دراساتثقافة وفنونمقالاتكتب

«فجّ الضباب» رواية التونسي الأزهر الزنّاد: مطاردة التأويلات وتكرار الحكاية

«فجّ الضباب» رواية التونسي الأزهر الزنّاد: مطاردة التأويلات وتكرار الحكاية

عادل ضرغام

في رواية «فجّ الضباب» للتونسي الأزهر الزناد، هناك سؤال مهم يمكن أن يكون ضروريا لقارئ العمل، هل يمكن للإنسان أن يخترع حكاية لابنه الصغير حتى ينام، ثم يكتب عليها أن يعيش طرفا منها، أو يكمل أجزاء منها بشكل أو بآخر؟ القصة في الأساس ترتبط بالاختفاء والغياب، وإن أخذت دروبا مختلفة بين القصة المحكية المتخيلة والقصة الواقعية في نهايتها. الرواية تمثل رحلة بحث عن غائب، بما تفرضه من فرضيات وتأويلات، تتشكّل وفق سياقات مختلفة.
في هذه الرواية يبدو تخصص الكاتب فاعلا، فالكتابة لا تنجو من تخصص صاحبها، ولا من سحر الصورة الشكلية لإمبرتو إيكو، فهناك تمازج أو تجاوب واضح بين النهج البوليسي المنفتح على التعدد التأويلي والتفسيري. فالبحث عن الشخصية المفقودة لا يأخذ توجها واحدا، بل يولّد في تمدده انفتاحا على تفسيرات وفرضيات أثناء رحلة البحث والاستقصاء. فاختفاء البطل أو منعم الباسطي، لا يبدو بعيدا عن اختفاء المعنى وخفائه في تلقي النصوص، فالقارئ أمام إشكالية تتسع تفسيراتها وتأويلاتها، وهناك لكل تفسير أو تأويل موجّه أو مرشد، لوضعه في حيّز الاحتمالات الممتدة ولكن كل تأويل له مداه الزمني، وينحسر بعدها.
الرواية ـ أيضا بشكل خفي- تحاول تجسير علاقة المثقف بالسلطة، ولا تخلو من همّ سياسي، لكنه هم سياسي خافت، لا يظهر بشكل مباشر، بل في ظل تأويلات خاصة للعنوان، وكأنه مساحة زمنية لغياب الرؤية، ومحاولة الإفلات منه إلى النور، خاصة إذا وضعنا المدى الزمني للحكاية التي تبدأ بالعهدة القادمة للحاكم في 2008 وفي ظلّ تأويلات خاصة بمساحات التداخل للحكايات الثلاث، المتخيلة التي يحكيها الأب لابنه، ولا يكملها.

مطاردة التأويلات المتناقضة

تمثل حادثة اختفاء الدكتور منعم الباسطي وزوجته حجر الزاوية في النص الروائي، وأساس الحركة نحو البحث والتفسير. ويتعامل النص الروائي مع هذه الحادثة كما يتعامل القارئ مع النص بحضور فرضيات عديدة، وفي ظل هذا التعدد حين تقلّ مشروعية اعتناق تأويل أو تفسير، ينبت أو يتشكل بالضرورة تفسير آخر، ينمو على أنقاض الآخر، فيصبح القارئ داخل فخّ التأويلات التي تولد وتنمو، ثمّ يقل وميضها، إلى أن تذوي، قبل أن تموت بشكل ما، في سياق اكتشافات جديدة. ولكل تأويل أو تفسير بنية نصية تتوسّل بالإشارات المقدمة بدقة محسوبة في بداية النص الروائي، تشكل حين تتجمّع مدخلا لقراءة عملية الغياب والاختفاء، وربما تكون جزئية أو تأويل انتقام السلطة من معارضيها الملمح الأكثر حضورا في بداية النص الروائي.
يتشكل تفسير انتقام السلطة من منعم الباسطي من خلال إشارات دالة، تتمثل أولا في المقال الذي كتبه منعم الباسطي ضد السلطة، وعلى نحو مباشر ضد رأسها، كاشفا عن رفضه لتوليه عهدة أو فترة جديدة، وينمو في إطار هذه الإشارة الأولى، وفي التوجه ذاته الحوار الكاشف بينه وبين زوجته (غالية) قبل الاختفاء معا، ويكشف الحوار عن رفضه الانضمام إلى الفريق الطبي لرأس السلطة. ولكن كل ذلك يمكن أن يكون غير كاف لميلاد تفسير له وجاهته يثبت تورط السلطة في عملية الاختفاء، فالسلطة- أية سلطة- لا تعادي المتكلمين في حقّها، بل تعدّ مثل هذه الأفعال نوعا من التهوية الصحية لبقائها، وكأن ذلك يسوّغ لوجود مساحة من الحرية والديمقراطية، ولكنها قد تعادي الصامت ذا الأثر الفعّال. تعدّ مقابلة سامي الباسطي – الباحث الأول عن سرّ اختفاء أخيه منعم – بالمحامي أحمد بلحاج بداية لتغوّل هذا التأويل الخاص بانتقام السلطة، يبدو ذلك واضحا في قوله الكاشف عن التسليم بموتهما أو قتلهما من خلال تيار الوعي، بعد لقائه بالمحامي (لن يعود منعم.. لن تعود غالية.. لقد التحقا بالأميمة). ويستفحل هذا التأويل بعد انتقاله من مدار داخلي إلى مدار خارجي.
التفسير أو التأويل السابق يمثل جهة الفرد من أهل وسياق ومقاوم بجزئياته وشخصياته، ولكن السلطة خاصة بعد دخول الخارج والتأكيد على هذا التأويل، ووضعه بوصفه خيارا نهائيا أو خيارا أليق بالقبول، تمارس في خروجها من أزمتها، تجهيز خطابها الدفاعي الذي يحمل في طيّاته تأويلا للغياب والاختفاء الكثير من الكذب والتدليس (اللذين سوف يتجليان باكتمال النص)، كما أنها تمارس تشويها في حق المختفي وزوجته، فتقدم في تبريرها للعالم ومؤسساته المدنية في الداخل والخارج، المختفي على أنه واحد من المتورطين مع العصابات الدولية بالخارج، وتشير إلى تمركز لهذه العصابات في تركيا واليونان، ففي سردية السلطة هناك اختطاف لمنعم الباسطي وزوجته لخلاف مع المهربين، وتأخره في تسليم المطلوب المتفق عليه بينهما.
فالقارئ أمام سردية سلطوية تقوم على الكذب وصناعته، بتزوير الأصوات والصور والرسائل والفيديوهات، وتأشيرات وثيقة السفر الخاصة بالمختفي، بالإضافة إلى اتهامه بعمليات سرقة الأعضاء والمتاجرة بها من خلال عمله بالمستشفيات الحكومية، وذلك من خلال تسجيل شهادات آنية قائمة على التواطؤ، لتمرير مشروعية اتهامه، فكلها تثبت ضلوعه بسرقة أعضاء المرضى. السلطة في الوصول إلى تبييض صورتها من تشويهات الخارج والداخل، لا مانع لديها من تشويه الآخرين، خاصة إذا كانوا من أصحاب الرأي.
بعدّ تأويل خطاب السلطة الذي يتجلى زيفه في المتبقي من النص الروائي، وهو التأويل القائم على الكذب، وصناعة المحتوى المزيّف، يحدث نوع من الإغلاق في مقاربة واجتراح تأويلات جديدة، فهذا التأويل- أي تأويل السلطة بخطابها- يمارس نوعا من التشويه تجاه الفرد، يقلل مشروعية وجود تفسير جديد يباينها بشكل واضح. هذا يستوجب انسحابات من أفق التأويل مثل انسحاب سامي الباسطي الباحث الأول بموته، ووجود التأويل- أو استمرار وجوده على نحو ما، حتى لو كان مبطّنا داخل الفرد- شيء مهم، ولهذا نجد الابن وليد الباسطي، يقوم بدور فارس البحث في المتبقي من النص، لأن في هذا البحث براءة لأبيه، من سيل الاتهامات والتشويهات التي أسدلها وعمل على إحكامها في الإخراج خطاب تأويل السلطة، وهذا التأويل الخاص بوليد الباسطي، تأويل مناقض لخطاب السلطة، لكنه منزو مكتوم بداخله، يحاول البحث عن مؤشر أو حدث، يعيد للعملية التأويلية نصاعتها وصدقها المفقودين.
إن تعدد التأويلات على تناقضها، وتلاشيها بالتدريج، بعد الوصول إلى الجثتين على حالتيهما داخل السيارة، بعد أن جرفتهما العاصفة في (فجّ الضباب)، أثناء عمل ابنهما –بوصفه مهندسا- على إعادة الحياة للبحيرة المعلّقة التي تولدت بفعل العاصفة، يوجهنا إلى أن التأويلات أو التفسيرات في حل لغز أو مقاربة النصّ، ليست بالضرورة على درجة واحدة من المشروعية، فالتأويلات منها المقبول، وغير المقبول أو المفرط، خاصة إذا كانت الشخصية المسرود عنها سامي الباسطي الباحثة في مساحة طفولة الابن عن حل للغز الاختفاء، لديها حساسية عالية في الإمساك بالتوليد الأولي، عندما تتعرّض لأي موقف أو قول تنصت إليه. فقد بنيت الرواية على السرد بضمير الغائب، وفي جزئيات كثيرة على تيار الوعي الذي تستخدمه هذه الشخصية بوصفه أداة للتفسير والتأويل، فحين يخبره المحامي باستدعائه- أي المحامي- إلى الشرطة، يبدأ التفسير المباشر من سامي من خلال تيار الوعي (مؤامرة في السياسة؟ رسالة مزورة، فما أكثر مزالق المحاماة في هذه البلاد)، وحين يخبره المحامي أنه وجد سكرتيرته في قسم الشرطة، ينبثق في ذهن سامي تهمة التحرّش.

تكرار الحكاية وتجدّد البطولة

القارئ للرواية يدرك أن هناك حكايات ثلاثا تتكرر، وهي حكايات تمثل طبقات متتابعة، فيها نوع من التوازي والتماهي والتشابه. الأولى تتمثل في القصة التي كان منعم الباسطي يحكيها لابنه وليد حتى ينام، وهي آلية معهودة في سياقاتنا الحضارية. والحكاية عن أمير اسمه (حسام)، يتمتع بصفات الفروسية، ذهب للبحيرة للراحة والاغتسال والتريّض، وأعجبه منظر الأسماك والبحيرة. وفي لحظة ما تحوّلت الأسماك إلى فتيات، وتعرف على أميرة البحيرة، ونام الصبي، ولم يكمل الأب الحكاية. الانقطاع أو التغييب أو الإغلاق، وكأنه فعل من أفعال الإرجاء الذي يجده القارئ في هذه الحكاية، بمعنى أن تترك بدون إكمال، خاصة بعد أن طلبت منه زوجته إكمالها، يمثل لغزا مشابها لحال الانقطاع أو الغياب للدكتور منعم الباسطي المرتبط بسقوط سيارته داخل بحيرة مشابهة أثناء مروره وزوجته بفجّ الضباب، وكأن هذا الغياب، ووقوف الحكاية عند الفقدان من دون تفسير، يجعل هذه الحكاية تنويعا على الحكاية السابقة للأمير حسام، ومما يؤكد مشروعية هذا التفسير وجود مشابهة في الصفات المسدلة على الأمير حسام وعلى منعم الباسطي، وخاصة بعد استبعاد سردية خطاب السلطة الكاذبة، وكل الصفات التي حاولت تشويهه من خلالها.
الصورة المقدمة لمنعم الباسطي من خلال بعض الشخصيات المحيطة، مثل المحامي أحمد بلحاج-بعيدا عن رؤية أهل القرية والأهل الذين لا يدركون سوى كونه طبيبا- صورة تثبت لها تشكيلا خاصا يكشف عن الفروسية، بالإضافة إلى الصورة التي كشف عنها حواره مع زوجته عن الرئيس بن علي التي تشير إلى حتمية القيام بعلاجه، بالرغم من رفضه أن يكون أحد أفراد طاقمه الطبي، ويتجلى الأمر ذاته في تعامله مع الفتاة (غالية)- قبل أن تصبح زوجته- حين تعطّلت سيارتها بفعل المطر والعواصف. وكلها صفات تتقاطع مع صورة الأمير حسام بطل الحكاية المتخيلة، في انشدادها إلى المروءة والشهامة، وارتباطها بالغياب والانقطاع عن الحياة الواقعية، بالرغم من اختلاف الغايات في كل رحلة.
تمثل طبقة وليد الباسطي أو حكايته ـ أيضا – جزئية الإكمال الذي يظل مرجأ، في القصة المتخيلة وأميرها (حسام)، ووقوعه في هوى الأميرة دون إكمال إلا في النهاية، وحكاية الأب والأم الواقعية التي اكتملت، وتم كشف لغزها، بعيدا عن تعدد التأويلات والتفسيرات، على اختلاف منطلقاتها، في تشكيلها فرضيات انتهت بفرضية خطاب السلطة الذي أغلق حواف ومسام الحكاية عن التمدد، يتجلى ذلك في قوله من خلال تيار الوعي (ها قد عدتما إلي.. عدتما إلى العالم لتنكشف الحقيقة، لتنقشع الكذبة الكبيرة… فأطمئن أنا… الآن يمكنني أن أدفنكما مثل جميع الناس).
في ظلّ الانتباه إلى اختلاف طبيعة السلطة بين زمنين أو سياقين، زمن منعم الباسطي في 2008 قبل الثورة، وزمن وليد ابنه في 2020، قد يشير العنوان (فجّ الضباب) في إطار انفتاحه على السياسي- ولو من طرف خفي- إلى انعدام الرؤية أو غبشها، بسبب سردية السلطة الجاهزة التي تطال كل معارض. الرواية في اشتغالها على السياسي لا تتوسل إليه بشكل مباشر، بالرغم من أن هناك إشارات إلى انجازات بورقيبة، وإلى الانحياز إليه انحيازا جزئيا بشكل غير مباشر. ولكن ارتباط الحكايات الثلاث بالماء والبحيرة، وتحوّل شكلها من عصر إلى عصر، ومن قصة إلى قصة، يشير إلى معان ودلالات في كل حكاية. فحب الوطن والأهل والوفاء كلها معان تتحقق في كل الحكايات بأشكال مختلفة.
الرواية مهمومة بأشياء سياسية، وبحكاية أو حكايات أخرى قد تكون الشكل الأساس للكتابة الروائية، ولكن كل ذلك مجدول ومشدود داخل مفاهيم تعيد إلى الصدارة فكرة التأويل والتفسير، بتشكلاتها المختلفة، وتضارب أشكال وجودها وأخلاقياتها بين التأويلات المفرطة، والتأويلات المشدودة لفعل التأويل من خلال جزئيات مرشدة، فيها شبهة من بعض يقين يتكوّن بفعل القوة الراكزة في الأدلة والأسانيد التي يشير إليها، ويستدعيها فعل التأويل، وكأن نص الرواية يوجهنا نحو حدود خاصة لفعل التأويل، تبعده عن الإفراط في التهويم دون جدارة ملموسة.
الأزهر الزنّاد: «فجّ الضباب»
بوب لابرس، تونس 2023
342 صفحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب