ثقافة وفنون

إزميرالدا في مسرح البولشوي

إزميرالدا في مسرح البولشوي

بهاء بن نوار

تأتي رواية فيكتور هيغو V. Hugo ذائعة الصيت: «أحدب نوتردام» Notre Dame de Paris لتكون أحدَ أكثر أعماله المقتبَسة في عالم الفنون، حيث حُوِّلت إلى أفلامٍ سينمائيّةٍ ورسوم كرتونٍ كثيرةٍ، وعروضٍ مسرحيّةٍ مُغنّاةٍ، وعروض أوبرا، وباليه، تُقدَّم في أشهر المسارح العالميّة، وتحظى بنجاحٍ قلّما حظيت به أعمالٌ أخرى معاصرةٌ لها.
ذاع صيتُ هذه الرواية بصيغتها الأدبيّة، أو بصيَغِها المقتبسَة، فلا يكاد اليوم أحدٌ يجهل مَن هو كازيمودو الأحدب النبيل، وفرولّو رجل الدين الخبيث، و«غرانغوار الشاعر الساخر، وإزميرالدا الغجريّة الحسناء، وفابيس حبيبُها الوسيم، وفلوردولي خطيبته المخدوعة.
وفي هذه القراءة الموجَزة، سأحاول الوقوفَ عند هذا العمل مُحوَّلا إلى عرض باليه، قُدِّم سنة 2011 بمسرح البولشوي الروسيّ، وأدّت الدورَ المحوريَّ فيه؛ دور إزميرالدا البالّرينا الشهيرة: ماريّا ألكساندروفا.
يبدأ هذا العرض بزمنٍ نهاريٍّ، ورقصاتٍ جماعيّةٍ تختزل حياة البسطاء، وطقوسَ يومهم المعادة، فنرى باعةً متجوّلين، وكثيرا من المتسوّلين، وبعض النشّالين، ورجالَ دينٍ، وغجريّات جميلات يرقصن بمرح، وعجائز متعباتٍ، وصغيراتٍ مشاكسات، ونرى ديكورا معبّرا، يوحي بمنظرٍ عامٍ لأحد الشوارع الباريسيّة البسيطة. يتفاعل هذا الجمع ويتواصلُ أفرادُه بعفويّةٍ تختصر ما في الحياة اليوميّة من مشاهد مشابهةٍ، وتفاصيل معادة، وهو ما يعيدنا إلى أجواء المرجع الأدبيّ الذي بدأ أيضا بحياة البسطاء، وصخبهم، ومناوشاتهم.
وهنا يبدو الطابعُ الكلاسيكيُّ الذي يسم هذا العرضَ، حيث أنّ من المعروف عن الباليه الكلاسيكيّ أن يكون المشهد الافتتاحيُّ فيه رقصاتٍ جماعيّةً Grand Pas الغاية منها تعريفُ المشاهِد بأهمِّ الشخصيّات، والتمهيد لما ستؤدّيه بعد ذلك من أدوار. تطالعنا بعد هذا الافتتاح الموجَز شخصيّة غرانغوار الشاعر الساخر، الذي يقع في قبضة قاطني «ساحة العجائب»La cour des Miracles الذين يضايقونه كما في الرواية، ويحكمون عليه بالشنق بتهمة التسلّل ما لم تختره إحدى النساء زوجا، وهو ما يتمّ تجسيده بكوميديّةٍ عالية، حيث تتقاذف المسكينَ أيدٍ أنثويّةٌ كثيرةٌ، تصرّ على رفضه لنحافته الشديدة أو فقره، ولا ترضى به سوى عجوزٍ هرمةٍ يتملّص منها هو مذعورا، ويفرّ إلى المشنقة مطالبا بالتعجيل بإعدامه، ولا يكاد يفعل حتّى تحضر إزميرالدا، وبعد أن تؤدي تنويعتها الشهيرة Variation تتطوّع بإنقاذه وترتضيه زوجا، وفق طقوس الغجر، أو وفق ما يُعرَف بزواج الجرّة، الذي تدوم صلاحيّته أربع سنواتٍ. وهو ما تجسّد أدبيّا من خلال الفصل المعنون بـ: «الجرّة المكسورة»La cruche cassée.
وهنا نلاحظ محاولة الوفاء للأصل الروائيّ، وتمثّل تفاصيله، حيث نجد ـ على سبيل المثال ـ تكرار مشهد الجرّة المكسورة إشارةً إلى تحقّق طقس الزواج الشكليّ بين إزميرالدا وغرانغوار، ونجد أيضا حضور العنزة دجالي وإن كان من غير الممكن إسناد دورٍ فعليّ لها كما في الرواية؛ فتعذّر توظيفها لتقوم كما في الرواية بالسخرية من أعيان المدينة وتقليد حركاتهم، وتعذّر أيضا استخدامها لتقوم بتشكيل اسم فابيس، وإثارة غيرة خطيبته، بل كان دورُها ثانويّا، ساعدنا في تمييز إزميرالدا عن بقية قريناتها وقد تماثلت أزياؤهنّ وكادت أن تتطابق. ونلاحظ بالمقابل أنّ مَن قام بتدوين اسم فابيس كان إزميرالدا نفسها، التي خطت حروفَه على جدار غرفتها، مثيرةً بهذا غيرة فرولو الذي لم يكد يقرأها حتّى جنّ جنونُه، وعزم على الانتقام، ما يوحي بنوعٍ من التكثيف البصَريّ، حيث اختلف هذا المقطع عمّا جاء في الرواية من حوارٍ طويل بين العاشق الحاقد فرولو وتلميذه السابق غرانغوار الذي يكشف له دون قصدٍ عن اسم غريمه وصفته.

خروج عن سياقات الأصل الأدبي

وإلى جانب هذا، نلاحظ فرقا آخر، تمثّل في ردّة فعل فلوردولي بعد أن علمت أنّ ثمّة علاقةً ما تجمع بين خطيبها والراقصة الغجريّة، فلم تكن كما في الرواية مجرد نوبة بكاء وإغماء، أعقبها تصالحٌ سهلٌ وسريعٌ، بل إنّ ما قامت به فلور في هذا العرض كان فصما نهائيّا وحاسما لعرى الارتباط، بدا من خلال نزعها خاتمَ الخطوبة وإلقائه على الأرض بسخطٍ، ممّا سيعفي فابيس لاحقا من أيّ التزامٍ أو ارتدادٍ نحو الوراء، وهو ما سيدفعه أيضا إلى اللحاق بحبيبته الجديدة، وهو في غاية التصالح مع الذات مقسما على الحب وعلى عهود الوفاء الأبديّ.
وحرصا على اجتناب الإطناب، سأتجاوز مقطع طعنه، وإدانة إزميرالدا ظلما، واقتيادها إلى السجن، حيث لم يلفت انتباهي شيءٌ كثيرٌ في هذا الجزء، ولكن ما يثير تساؤلي حقّا هو مقطع «ملك المجانين»Le Pape des Fous الذي فاجأنا بعيْد مقطع السجن، حيث سيظهر كثيرٌ من المهرجين والراقصات الغجريات بثيابٍ زاهيةٍ بهيجة، وقد حُمل كازيمودو على عرشٍ أنيقٍ وازدهى فرحا بتاجه وصولجانه، يحيط به شعبه الافتراضيُّ ومريدوه، بمَنْ فيهم بعضُ أصدقاء إزميرالدا، الذين كانوا قبل وقتٍ وجيزٍ في غاية الحزن والأسى لمصيرها، ما يوحي بخروج حادّ عن سياقات الأصل الأدبيّ الذي لم يرد فيه مقطع الاحتفال في هذا الموضع، بل ورد في الفصل الأول منه، قبل أن تشتبك الأحداثُ وتتداخل، وقبل أن يتعرّف الاثنان على بعضهما؛ كازيمودو وإزميرالدا، ممّا يوحي بثلاثة أمور: أوّلها، هشاشة حادّة ولا مبالاة فادحة في مشاعره نحوها؛ ففي الوقت الذي تعاني هي فيه وطأة السجن وعذاباته، يحتفل هو ويمرح وينتشي بتتويجه، وهو ما لاحظناه في المشاهد السابقة، حيث لم يحدث بينهما تواصلٌ أو تفاعلٌ وجدانيّ حقيقيّ.
وثانيها، هامشيّة شخصيّة كازيمودو، وتعمّد عدم التركيز عليه، فما وقف عنده هيغو من مأساويّة فادحة في تكوينه، وألمٍ دراميّ رهيبٍ عاناه خصوصا حين اصطدم حبُّه لراعيه بعشقه الصامت لتلك الفتاة التي عطفت عليه، ولم تشمئزّ من قبحه.
وثالثها، إيحاءٌ محتمَلٌ بأنّ النهاية لن تكون مأساويّةً كما نخشى أو نتوقّع؛ فتأخير هذا المشهد الاحتفاليّ وحشرُه بين مقطعيْن مأساويّيْن: مقطع إدانة إزميرالدا، ومقطع إعدامها القادم، لم يكن حشرا فوضويّا أو اعتباطيّا، بل هو إلغاءٌ متعمَّدٌ للشقّ الثاني من المأساة، واستبداله بنهايةٍ سعيدةٍ، وغير متوقّعة، فلا تكاد تخرج من سجنها مؤقتا، لتودّع أصدقاءها، وتشرع في طقوس موتها، حتّى يظهر فجأةً فابيس، وقد حملَ عريضةً تشهد ببراءتها، وتدين الفاعلَ الحقيقيَّ فرولو، الذي يفقد أعصابَه وينقضّ عليها محاولا طعنها، لولا أنّ كازيمودو يفتكّ منه الخنجرَ، ويهوي به عليه، فتكون النهاية موت الشرير، ولقاء الحبيبيْن، اللذيْن يُسدَل الستارُ على رقصةٍ ثنائيّةٍ رقيقةٍ لهما وهما في غاية السعادة والانسجام.
ورغم ما في هذه النهاية من إرضاءٍ لرغبات عامّة المشاهِدين، ورغم أنّ الخروج عن حدود النصّ المرجعيّ ومنجزاته ليس بالأمر المرفوض دائما، إلا أنّني أراها نهايةً ضعيفةً جدّا، ومربكةً للخط الواقعيّ الذي تُصنَّف ضمنه هذه الرواية؛ ففيها تجاهلٌ ساذجٌ للفروقات الطبقيّة بين إزميرالدا وفابيس، وتبسيطٌ فجٌّ لخوافي النفس الإنسانيّة وتناقضاتها، التي برع فيكتور هيغو في عرضها، والغوص في دهاليزها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب