ثقافة وفنون

خطاب الحقيقة واكتشاف الذَّات ما بين ليوتارد و أحمد إبراهيم الفقيه

خطاب الحقيقة واكتشاف الذَّات ما بين ليوتارد و أحمد إبراهيم الفقيه

نعيمة عبد الجواد

الفيلسوف اليوناني «ديوجين» (421-323 ق. م.)، وهو أحد تلامذة سقراط، يعد من الشخصيات المثيرة للجدل بسبب حكمتها الشديدة، وكذلك تقشُّفها. وبالرغم من أنه من أحد مؤسسي الفلسفة التشاؤمية الأوائل، لكن بصيرته بالأمور أصبحت حكمة رائعة تتناقلها العصور والأزمان، وأبهرت كل معاصريه بما في ذلك «الإسكندر الأكبر» الذي، من شدَّة إعجابه به، صرَّح قائلًا: «لو لم أكن الإسكندر الأكبر، لوددت أن أكون ديوجين». وقيل إن «ديوجين» الباحث عن الحكمة وأراد تعليمها للبشر بأبسط الطرق، جاب الطرقات ممسكًا في يده مصباحاً مضيئاً في وضح النهار، ولمَّا سأله المارة عن سبب إضاءته للمصباح ونور الشمس طاغ، أجاب بحكمة أن الحقيقة بالفعل ظاهرة للعيان، لكن يتعامى عن رؤيتها الآخرون.
لقد كانت حكمة «ديوجين» ركيزة استند إليها الفلاسفة والمنظِّرون عند إجراء الأبحاث النفسية والسوسيولوجية وكذلك السياسية. كان يحاول «ديوجين» بشكل غير مباشر التوكيد على أهمية الثبات النفسي والبصيرة، وهما المنهل الذي يمنح الفرد الثقة في الذَّات بسبب أنه يصبح على دراية واسعة بهويته وأهميتها، والتي لن يرغب في الحياد عنها لأنها جزء أصيل من ذاته، أو بمعنى أدقّ، من حقيقته كفرد. وأمَّا الفيلسوف الفرنسي «جون-فرانسوا ليوتارد» Jean-François Lyotard؛ فلقد تبلور له مثل ذاك الخطاب في شكل وسيلة لنيل أسمى الشعور، والذي بالتأكيد في نهاية مطافه تقبع الحقيقة. لكنه كان يحذِّر من أن الشعور السامي «ليس مجرد متعة مثل الذوق، بل إنه مزيج من المتعة والألم وتواجهه أشياء عظيمة الحجم تبعًا لعظمة ذاك الشعور، أو أشياء شديدة العنف وفقًا لقوته»، مع الأخذ فى الاعتبار اختلاف عقول البشر، حيث إن لكل عقل تخومه الخاصة الرَّاغب عن تجاوزها.
ومع سبر أغوار الهوية ومعرفة نقاط قوَّتها وضعفها، قد يرى الإنسان الحقيقة التي لطالما بحث عنها، وإن كان الأمر ليس باليسير على كل فرد لأنه يستلزم ملامسة الواقع الذي يسهِّل له معرفة تخومه وبالتالي يعرف هويته. ولهذا، يعتقد «جون-فرانسوا ليوتارد» أن المفكِّرين والفلاسفة ليسوا منوطين بتقديم الواقع الذي هو بالفعل ليس بالنمط المحدد وينطبق على الجميع بنفس الصورة، لكن مهمَّتهم هي «تقديم إشارات لما هو ممكن، لكن يمكن تقديمه». ويشير «ليوتارد» أن الذَّات في حد ذاتها لا قيمة كبرى لها، بيد أن الذَّات لا توجد بمعزل عن الذوات الأخرى كما لو كانت جزيرة منعزلة؛ فكل واحدة تنغمس في نسيج من العلاقات التي أصبحت أكثر تعقيدًا وكذلك أكثر تغيُّراً من أي وقت مضى.
وبالنظر للأدب العربي، يلاحظ أن الكثير من الكتَّاب الذين احتكُّوا بالغرب بشكل أو بآخر يتحدَّثون عن الصدمة الحضارية والهوية وفقدان السيطرة على الواقع الذي أصبح مشوشًا بسبب الشعور بعدم الانتماء لعالم الغرب، وأمَّا الصدمة الأكبر فهي أيضًا الشعور بعدم الانتماء للثقافة التي نشأوا وترعرعوا فيها. فما حدث هو زعزعة الثبات النفسي الذي أصبح يتأرجح بين الشعور بالدونية في عالم الغرب، والفوقية مع من يشاركونهم الحضارة الأم. وأمَّا المرعب والمخيف أن الغرب لا يعتبر الاختلافات الفردية لزوَّاره وما يتوافر لديه مجرَّد أنماط محددة، ونفس ذاك الرعب يحدث لكل عائد من عالم الغرب؛ حيث إن أبناء نفس حضارته يضعونه أيضًا في قالب محدَّد خانق، وكلَّما حاول الفرد الخروج من ذاك القالب يخفق ويسقط حضاريًا إلى أن يصير على هامش المجتمع، وينتهي به الأمر إلى الانفصام عن أي واقع.
ولقد عبَّر «ليوتارد» عن معضلة الأنماط وتجاهل الاختلافات الفردية والنظر للمجتمع والشعوب «إجمالًا»؛ فنفس تلك اللحظات من الشعور بالضياع وفقدان الهوية عانى منها الغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، عند الدخول إلى أعتاب التقدُّم المذهل الذي تنبلج آثاره في الوقت الحاضر، وكان ذلك بمثابة قدر هائل من الرعب الذي استطاعوا تحمله. بل إنهم دفعوا «ثمناً باهظاً بما فيه الكفاية لحنين الكل والواحد، للتوفيق بين المفهوم والمعقول، بين التجربة الشفافة والقابلة للنقل». وإن كان ذاك الشعور بالرعب لم ينته بسبب الرغبة في «تحقيق الوهم للاستيلاء على الواقع»، والسبب في ذلك هو النظر للبشر والمواقف «إجمالًا»، ما دفع ليوتارد بأن ينادي بشن حرب على «الإجمال»، وبذلك نصبح «شهودًا على ما لا يمكن تمثيله»، بل ونادى أيضًا «دعونا نفعِّل الاختلافات».
ومن الأدباء الذين تناول إنتاجهم الأدبي تلك المعضلة، الروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه (1942-2019) صاحب ثلاثية «سأهديك مدينة أخرى» التي تعد واحدة من أفضل مئة رواية عربية، وكذلك من ألَّف أطول رواية عربية «خرائط الرُّوح» التي بلغ عدد صفحاتها الألف صفحة والتي حاول فيها ترسيخ أطر الحضارة والهوية الليبية في رواية تتَّخذ القالب الملحمي ليغوص في حنايا التاريخ ويدوِّن تفاصيل الأحداث العظيمة والهامشية التي شهدتها ليبيا تاريخيًا، والتي تتشعَّب وتتقاطع مع ما شهدته ليبيا من حركات استعمارية وحروب تحرير وصراعات دولية. ولقد لعب إبراهيم الفقيه في تلك الرواية الملحمية التاريخية دور المؤرِّخ الي يستند عند تدوين الأحداث إلى الوثائق والمراجع ويتناولهما بشكل تحليلي، في حين أنه ينهل من الثقافة الغربية عندما يرسم ملامح شخصياته الذين يصوغهم في شكل أبطال التراجيديا الإغريقية الذين يواجهون أقدارهم بشجاعة وصمود. وتأتي تلك الرواية كمحاولة منه لترسيخ فكرة الواقع والحضارة الليبية في أذهان الأجيال القادمة، الذين يأتي الاصطدام مغ الغرب إلى عقر دارهم بعد اتِّساع نطاق تيَّار العولمة.
في حين أن إبراهيم الفقيه، عبَّر أيضًا عن التخبُّط الحضاري الذي يعاني منه الفرد الذي ينسلخ فجأة من حضارته ويجد نفسه تائهًا في عالم الغرب في ثلاثيته «سأهبك مدينة» و»هذه تخوم مملكتي» و»نفق تضيئه امرأة» والتي يسرد فيها حكاية شاب ليبي ذهب للغرب بملابسه الليبية التي تعكس عادات وتقاليد شعبه، لكنها تثير حفيظة الغرب ويجد نفسه منبوذًا. لكن في محاولة منه لاسترضاء الغرب، ينتهج أسلوبهم في الملبس وأسس التعامل، لكنه يسقط في بئر النهل من الملذَّات التي تعد محرَّمة في ثقافته العربية والليبية، وينتهي به الأمر بأن يصبح منبوذًا مرَّة أخرى لأنه لم يحسن التصرُّف بما منح له من حرِّيات؛ فلقد انتهج مسار الشرقيين الذين يعتبرون الغرب موئلًا للانحلال. فلقد نظر للغرب كنمط سائد ولم يستطع «تفعيل الاختلافات»، كما نصح ليوتارد. ولهذا، كان يهمل رسالة الدكتوراه ولم يحاول التعلُّم من فيض المعلومات الحديثة التي فتحت أبوابها أمامه، بل إنه اكتفى فقط بالقشور.
وعند رجوعه إلى بلده مرَّة أخرى، يجد نفسه أصبح غريبًا تائهًا، لا يستطيع ممارسة أنماط الحياة التي ألفها، وأصبح من الواجب عليه أن يسجن نفسه في القالب الحضاري الذي أصبح بعيدًا عنه. فسجن نفسه في زواج تقليدي لا حب ولا رغبة فيه، ولم يجد نفسه في مهنة التدريس بالجامعة تكريمًا لرجوعه من الغرب حاملًا لدرجة الدكتوراه. ولهذا، أهمل محاضراته وأعباءه بالجامعة، فأصبح لا يعتد به، فوجوده في القسم أصبح كعدمه. ونتيجة لذاك الصراع الداخلي، وقع فريسة سائغة للمرض النفسي، لا يجد سلوى عالم الهلوسة.
الحفاظ على الهوية والتمسُّك بالاختلافات الشخصية في خضم عالم متغيِّر، معضلة لا يكف ولن يكف الروائيون والفلاسفة الحديث عنها. وتعد تلك الأزمة في الوقت الراهن أكثر ضراوة في ظل عالم رقمي، العولمة أساسه، والسفر إلى حضارات متعددة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي نهجه. لقد أصبح النزول إلى أرض الواقع معضلة، والمعضلة الأكبر معرفة تلك الحقيقة الواضحة كما قال «ديوجين».

كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب