانيات وسوريات ومصريات شكلن النواة الأولى لبروز الرواية النسوية وعلى رأسهن عائشة التيمورية بروايتها «نتائج الأحوال» 1885 وزينب فواز «حسن العواقب» 1899 اضافة إلى الروائية عفيفة كرم، التي برعت في هذا الفن وأليس البستاني وفريدة عطية، وغيرهن من الكاتبات اللواتي كتبن النص الروائي بشكل انتقادي للوضع القائم، الذي يتمخض عنه ألم شظف العيش وحرمان المرأة من التعليم وبؤسها الحياتي التعسفي داخل المجتمع، النقطة المهمة في هذه المرحلة، أنها ركزت على أهمية دور المرأة كإنسان فاعل في قيم الحياة، وليس كأنثى معرضة لمفاهيم قبلية تحط من وجودها وكيانها وتقصيها وتهمشها من كل مجالات الحياة تحت شعارات زائفة موروثة وبالية. وفي المرحلة التالية برز في النص الثاني من القرن العشرين وأهم الأصوات الإبداعية البارزة تذكر الباحثة منهن، ليلى بعلبكي، كوليت خوري، سحر خليفة، غادة السمان – حيث كان طابع الموضوعات هذه المرّة في أعمالهن يعتمد على قضايا الأنثى، ومحاولة إثبات الذات وتجاوز المنقصة التي أفرزتها الذهنية الرجالية، التي ما زالت تحركها أعراف وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان (الديني والعشائري) فكانت الكتابة في هذه المرحلة قد تجاوزت التعليمية والوعظية ودشنت مفاهيم السرد برؤية فنية تنطلق من فكرة إثبات الذات والهوية وكسر الحواجز وتفكيك البنية النفسانية والفكرية والعرفية والسلوكية، وهذا ما دفع الوعي النسوي بالتحديد إلى ترسيخ مبدأ الكتابة الذي جسده الجيل الثالث، الذي ظهر في العقدين الأخيرين من القرن العشرين الذي كان أغلب كاتباته من المغرب العربي أمثال: حنان الشيخ التي رأت في عمل المرأة إنقاذا لذاتها من أغلال المجتمع ورقابته عليها، وهو ما أكدته القاصة خناثة بنونة والروائية أحلام مستغانمي وغيرهن من الروائيات اللواتي ذهبن إلى النص كي يمارسن حريتهن المفقودة. وفي هذه المرحلة بالذات أكدن التجربة النسوية متجاوزات موقف النقد العربي الذي يرفض تسمية – الأدب النسوي- بحجة أن لا وجود لتحديد جنس الكتابة، لأن الفكر الإنساني ينتج وحدة حية هي مخ الإنسان، وهذه الوحدة لا تختلف في طرائق التفكير إلا لبيان الفروق الفردية.
تمرد الأنثى في أوضاع الحروب :
اختارت الباحثة أحلام مامي أعمال الروائية السورية سمر يزبك، التي اتسمت شخصيات رواياتها بالجرأة والوضوح، خارجة بذلك عن النمطية السردية التي كانت عليها ما قبل الحرب السورية – الأمان والحياة المستقرة والشوارع الفارهة والمرأة الرومانسية والمقاهي الثقافية، والمسارح ودور السينما التي تحرص على عروض الأفلام الجادة – لتنقلب مع بداية شرارة الحرب الأهلية أو ما يسمى (بالربيع العربي) رأسا على عقب لصورة أخرى مغايرة تماما ليحل داخل المجتمع الانكسار والهروب والمعتقلات والقسوة والبطش وأصبحت الحياة في ظل هذه الأوضاع عالماً من الكراهية والسيطرة المستبدة، وعند ذاك طفح الكيل لعالم يتمادى فيه القبح وما ينضوي تحته من دلالات الضعف والانهزام، فالمجتمع أصبح بين الضياع والغربة والإحساس باللاوجود وعدم الانتماء.
ومن خلال ما تقدم نجد أن الروائية سمر يزبك رصدت حياة المرأة في ظل تردي الواقع المأساوي الذي تفككت فيه صورة العلاقات الإنسانية وتدهورت إلى أبعد حد، لتكون الشخصية النسوية هي محور أعمالها الأدبية، ففي «طفلة السماء» التي تحولت إلى فيلم من إخراج السعودي علي الأمير الذي كانت فيه البطلة (نور) متمردة على قوانين المجتمع وكسر الأعراف وتجاوز الممنوع، وفي رواية «صلصال» البطلة (دلا) صورة مأزومة ونفس مشبعة بالألم، تبحث عن ذكر يحفظ الوجود فكانت تشتم زوجها (محمود) لأنه لا يجيد حمل امرأة تشبه عود القصب ، وفي رواية «رائحة القرفة» البطلة (حنان الهاشمي) تدخل في العوالم الخفية والمغلقة والعلاقات المحرمة، لتعالج بذلك ازدواجية المعايير لتلك التابوهات التي لا أحد يتحدث عنها، وفي رواية «لها مرايا» تتحدث البطلة (ليلى) عن لعنة الحب ولعنة السياسة التي جعلت السلطة الذكورية مهيمنة على مقدرات الحياة، وفي رواية «تقاطع نيران» كان السارد الحقيقي هو سمر يزبك، بصفة صحافية جريئة في التحدي ومواجهة الموت في أبشع أنواعه تحت آلة التعذيب، وكأنها تعيش كرنفالات الرعب على حد قوله .. نالت الكاتبة عن هذا العمل جائزة أوكسفام عام 2013.
كان الأفضل لو اختصرت الباحثة أحلام مامي جهدها الفني المتميز في تناول أعمال الكاتبة السورية سمر يزبك من دون الدخول في تفصيلات الحركات النسوية المتشعبة والمتعددة الأغراض والنوايا وأغلبها مؤدلج سياسيا ومع كل ذلك يبقى هذا الكتاب فاتحة للمتعة والفائدة للقارئ.
كاتب من العراق