ثقافة وفنون

اللغة العربية في الحقبة الجاهلية: البداوة والاكتمال والإبداع

اللغة العربية في الحقبة الجاهلية: البداوة والاكتمال والإبداع

مصطفى عطية جمعة

هناك علاقة وثيقة بين اللغة الحضارية والخصوصية الثقافية، ففي الحضارة الغربية الحديثة، نجد أن مفردات اللغة والأساليب والتصورات وبناء الجملة، والتراكيب اللغوية والتشبيهات والاستعارات؛ تعبّر عن المجتمع الصناعي الحديث، الذي يتميز بتعقد نظمه الاجتماعية والاقتصادية، وشعور أعضائه بفرديتهم الذاتية، أي أن التميزات التي يقيمها مجتمع ما من المجتمعات، تظهر في تعبيراته اللغوية، معبرة عن أنماطه الثقافية، فالمسألة تبدو وكأن اللغة تختار من البيئة العامة بعض الملامح ذات الأهمية الخاصة، وهي لذلك تعطي لهذه البيئة الخاصة، نوعا من التنظيم أو البناء الخاص بتلك الجماعة بالذات، وهو ما يفتح المجال لدراسة علاقة اللغة بالمجتمع والثقافة، ولتصبح اللغة معبرة عن ثقافة المجتمع، وعن طبيعة بيئته الجغرافية والطبيعية. والأمر ينصرف أيضا إلى طرائق التفكير في المجتمعات الحضارية وعلاقتها باللغة، التي ستكون باستخدام أنواع معينة من الرموز، التي تبدو في لغة الناس وتعاملاتهم اليومية وأيضا في علومهم، وأيضا في أنواع الأشياء وماهيتها التي يعتقدون بأهميتها، وكذلك في الطرق التي يمثِّلون بها لأنفسهم العالم الفيزيقي والاجتماعي والأخلاقي، الذي يعيشون فيه. فالشعوب التي تتكلم لغات مختلفة، تعيش في الواقع عوالم مختلفة، واللغات التي يتكلمون بها تؤثر بدرجة كبيرة في مدركاتهم الحسية، وفي أنماط تفكيرهم المعتادة. فهناك ما يسمى الكون الصغير الذي هو العالم الصغير، الذي يحمله كل شخص في داخله، ويستخدمه في قياس وفهم العالم الكبير، وبالتالي فإن نظرة الإنسان إلى العالم الخارجي الواقعي، تحددها نشأته اللغوية، وكذلك في تصوراته عن الزمان والمكان.

فإذا كانت اللغة مرآة عاكسة لثقافة المجتمع، فهي أيضا عاكسة لتصورات الفرد في المجتمع، فهي أداة تعبير وتفكير، فالإنسان يفكّر ويعبّر من خلال الرموز والكلمات والتعبيرات التي تتيحها لغته. فالفرد عندما يعبر عن رؤية ما، أو موقف ما، فإنه يستحضر مخزونه الثقافي اللغوي، والأمر جلي في الأمثال الشعبية، التي يستخدمها الفرد في تعبيراته اليومية، فهو يتوسل بالمثل للبرهنة على فكره، والمثل مأخوذ من الثقافة الشعبية المتراكمة، وإذا تأملنا تكوين الأمثال، سنجد أنها تعبر عن مواقف وأحداث وقصص مجتمعية، ربما تنسى القصة الأصلية، ويتبقى المثل المعبر عنها. أيضا، فإن القاموس اللغوي المستخدم في المجتمعات الصحراوية يختلف عن مثيله في المجتمعات الزراعية، أو البحرية. والأمر يتعلق أيضا بالجانب الحضاري، فاللغة اليومية تعكس المستوى الحضاري الذي بلغه المجتمع، ففيها من المصطلحات والتصورات والمفاهيم والأدوات والأجهزة ما يبدو في اللغة اليومية، وأيضا في اللغة المكتوبة، ولغة الفنون والعلوم.
يجرّنا هذا الطرح إلى نقاش حول اللغة العربية قبل الإسلام، ونطرح سؤالا مفاده: هل نعدّ اللغة العربية في العصر الجاهلي لغةً بدائية، لأنها عبّرت عن مجتمع بدوي صحراوي؟ والغاية من هذا السؤال النظر إلى وضع اللغة العربية في العصر الجاهلي، عندما جاءت للعرب رسالةُ الإسلام، واستمعوا لإعجاز القرآن اللغوي والبلاغي، وهم المتباهون بأنهم أرباب البيان، حيث استوت العربية وبلغت نضجها في حقبة الجاهلية، متجليةً في روعة النصوص الشعرية، التي عبّرت عن حياة المجتمع الجاهلي، وأرّخت أحداثه، وصاغت مشاعر الناس في أبيات شعرية، تناقلتها القبائل في حلّها وترحالها، وترنمت بها حناجر الشعراء في حلقات المساجلة، وفي منافسات سوق عكاظ، وحفظت الصدور قصائد المعلقات، بأبياتها الكثيرة، جنبا إلى جنب مع القصائد القصيرة.

ولذا، يقول إبراهيم السامرائي في كتابه «اللغة والحضارة»: «لقد ورثنا لغة عامرة بمادتها وأساليبها، ذلك أن النصوص الأولى للعربية، لا يمكن أن تكون نصوصا بدائية، لأنها تفصح عن أن هذه اللغة، بلغت درجة من الكمال، إننا نخطئ كل الخطأ، إذا اعتبرنا عصر ما قبل الإسلام عصر بداوة وتأخر وفوضى بعيدة عن أي لون من ألوان الرقي الإنساني، فالنظر إلى تراثنا في حقبة ما قبل الإسلام يكشف عن نواح حضارية. إن هذا النظر الخاطئ، قد تأتى من لدن باحثين، أرادوا أن يظهروا مادة الحضارة الإسلامية الزاهرة، فوقعوا في هذه المقابلة الخاطئة».
فالله تعالى شرّف العربية بإنزال القرآن الكريم بلفظها، ولكن هذا ليس معناه أنها كانت لغة بدائية سطحية، وإنما هي لغة مجتمع أنتج أشكالا شعرية وبلاغية عالية المستوى، فهو مجتمع فقير في بيئته، عظيم في نتاجه الإبداعي اللغوي.
ويعود إبراهيم السامرائي ليؤكد، أن مادة الأدب الجاهلي كانت عامرة بمبانيها ومعانيها، فالعربية الجاهلية لغةٌ استوفت من الكمال الشيء الكثير، ذلك أن الألفاظ – أسماء وأفعالا مواد أخرى- قد تهيأت لها، فكان النظام الفعلي على أتم من وجه، من حيث عدد الأبنية، وانصراف هذه الأبنية إلى معان واضحة، وكان نظام الأسماء ووضع الجملة العربية كاملا لا يشكو نقصا، ثم إن هذه اللغة بلغت من التطور ما جعلها أداة صالحة، طيعة تمد الشاعر والناثر بطرائق مختلفة للوصول إلى المعاني. ومن دلائل هذا النضج أنها حفلت بنظام موسيقي محكم البناء، فكانت أوزان الشعر عامرة بموسيقاها، مستوفية دقائق في الوزن والإيقاع؛ لا تتأتى إلا بعد أن تكون قد سلخت من عمرها دهرا طويلا، ثم إن هذه العناية في الموسيقى اللفظية، لا تقتصر على الشعر، بل تجاوزته إلى النثر، ذلك أن الجملة العربية تجري على نسق من الطول والقصر ومراعاة أجزائها؛ ما يجعل منها سلسلة منسقة الحلقات متوازنة، في الطول والقصر، ثم تجاوزت هذا الحد إلى العناية بأصواتها، في الكلمة والجملة.
فاكتملت اللغة العربية على مستوى الإبداع الشعري، والنثري، وفي الحكم والأمثال، وفي الأحاديث اليومية، وفي مختلف استخدامات العرب لها، بل إن الذائقة العربية في الجاهلية كانت على درجة عالية من الفهم والتذوق والإحساس الجمالي، فلما نزل القرآن الكريم أدرك العرب عظمة منطوقة، وإعجاز بلاغته، وسمو رسالته. ويقدّر الباحثون في العصر الجاهلي قرنا ونصف القرن قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهي الحقبة التي تكاملت فيها اللغة العربية ونضج الأدب الجاهلي، وتسامت الذائقة العامة في غالبية أنحاء الجزيرة العربية، كما تخبرنا قصص العرب وأيامهم، وما ورد عنها من أشعار وسرديات. أما مكة فكانت المدينة التي لها الزعامة السياسية، فلم يدفع سكانها إتاوة قط لملك أو سلطان أو زعيم قبليّ، ودانت لهم قبائل كبيرة، مثل خزاعة وثقيف وعامر بن صعصعة، وفي الوقت نفسه الذي يفرضون فيه إتاوات على التجار الوافدين إليها، عربا كانوا أو أعاجم، لأنها كانت بيت التجارة الأساسي في الجزيرة العربية، ومحضن الكعبة المقدسة. فيها يقيمون أعيادهم الدينية، وأسواقها التجارية تُعرَض فيها السلع، وكانت أسواقا أدبية أيضا، يتنافس فيها الشعراء، ويقوم بينهم المحكّمون – من أمثال الشاعر النابغة- فيقضون للفائق لبراعته، وبذلك تهيأت لمكة حركة أدبية واسعة النطاق، سيطرت فيها لغة قريش (لهجتها)، لتصبح لغة الأدب الرفيع، وهو ما جعلها تتلقى القرآن بإدهاش ثم بإيمان.

جدير بالذكر أن مفهوم «الجاهلية» يعني «زمن الفترة قبل الإسلام»، أي الحالة التي كان عليها العرب قبل الإسلام؛ من الجهل بالتوحيد والرسل وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكبر والتجبر، فالجاهلية ليست ضد العلم، لأن اشتقاق لفظها من الجهل بمعنى السفه والنزق والغضب، فهي تقابل الإسلام، الدال على الخضوع والطاعة لله عزّ وجلّ، وما فيه من قيم عليا وسلوك كريم. وقد دارت الكلمة في القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر في العصر الإسلامي وما بعده حول هذا المعنى. فعندما تنزّلت آيات القرآن الكريم، كان المجتمع العربي الجاهلي يعاني أمراضا اجتماعية، وأخلاقا فاسدة، وقيما سيئة، ولكن أهله تميزوا بلغة مكتملة البنية، ثرية المفردات، عظيمة في الإبداع الشعري، وفي الحكم والأمثال، فتذوقت بلاغة القرآن، وأدركت سموق التوحيد، فوعوا، وآمنوا، وحملوا رسالة الدعوة، وجابوا بها الآفاق، لتصبح العربية لغة القرآن والحضارة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب