موزة بستة ملايين دولار: حين يصبح اللاعقلاني تجارة رابحة
زيد خلدون جميل
اجتمع وكلاء المزايدين السبعة يوم الأربعاء المصادف عشرين تشرين الثاني/نوفمبر عام 2024 في قاعة دار سوذبي الشهير للمزاد في مدينة نيويورك الأمريكية، وفي جو من الحماس والتوتر، حيث إن الجلسة كانت تنقل مباشرة على شاشة التلفزيون وعبر الإنترنت. وكان كل وكيل على خط الهاتف مع المزايد الراغب في شراء ما يريد دار المزاد بيعه. وأما دار المزاد الشهير فقد حدد مبلغ ثمانمئة ألف دولار كسعر أولي لما كان معروضا للبيع. ولكن ما كان معروضا للبيع في دار المزاد، الذي وصف بأنه ذو أهمية فنية وثقافية بالغة، لم يكن سوى موزة واحدة مثبتة على جدار بشريط لاصق، صممها الإيطالي موريزيو كاتيلان Maurizio Cattelan الذي أطلق على هذا العمل اسم «كوميدي» Comedian.
بدأ المزاد وزادت الأسعار المقدمة من قبل وكلاء المزايدين بسرعة حتى عرض أحدهم مبلغ ستة ملايين ومئتين وأربعة وعشرين ألف دولار بعد خمسة دقائق فحسب. ولم يستطع أي مزايد آخر تقديم سعر أعلى، فأعلن المشرف على المزاد أن الفائز صاحب العرض الأخير الذي كان شابا صينيا يسكن في هونغ كونغ. وقدم ذلك المشتري الصيني تعليلا منمقا وغير واقعي لشراء هذه الموزة، كما أبدى رغبته في أكل الموزة عند استلامه لهذا العمل «الفني»، إن صحت التسمية. ولكن هذا لن يكون ممكنا لأن الموزة ستفسد قبل أن تتاح له الفرصة، فعملية الشراء من الناحية العملية لم تتم، إذ أن على المشتري أن يدفع السعر خلال ثلاثين يوما، ولم يحدث ذلك حتى الآن. ومع ذلك، فليست لتلك الموزة بحد ذاتها أي أهمية، ويمكن استبدالها بموزة أخرى، بل إن الموزة الأصلية كانت قد اُشتريَت من بائع بنغلاديشي متجول في مدينة نيويورك بسعر خمسة وثلاثين سنتا. وكان سعر الموزة الواحدة في المدينة خمسة وعشرين سنتا، إلا أن ذلك البائع البنغلاديشي كان يرفع أسعاره. ولا نعرف رد فعل البائع البنغلاديشي عند سماعه بخبر بيع موزته بأكثر من ستة ملايين دولار.
إذا كان استبدال الموزة بهذه البساطة، فماذا اشترى ذلك الصيني؟ الجواب، أن المشتري الصيني اشترى عملا في مجال الفن التصويري Conceptional Art الذي يعتمد على الفكرة بغض النظر عن القيمة الفنية للعمل، التي قد تكون معدومة تماما. ولذلك، فإنه لم يشترِ شيئا حقيقيا، بل فكرة. وبالتالي، فإنه سيستلم تعليمات دقيقة من الفنان متكونة من أربع عشرة صفحة حول كيفية ترتيب وتثبيت الموزة وتغييرها كل ستة أو سبعة أيام، ولكن الموزة قد تفسد قبل ذلك. ويستلم المشتري كذلك شهادة من دار المزاد تثبت ملكيته تلك «الفكرة». والفكرة، حسب إدارة دار المزاد، أن هذا العمل المسمى عملا فنيا،رمز للتجارة العالمية وثنائي المعنى، بالإضافة إلى كونه وسيلة تقليدية للفكاهة. وقد لا يدل هذا على حقيقة أنه «كوميدي»، فإدارة دار المزاد لن تعترف بأنها باعت شيئا في منتهى السخافة، لاسيما أنها استلمت عمولة مقدارها مليون وأربعين ألف دولار كانت ضمن السعر.
كان الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان قد عرض ثلاث نسخ من «الكوميدي» في معرض شهير في منطقة ميامي بيتش في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2019، حيث بيعت كل نسخة بمبلغ يتراوح بين خمسين ألف دولار، ومئة وعشرين ألفا، وقام أحد الفنانين بأكل إحداها. وانتهى المطاف بنسختين في متحف شهير في نيويورك وآخر في كوريا. وقام أحدهم بانتزاع الموزة وأكلها في المتحف الأمريكي، ولكنه لم يُسجَن، بل طُرِدَ من المتحف. وقام شخص آخر بالعمل نفسه في المتحف الكوري. ومن الواضح أن الكثيرين أرادوا حصتهم من الشهرة في هذه العملية.
لم تكن شهرة «كوميدي» من العدم، فقد قام الفنان الإيطالي بأعمال غريبة أخرى في الماضي جعلته ذا شهرة عالمية، على الرغم من أنه لم يدرس الفن في أي معهد أو أكاديمية، ولذلك، فإن اسمه كان كفيلا بإعطاء «الكوميدي» شهرة واسعة، ولكن هذه الموزة جعلته أحد أشهر الفنانين في العالم. ولم يكن كل شيء، إذ كان البيع عن طريق أحد أشهر دور المزاد في العالم. وقامت هذه الدار بتحديد سعر أولي مرتفع، ما ضمن سعر الشراء الباهظ كما نشرت الدار في الإعلام العالمي، أخبارا بأن هذه فرصة لا تعوض. وبدأت حملة مركزة في الإعلام العالمي قبل يوم البيع بعدة أسابيع، لاسيما أن كون العمل الفني عبارة عن موزة كان كافيا لإثارة دهشة الجميع. وقد احتج الفنان الإيطالي على عدم حصوله على أي عمولة من عملية البيع هذه، إذ كل ما حصل عليه كان من البيع الأول لهذا العمل.
كان التساؤل الأول سبب قيام ذلك الشاب الصيني بشراء «كوميدي». ولم يكن ذلك الصيني شخصا جديدا في عالم الفنون لأنه لم يشترِ سابقا لوحة لبيكاسو بعشرين مليون دولار فحسب، بل اشترى تمثالا للنحات جياكومتي بثمانية وسبعين مليونا وأربعمئة ألف دولار. ولكن شراء موزة الـ»كوميدي» جعلته بالغ الشهرة في العالم، وربما كان هدفه غير فني، حيث إن هذا الحدث كان دعاية هائلة له ولشركته التي قامت بإصدار عملة رقمية مثل البتكوين قبل فترة وزادت هذه الموزة من قوته في عالم العملات الرقمية كما قد تجعله شخصية متنفذة في عالم الفنون. وقد تعرض هذا الصيني إلى تحقيق رسمي من قبل السلطات الأمريكية العام الماضي حيث تعرض لاتهامات رسمية بإعطاء انطباع غير حقيقي لمدى نجاح وانتشار العملة الرقمية التي يصدرها. وقد تكون عملته الرقمية مصدر خلاف مع دار المزاد، إذ قد يحاول تسديد الثمن بها، ما قد يثير اعتراض الدار ويؤخر اتمام عملية البيع. ولم تقتصر الشهرة في هذه العملية على هذا الصيني، حيث اشتهر كذلك منافسوه الفاشلون في المزاد. ومما هو جدير بالذكر أن اثنين من المنافسين كانوا من أصحاب الشركات المختصة في مجال العملات الرقمية أيضا. وقد ذكر المشتري الصيني أن قيمة العملات الرقمية في العالم قد زادت مع انتخاب دونالد ترامب رئيسا للجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية، ما سيشجع اشتراك أصحاب الملايين الناشطين في هذا المجال على الاشتراك في أنشطة الاتجار بالأعمال الفنية.
لا تشكل هذه الموزة شيئا استثنائيا في عالم الفن والمزادات العالمية، فهناك أمثلة تنافسها في السخافة والتفاهة، فالفنان الأمريكي ساي تومبليCy Twombly باع لوحة تتكون من شخابيط عام 2015 بمبلغ سبعين مليون وخمسمئة ألف دولار. وقام الفنان الأرجنتيني لوسيوفونتانا Lucio Fontana أشياء سماها اللوحات المشقوقة، وصل سعر الواحدة ثلاثة عشر مليونا.
وصف أحد المعلقين أن عملية بيع هذه الموزة بأنها عملية سرقة بموافقة الضحية، ولكن أغلب المشترين لهذه الأعمال اللافنية ليسوا أغبياء، فهناك من يقوم بذلك آملا أن يبيعها بعد عدة سنوات بسعر أعلى بكثير، على الرغم من عدم وجود أي ضمان لذلك. وهنالك من يشتريها كضمانة لأعمال تجارية أو للشهرة. وأحد الأسباب الأخرى كون المتاحف غير مسموح لها بالربح، فمثلا هنالك متحف «غيتي» الشهير في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يستلم سنويا مبالغ عملاقة من تركة المليونير الشهير غيتي، وعليه حسب القانون صرف المبلغ بأكمله، ولذلك فإن هذا المتحف يشتري الأعمال الفنية بأي سعر عمليا. والغريب في الأمر أن أحد أهم مشتري الأعمال الفنية هي العصابات المنظمة، حيث تستعملها في عمليات غسل الأموال. وكل هذه الأسباب تزيد من سعر الأعمال الفنية في العالم بشكل كبير مهما كانت تفاهة العمل الفني. ويشجع هذا الأعمال غير اللائقة مثل القيام بحملة إعلامية مصطنعة لرفع سعر العمل الفني، كما يشجع على الأعمال الإجرامية مثل تزوير الأعمال الفنية أو سرقتها بقوة السلاح ما يمثل خطرا حقيقيا على المجتمع.
كان من الطبيعي أن يسمي الفنان الإيطالي هذا العمل بالـ»كوميدي» لأنه ضحك على الجميع، وأثبت بطريقة ساخرة مدى نفاق سوق الأعمال الفنية الهائل الحجم. وكان قد صنع مرحاضا ذهبيا نال شهرة كبيرة وعرض في معرض خاص في قصر شهير في بريطانيا، حيث ربط بدورة المياه وأصبح مرحاضا صالحا للاستعمال، وكل هذا باسم الفن. ولكن هنالك من خلع المرحاض وسرقه مسببا تسربا كبيرا للمياه في القصر. وبعد ذلك صنعت نسخ من ذلك المرحاض المسروق وسرقت إحدى تلك النسخ أيضا مما زاد من شهرة ذلك المرحاض.
تمثل هذه الأنشطة التجارية التي تجري باسم الفن فراغ الحضارة العالمية واتجاها لا يبشر بخير، فقيمة العمل المباع في هذه الحالات لا تعتمد على قيمته الفنية، بل على مدى شهرة العمل في الإعلام العالمي. وليس هذا هو المعيار الصحيح من الناحية الحضارية.
باحث ومؤرخ من العراق