ثقافة وفنون

حين يصبح الشعر وطناً: تجربة عدنان الصائغ بين بغداد والمنفى

حين يصبح الشعر وطناً: تجربة عدنان الصائغ بين بغداد والمنفى

أثير الهاشمي

(يأخذه المنفى إلى طرق مثقلة بالغياب، عبر محنته المعلّقة في سؤاله الأخير)
للشاعر عدنان الصائغ، طريقته الخاصة في الكتابة، هو يحاول أن يقدّم رؤية شعرية خالصة بمرجعيات ثقافية متوهجة، إذ يعمد إلى توظيف إمكانياته وما يحمله من ثقافة تؤهله لأنْ يكون شاعراً حالماً، مثقفاً، جامعاً لرؤية معرفية حقيقة وشاملة، عن التاريخ والأدب والجغرافية والسياسة والعلوم الأخرى، فنجده يُشكّل نصوصه الشعرية وفق طريقة وأداء ومضمون، على وجه الدقة والتميز، حتى في اختيار المفردات اللغوية.
يحمل الصائغ فكراً مميزاً، ووعياً كافياً؛ ومرجعيات ثقافية شاملة، تجعل نصوصه مهيمنة بالدلالة الدقيقة، التي تُسهم في خلق الأثر الطيب لدى المتلقي، وبالتالي تكون نصوص الصائغ ثريّة بالمعلومات والصور والرؤية الثقافية المتعددة.
حُدّت ْ نصوص الصائغ بماهية التأمل، والرمز، والصور الشعرية، فجاءت وفق تطويع واقعي بمتخيل واسع، وعلى أساس متخيل شعري بواقع ملموس، فكان النصّ ذا دلالات أعمق، ومضامين أشمل. تأثّر الشاعر بالمنفى، فكان المنفى بالنسبة إليه ردّة فعل قوية، حتى جاء صوته صادحا عن بلادهِ التي ابتعد عنها مُضطراً، وهو يقطن في لندن؛ لذلك كانت نصوصه مفعمة بالشوق إلى بغداد، رغبة منه بحلم جديد، وعودة تستعيد الماضي بأمل آخر:
أخذتني المدينةُ؛ لندن…
ما لي
أمرُّ على جسرها
فأرى نهرَ دجلة،
مختضباً
والنخيلاتِ، مثقلةً بالغيابْ
ولا قمرٌ….
– من ثنايا البيوتِ –
يردُّ لابن زريق
بريدَ العتابْ
إنّ رغبة الشاعر في الكتابة عن بغداد، تأتي من خلال إصراره على الكتابة بشوق، وحزن، فنصوصه مُتيّمة بولعهِ ومحنتهِ وصبرهِ، مفعمة ببعدهِ، وفقدهِ، ورؤاه:
العراقُ الذي يبتَعدْ
كلّما اتَّسَعَتْ في المنافي خطاهْ
والعراقُ الذي يَتَّئِدْ
كلّما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ..
قلتُ: آهْ
والعراقُ الذي يرتَعدْ
كلّما مرَّ ظلٌّ
تخيَّلتُ فوَّهةً تترصَّدُني،
أو متاهْ
والعراقُ الذي نَفْتَقدْ
نصفُ تاريخه أغانٍ وكُحْلٌ.. ونصفٌ طغاهْ
يحاول الشاعر صياغة خطابه الشعري وفق ما أحاط به المنفى من أسى للروح، وحزن للقلوب، وتعب للجسد، فهو لا يبالي الغربة فقط، بل ما آلت إليه البلاد من خراب الحروب:
أعرفُ (ليل الطغاة طويل) كما سيقول الرواة
و(عمري قصير) كما أخبرتني الحياة
فكيف أرى الفجر
من أين يطلع فجر العراق
وحرّاسنا كلّ يوم يعلّون
أسوارنا؟ ومن أين تأتين؟
ما بيننا العمر، هذي المفازات، والعسس المترامون وسع المدى.
يُقدّم الصائغ عبر نصوصه الشعرية صورة جليّة عن مشاعرهِ وأحاسيسهِ المرتبطة بين المنفى وبلاده على أحرّ من اللغة، فهو يُعطي للّغة رمزية تفِي بغرض المعنى، وتُقدّم لحبكة الأسئلة رسالة تُضفي بماهية الإجابة، وبين المنفى والبلاد ألف خيط من الكلمات يمدّه؛ لمحاولة الوصول إلى مبتغاه:
كلَّ عامٍ
الأذرعُ تتعانقُ
وأنا أُحدِّقُ
عبرَ نافذةِ المنفى
إلى وطني
كعُصْفُورٍ يرمي نظرتَهُ الشريدةَ
إلى الربيعِ.. من وراءِ قضبانِ قفصِهِ
كلَّ عامٍ.. يقفُ بابا نوئيل
على بابِ الوطنِ ويدقُّ.. يدقُّ
لا أحد ..
الآباءُ بكّروا إلى مساطرِ الحرب
الأُمّهاتُ هرمنَ في القدورِ الفارغةِ
الجنرالاتُ ذهبوا إلى الإذاعةِ
يلقون الخطبَ والتهنئات
والأطفالُ يئسوا
فناموا قربَ براميلِ القمامةِ
يَحْلُمون بهدايا، تليقُ بطفولاتِهم المؤجَّلة
تتجلّى نصوص الصائغ بماهية الوطن الكبير، بحزنه وفرحه، بحبه وآلامه، ببعدهِ وقربه، فهو يعدّ بلاده مركز الأرض، بكلّ تفصيلاتها، وعنواناتها، لكنه لم يزل في المنفى، يُمني النفس بشبر من أرضه التي وُلد فيها، وتغرّب عنها:
أريدُ شبراً من هذه الأرضِ الواسعةِ أضعُ عليه رأسي ونعالي وأنام
أريد رغيفاً واحداً من ملايين السَنَابِلِ التي تتمايس أمامي كخصورِ الراقصات
يجوبُ الصائغ كل الأمكنة، ويستطرقها عاشقاً حالماً، ويستذكر قراه التي تركها قهراً، لكنه ظلّ يحلم بما ترك من أمكنة، ومحطات، أثّرت في صباه، وكمّلت له معناه، ومن ثم صار يرغب بالعودة إلى مكانهِ الأول:
هل مطرٌ بلندن؟
هل أسيرُ لآخر المشوار؟
– يا بغداد –
أم يوماً أعود!؟
يستذكر الصائغ الأبطال، ويناديهم، يتحدث معهم عن ظهر غيب، فيوحي بأبطال كانوا هنا في بلادهِ، يرتّب الألفاظ، ويستجمع المعاني، فيورد أزمنة الخوف في ذاكرتهِ، ويبوحها على أمل الخلاص:
في وطني
يَجمعُني الخوفُ ويَقسمُني:
رجلاً يَكتُبُ
والآخرَ – خلفَ ستائرِ نافذتي –
يرقبني
يعبر جسور المنفى تحضر دجلة والفرات:
أخذتني المدينةُ؛ لندن
ما لي
أمرُّ على جسرها
فأرى نهرَ دجلة،
مختضباً
والنخيلاتِ، مثقلةً بالغيابْ
يحاول الصائغ أن يُخفي رمزية القول، ويُظهر واقعية المعنى، عندما يأخذه المنفى إلى طرق مثقلة بالغياب، عبر محنته المعلّقة في سؤاله الأخير:
هل لنا جُرْعَةٌ
عِنْدَ بغداد
قبلَ
احتضانِ
الترابْ؟!
هذا هو السؤال الأبدي الذي يُقلق الشاعر، في غربتهِ، ويُضفي على مشاعرهِ الارتباك في منفاه، ويؤكّد في ملامح لغته على الحزن، ويُشكل معناه على الشوق والحنين إلى بلاده الأولى، وهو ما بين الرغبة مُجبراً على البقاء في (لندن)، والرغبة مُخيراً على العودة إلى (بغداد)، تظلّ الأسئلة التي يطرحها باقية، تحتاج إلى إجابات تقنعه بما يُريد.

٭ كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب