جدارية «عِبادة الخَرُوف المُقدس»: لغز ديني وبوليسي

جدارية «عِبادة الخَرُوف المُقدس»: لغز ديني وبوليسي
ميشيل أيوب سيروب
إرث حافل بالرموز
أخيراً تسنى لي الوقوف أمام لوحة من أدق وأجمل لوحات عصر النهضة، تُعرض اللوحة في كاتدرائية غنت (50 كم شمال غربي بروكسل) الفلمانية. بعد رحلة طويلة من الهجرة القسرية والسطو والاختفاء، عادت اللوحة غير مكتملة، رَمَّمتْ بلدية غنت اللوحة بعد حريق شبَّ في كنيسة سان بافون ورُسم الجزء المسروق (القضاة) من اللوحة بجهود فنانين محترفين.
تندرج اللوحة ضمن اللوحات الأكثر غرابة منذ عصر النهضة الأوروبي لغاية اليوم. لقد تعرض العمل الفني للسرقة مراراً، وإِبان الاحتلال النازي لبلجيكا، تعرض العمل لمتابعة حثيثة بُغية نقلها للعاصمة برلين. تُجسد اللوحة الحنين للقيم الروحية في العصر الوسيط، تلك القيم التي كانت عِماد المبادئ لتفسير النشوء والتضحية وفق الرؤية الدينية. يرى بعض نقاد الفن أن اللوحة تجاوزت قصص الكتاب المقدس، وما هي إلا بروباغندا لتقديس البابوية وسلطتها الزمنية.
تتقاطع وجهة نظر الفنان فان إِيك (1386 سنة الميلاد غير محسومة -1441) مع الديانات التوحيدية الثلاثة التي تعتمد على بداية نشوء الخلق من آدم وحواء، مروراً بقصة هابيل وقابيل اللذين يسعيان لكسب قوتهما من الصيد والزراعة، هذه الجزئية في اللوحة تحتمل تفسير قتل الأخ لأخيه كصراع بين حقبتي الصيد والزراعة (التوحش والاستقرار) وأيضاً رواية التضحية التي استبدل فيها النبي إبراهيم ولده إسماعيل المُلقب بالذبيح، بأمر من ربِّه: بخَرُوف، وتجسد هذه الجزئية (التضحية) احتفالية المسيحيين والمسلمين على حدٍّ سواء بما يُسمى لغاية اليوم العيد الكبير أو عيد الأضحى. وأيضاً، يظهر النبي يوحنا، في السردية الإسلامية النبي يحيى بن زكريا، وهو يدعو للصداقة الأبدية ويبشر بقدوم المسيح، ويسلط فان إيك الضوء على البتول مريم أم عيسى المسيح، بعد أن تلقت البشارة من جبرائيل، وتبدو في حالة ذهول وخجلى «قَالَتْ أنَّى يَكوُنُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسنِي بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بَغيَّا» سورة مريم 20، وهي السردية ذاتها في الاعتقاد الكاثوليكي: الحبل بلا دنس.
اللوحة الرئيسية
تحتلُ مدينةُ القدس مكانةً مميزةً في الفكر الديني، إلى جانب كونها مدينة تاريخية فهي مدينة مقدسة ولها دلالات رمزية في وجدان الشعوب، خاصة الشعوب العربية وشعوب البحر المتوسط. جَسَّد فان إِيك في اللوحة جمال وروعة مدينة القدس بأسباب الحياة التي أضفتْ رونقاً خالداً على مدينة شهدت رسائل ووصايا تدعو الإنسان للرفعة وللسلام، كأن المدينة سقطتْ من السماء: الشمس في اللوحة تحتل مكاناً مركزياً وهي رمز الأبدية والخلود، الأشجار بخضرتها الدائمة وشموخها على التلال مُترفعة عن الصراعات بين الطبقات ورجال الدين، النخيل والزيتون، وهما رمزان دينيان، بل ومقدسان في الديانات التوحيدية، يتصدران المشهد بزرقة السماء وغيومِها البيضاء وجمال الأفق لمدينة مُترامية تعلو فيها الأبراج شامخة على طرفي اللوحة، الطيور وهي تلهو بتكاسل فوق أشجار الليمون التي تُزين الجانب القصي من اللوحة، وأخيراً، تدفق الماء من الينبوع كرمز للحياة.
يتوسط الخَرُوف المقدس مجموعات بشرية متباينة، في الأعلى النساء وَهنَّ يحملنَ سَعَفات النخيل، على الطرف الآخر رجال الأكليروس: البابوات والأساقفة، وفي أسفل اللوحة إلى اليمين رجال الدين يتقدمهما بطرس وبولس، مُؤسسا الكنيسة الغربية، والخدم والنساك، وهم يصلون بخشوع لهذا الرمز المقدس، الذي سينقذهم من الهلاك! المجموعة البشرية الأكبر هي فئة الشعب، وهي خليط من مكونات أممية مختلفة، أتراك وصينيون ومكسيكيون ومقدسيون، ومن سائر الأعراق وهذا يظهر من سحنتهم ولباسهم، وهم واقفون مذهولون مندهشون من هذا الرمز. تحت أشعة الشمس، تُحيط مجموعة من الملائكة الخروفَ النازف دماً، تقدم له فروض الطاعة والخشوع. اللون في اللوحة يتأرجح بين تناغم الأحمر الفاقع والأزرق الغامق والأخضر اللامع، وهي ألوان غير واقعية على العكس من ألوان الحلي والمجوهرات وأحجار الياقوت التي حافظ الفنان على بريقها ولونها الأصلي. ينطبق قول الشاعر بدوي الجبل على فان إيك «المجدُ مِلكُ العبقرية وحدها». لقد افتتح فان إيك نهجاً عبقرياً في الرسم وهو تزاحم الأشخاص في اللوحة وفي مساحة محددة، أبعاد اللوحة 236× 135. بعد عشرات السنين، رسم هيغو فان دير غوس (1440- 1482) على نهج فان إيك لوحة «موت العذراء» لكنها لم تكن على سوية «عبادة الخروف السري» وبذلك يكون فان إيك قد خلَّد سيرته الفنية بلوحة ما زالت قابلة للتأويل والدراسة، وأيضاً يُسجل له بأنه أول من استخدم الألوان الزيتية الجافة.
لا بُدَّ من ملاحظة أخيرة، اللوحة تحمل اسم الأخوين فان إيك، وهذا الأمر غير محسوم، وفق بعض المصادر في علم المتاحف، الحجة الدامغة بأن الأخ الأكبر أيبر (1336- 1426) قد تُوفي قبل إنجاز هذا العمل الضخم، وهو ما ينفيه بشدة أنصار أيبر، بل يذهب البعض منهم إلى أن «ضربات» الريشة ليست واحدة على اللوحة. وهذا التفصيل لن يقلل من قيمة وجمالية اللوحة وفرادتها.
فان إيك: ولد في مدينة ماسيك، كانت تابعة لمدينة ليمبورج ودُفن في مدينة بروغ البلجيكية