سجال بين الحقيقة وحدود التخييل
سجال بين الحقيقة وحدود التخييل
واسيني الأعرج
استغربْتُ كثيراً وأنا أتابع الندوة الصحافية التي عقدتها السيدة المحامية القديرة والمناضلة الوطنية فاطمة الزهراء بن أبراهام، التي أكن لها احتراماً كبيراً لما تقوم به من جهود في تبيان جرائم الإبادة التي تحاول المؤسسات الاستعمارية التغطية عليها وإخفاءها، التي ترافع فيها في قضية حساسة: استعمال حياة السيدة سعادة غربان في نص أدبي [حوريات] للروائي كمال داود، وإشاعة سر مهني خطير يتعلق بحياتها الخاصة من خلال زوجة كمال، المختصة النفسانية التي تابعتها عن قرب. وكلها حالات يعاقب عليها القانون بصرامة، خاضت السيدة المحامية في مسائل قضائية تعرف قوانينها جيداً، وأخرى أدبية تخييلية تتجاوز مؤهلاتها، فهي في النهاية ليست لا ناقدة أدبية ولا عارفة بتحولات التخييل الأدبي داخل نص، ركزت على فكرة إسقاط جائزة الغونكور من الكاتب مثلاً، الجائزة لم تعط للثيمة الأدبية (قضية شخصية فجر ومأساتها، التي تعرضت للذبح ونجت بأعجوبة).
من قرأ الرواية يدرك بسرعة أنها كتبت بتقنية عالية وبخبرة فنية أهلتها لأعلى المراتب الأدبية، لثلاث جوائز، فاز باثنتين وأخفق في الثالثة (رونودو)، مثلها مثل روايته الأولى: [ميرسو/ تحقيق مضاد]، رواية وضعت أدب ما بعد الكولونيالية وجهاً لوجه مع الأدب الكولونيالي (ألبير كامي/ الغريب). نص كان سيفوز بالغونكور لولا تدخل الطاهر بن جلون، كما ورد في الكثير من التقارير الثقافية في الإعلام الفرنسي، الذي وقف مع كاتبة كانت مرشحة للغونكور. إذن، لا نقاش في الاستحقاق الأدبي، المشكلة الكبيرة تتعلق بالحيثيات السياسية التي صاحبت النص وسبقته أيضاً، ومواقف الكاتب من القضايا العربية والعالمية الحساسة، وتلك مسألة أخرى ذكرتها في مقالة سابقة: هل الغونكور تعطى للقيمة الأدبية فقط؟ وتساءلت لماذا أسقطت جائزة الغونكور عن سيلين، وهو كبير الكتاب الفرنسيين وكان فائزاً بلا منازع؟ وأخبره صديقه ساعات قبل الإعلان الرسمي بالفوز، وفجأة تغير كل شيء، ومنحت الجائزة لرواية “الذئب” لغي مازولين في سنة 1932. من يتذكر اليوم مازولين؟ سبب إسقاط الجائزة لم يكن أدبياً مطلقاً؛ لأن رواية [سفر إلى منتهى الليل] ما تزال تحتل إلى اليوم القوائم المتقدمة في الروايات الأكثر قراءة، ولم يكن سيلين مخطئاً عندما قال لغاليمار: أمنحكم رواية ستكون خبزكم على مدار القرن. أخذت منه الجائزة لأن أحدهم، من أعضاء اللجنة، قال إنه لا يمكن إعطاء الجائزة لشخص معاد للسامية. انتهى أمره في ثانية واحدة. حتى غالميار، التي أدخلته إلى حلقة الخالدين لابليادر [الثريا La Pléiade] نشرت أعماله كلها، وأبقت نصوصه “اللاسامية” خارج مدار النشر. إذن، في الغونكور، السياسي مصاحب بالقوة للخيارات النهائية. لو افترضنا أن موقف كمال داود من القضية الفلسطينية وأحداث 7 أكتوبر على غير ما عبر عنه ملصقاً كل شيء بالإرهاب الحمساوي، سيحرم بلا أدنى نقاش من الجائزة. لم تصل الجائزة إلى حالة تخطي السياسي، حتى اليوم. لهذا وجدت في مداخلة السيدة المحترمة بن أبراهام شيئاً لا يستقيم مطلقاً مهنياً وأدبياً. مهنياً؛ من حق الضحية أن تتقدم للقضاء مع محاميتها وتترك العملية تأخذ مجراها الطبيعي قضائيًا. أما الدخول في التفاصيل التي ذكرها الكاتب في روايته تدفع إلى التساؤل: الوشم في الظهر، والذبح غير التام، وتسريب زوجة كمال السرّ، الذي يفترض أن يحفظه الطبيب، فتناقضه فكرة أخرى ذكرتها الأستاذة بن أبراهام في لقائها الإعلامي، وهي أن الضحية التي أتخيل حجم المأساة التي تشعر بها وهي تواجه مجتمعاً بكامله، تحدثت مع الكاتب والتقته، وكانت مدربة لابنه في ركوب الخيل، ما يعني أنهما تحدثا عن تفاصيل تحويل قصتها إلى رواية وربما إلى فيلم. نفترض في هذه الحالة أن جزءاً من قصة سعادة عرفه الكاتب من خلال هذه الجلسات، فهي أكثر من مجرد مريضة، ولكنها صديقة للعائلة؟ لنا في هذا السياق أن نتساءل إلى أي حد يحق للكاتب أن يأخذ حياة الغيرة كمادة إبداعية لروايته؟ الكتابة تكمن هنا، في العملية التخييلية التي تمحو القرائن أو تنقلها إلى غير مواقعها. يحتاج الكاتب إلى أن يكون على قدر غير مسبوق من الغباء ليعيد إنتاج حياة الآخرين [حرفياً] وإلا ليس كاتباً على الإطلاق. ما لاحظناه في الرواية العناصر التالية التي تجعل مهمة بن أبراهام شاقة في إثبات حرفية النقل، بدءاً من اسم العلم الذي هو محدد مهم في حالة مثل هذه: البطلة في الرواية اسمها [فجر] وفي الحياة العامة اسمها [سعادة عربان]. كان عمرها ست سنوات عندما ذبحت هي وأهلها، قبل أن يتم التكفل بها من عائلة معروفة، اهتمت بها وأنقذتها وحمتها من كل شيء حتى وفاة سيدة البيت في السنة الماضية. هل إظهار صور الذبح في الندوة يكفي؟ أعتقد أنه يضر بسعادة نفسية أكثر مما يفيدها. عندما نذهب لمضمون الرواية ونتتبع حياة الضحية بالموازاة مع النص، هناك فرق كبير هو المسافة الفاصلة بين التخييل والواقع.
في الرواية فجر Aube شابة تعمل في صالون التجميل. نفذت في صغرها (خمس سنوات) من ذبح مؤكد، بينما ذبحت أختها. كل عائلتها أبيدت عن آخرها. تحكي قصتها من خلال صوتها الداخلي لأنها لا صوت مسموعاً لها. تلوم نفسها، كيف ماتت أختها بينما بقيت هي حية. أوب (فجر) حامل، وتبدأ في محاورة مع الجنين الذي في أعماقها. وتتصاعد الرواية من خلال هذه الوتيرة التي تبعدها عن الحقيقة المرئية الواقعية وتذهب بها بعيداً نحو التخييل، دون أن يعني ذلك الغياب الكلي للعناصر الواقعية، ولكن هل هي كافية لتجريم كاتب يفترض أن عالمه تخييلي بالدرجة الأولى؟ أعتقد أن السيدة القديرة بن أبراهام تحتاج إلى قدرات كبيرة للإقناع بأن الكتاب مجرد نقل لحياة حقيقية عاشتها الضحية. استعمال ضمير المتكلم [أنا Je] لا يعني مطلقاً أن الكاتب سرق صوت الضحية. نعرف جيداً في المجال الأدبي والنقدي أن الأنا هي أنا إيهامية أدبية، وهي تتمظهر في السيرة الذاتية كما حددها فيليب لوجون. الأنا الروائية ليست حقيقية، ولكنها أدبية. وتظل قضايا أساسية تتعلق بسرقة الملف الطبي للضحية؟ وتراجع أفراد الغونكور 6X4=10 ؟ وضغط ماكرون على الكاتب للترشح؟ وتبدو لي شديدة الغرابة وتحتاج إلى إثباتات حقيقية. ذكرني هذا بحادثة الطاهر بن جلون في روايته: “تلك العتمة الباهرة” (لوسوي 2001) التي كان بطلها شخصية حقيقية عانت من سجن تازمامارت. فالتقى به بن جلون واشترى منه قصته ودافع المعتقَل عزيز يين بين عن حقه في كون بن جلون كذب عليه وعلى القراء، ولكن تلك قصة أخرى أعود لها لاحقاً.
المفيد أنه في المحصلة، الحادثة والنقاشات التي مست قطاعات ثقافية وسياسية وقضائية كثيرة، ضخمت من مبيعات رواية الطاهر بن جلون “تلك العتمة الباهرة” التي لم يحلم بها مطلقاً، بسبب النقاش حول حق الكاتب في تناول حياة الغير والعمل عليها أدبياً.
روائي جزائري