الصحافه

خريطة سوريا الجديدة.. من يشكلها وكيف؟

خريطة سوريا الجديدة.. من يشكلها وكيف؟

تسفي برئيل

انتشار قوات الجيش الإسرائيلي في المنطقة منزوعة السلاح في هضبة الجولان، والسيطرة على جبل الشيخ في الجانب السوري، ومهاجمة أهداف عسكرية في سوريا، كل ذلك ربما هو المميز الأول لخارطة سوريا الجديدة، التي قد تتطور في الفترة القريبة المقبلة. إسرائيل ليست الوحيدة التي بدأت في إعادة ترسيخ نفسها أمام سوريا وتغيير خارطة تموضعها العسكري في سوريا لصالحها.

أمس (الأحد) نشر بأن مليشيات مؤيدة لتركيا، التي تنتظم في منظمة “الجيش الوطني السوري”، (أحفاد تنظيم “جيش سوريا الحر”، المليشيا العسكرية الأولى والأكبر التي تشكلت في بداية التمرد في سوريا في 2011)، قد سيطرت على مدينة منبج غربي نهر الفرات، التي تتركز فيها قوات كردية كبيرة لتنظيم “قوات سوريا الديمقراطية”، عالقة في مركز خطة سيطرة تركيا على المحافظات الكردية في سوريا التي تشمل إقامة قطاع أمني في الأراضي السورية.

مليشيات وقوات شعبية غير منظمة سيطرت على مدينتي السويداء ودرعا جنوب سوريا، ومدينة القنيطرة على الحدود مع إسرائيل، وقد تطالب وتؤسس فيها “حكماً ذاتياً”. يبدو أن سوريا أصبحت الآن “أرض الإمكانيات غير المحدودة” لكل قوة مسلحة، في الداخل والخارج، التي ستحاول السيطرة على مناطق جغرافية ومواقع عسكرية لترسيخ الحقائق على الأرض قبل أن يستقر في دمشق نظام مركزي ومحاولة إقامة دولة موحدة تحت سلطة متفق عليها.

أبو محمد الجولاني، الذي تخلى أمس عن اسمه السري وعاد إلى اسمه الحقيقي، أحمد الشرع، أمر مقاتليه بعدم المس بالمباني الحكومية، والحفاظ على الممتلكات العامة، والحذر من حملة انتقام ضد أجهزة نظام الأسد والمدنيين الذين تعاونوا معه، بالأساس من أبناء الطائفة العلوية. ولكن يبدو أن سيطرته على غضبه وعلى مشاعر الانتقام محدودة. المقارنات التاريخية موضوع مضلل وخطير، ونتذكر المشاهد القاسية في الأيام الأولى لاحتلال العراق في 2003. فقد اندفع الجمهور في حينه إلى الوزارات الحكومية، وقتل مئات الأشخاص من حزب البعث في حملة انتقام على يد المواطنين والعصابات. تم نهب المتحف الوطني، وأصبحت الجريمة ظاهرة وجماهيرية حتى قبل بدء موسم العمليات الكبيرة وقبل تجذر تنظيم القاعدة في الدولة.

وفي ليبيا ظهرت مظاهر مخيفة خاصة بها، عندما (مع طرد وقتل الرئيس معمر القذافي في 2001) تمزقت في صراعات قوة قاتلة بين القبائل والعائلات، الأمر الذي تطور إلى مواجهات سياسية وعسكرية أحبطت وتحبط حتى الآن إمكانية إقامة دولة موحدة قادرة على العمل. ثمة وصفة مشابهة في سوريا لكل العوامل.

       الطريقة الروسية

لقد كانت للجولاني خطة عسكرية ناجعة، التي -حسب قوله- أعد لها لأشهر كثيرة وربما لسنوات. وقد عرف كيفية استغلال الخطأ الروسي الاستراتيجي جيداً، التي خلقت في إدلب تجمعاً كبيراً من المسلحين الذين انتقلوا إليها من محافظات ومدن سوريا كجزء من عملية “المصالحة” مع قوات متمردين محلية، التي أملتها موسكو. هذه الطريقة كانت فرض حصار متشدد على المدينة أو المحافظة التي عمل فيها المتمردون المسلحون، واقتُرح عليهم نزع سلاحهم أو الإجلاء إلى إدلب. والنتيجة أن عشرات آلاف المسلحين من عدة محافظات ومن خلفيات مختلفة وجدوا أنفسهم في محافظة واحدة يعيش فيها 4 ملايين شخص تقريباً.

هذه المحافظة وفرت للجولاني المداخيل المطلوبة لتمويل نشاطات مليشياته، وتطوير وسائل قتالية دقيقة وإدارة مدنية للمحافظة تحت حكم “حكومة الإنقاذ” التي شكلها مع خمس مليشيات كبيرة أخرى. قرأ الجولاني الخارطة السياسية التي تطورت في ظل الحرب في قطاع غزة، ووجد توقيتاً مناسباً لشن الحرب في اليوم الذي دخل فيه وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان وحزب الله حيز التنفيذ. ولكن من أجل الوصول إلى مكانته كقائد أعلى للمليشيات في إدلب، فقد أدار حرباً ضروساً وحشية ضد الخصوم في الداخل، واضطر في السنة الأخيرة إلى مواجهة عصيان مدني داخلي في إدلب. وشمل التمرد مظاهرات احتجاج للجمهور ضد فساد “حكومة الإنقاذ” والضرائب التي فرضت على المواطنين وعلى المصالح التجارية، وضد المس المنهجي بالممتلكات الخاصة وأبناء الأقليات.

لكن إدارة المحافظة لا تشبه إدارة دولة معقدة ومنقسمة، التي تحمل شحنة ضخمة من حسابات الماضي، ليس فقط بين المواطنين والنظام، الذي ذبح أكثر من نصف مليون من المدنيين وجعل أكثر من 11 مليون لاجئين أو مهجرين، بل أيضاً بين أجزاء السكان: العلويون ضد السنيين، الأكراد ضد العلويين، أبناء النخب ضد الفلاحين أو الحضريين الذين انتزعت منهم كل ممتلكاتهم. عداء شديد تطور أيضاً بين هيئات المعارضة المدنية، مثلاً بين “حكومة الإنقاذ” التابعة للجولاني و”الحكومة المؤقتة” التابعة لائتلاف قوات المعارضة، وبينها وبين الحكم الكردي الذاتي الذي تشكل في المحافظات الكردية في شمال سوريا.

        

من الذي سيدير الدولة؟

نظرياً، من يحمل السلاح، أي الجولاني، هو من يملي تركيبة الحكومة الجديدة ويقرر شكل الدولة السورية الجديدة. ولكن السلاح الآن في يد الجميع، ولا حاجة إلى جيوش منظمة، مثل جيش “هيئة تحرير الشام”، لوقف عملية البناء السياسية. في سوريا والعراق واليمن والسودان، وبعض الدول الأخرى، تم تسجيل فصول مظلمة ودموية في تاريخ الصراع على بناء دولة. والمطلوب الآن في سوريا بناء دولة من البداية. إن الاطلاع على المقابلات ومحادثات الجولاني خلال سنين، يظهر أنه رغم تصميمه وثقته بالقدرة على إسقاط النظام، لم يطرح خطة سياسية دستورية واقتصادية، التي يطمح بحسبها إلى تأسيس الدولة بعد الأسد. من غير الواضح مثلاً، ماذا سيكون مصير الجيش السوري والشرطة وجهاز القضاء؛ هل سيتم حل البرلمان؛ هل ومتى ستكون انتخابات، ومن أين ستأتي ميزانية الدولة؟ قبل بضعة أيام، قال الجولاني إنه مستعد لحل المليشيا الخاصة به بعد إسقاط النظام. هذا تصريح جيد خرج من فم الشخص الذي عمل على التخلص من صورة المتعصب المسلم، الذي يثير الشك والخوف وحتى الرعب، في أوساط الجمهور السوري الواسع الذي تربى في أحضان حزب البعث العلماني. ولكن مثلما يعرف السياسيون في العراق ولبنان وليبيا، فالمليشيات العسكرية الخاصة وسيلة حيوية لمن يريد التأثير، ناهيك عن الحكم.

السؤال الحاسم الذي قد يؤثر الآن على طبيعة سوريا والتوجه السياسي، يتعلق بمصادر التمويل. سوريا دولة مفلسة، الليرة السورية انخفضت أمس بنسبة 46 في المئة في دمشق، و65 في المئة في حلب، وميزانية الدولة باتت ورقة لا قيمة لها، والاستثمارات الأجنبية غير موجودة، باستثناء مشاريع تسلمتها شركات إيرانية، وتعد جزءاً من دفع دين سوريا لإيران، الذي يقدر بـ 30 مليار دولار. الاعتماد الذي منحته للأسد، لم يعد موجوداً، والعقوبات الأمريكية والدولية التي فرضت على إسرائيل تمنع استثمارات شركات دولية، ومنظومة البنوك محطمة، وحقول النفط التي يسيطر الأكراد على معظمها، ويبدو أنها ستعود إلى سيطرة الدولة، بحاجة إلى إعادة ترميم عميقة مثل كل البنى التحتية في الدولة.

لكن العقبة الاقتصادية هي التي ستقرر وجهة سوريا. مع صورة “أرض الإمكانيات غير المحدودة” المتحررة من قبضة إيران وروسيا، تخلي دمشق الساحة لدول المنطقة والدول الغربية، التي ظلت تشاهد من بعيد، أو تابعت التطورات من قرب. هذه الدول لم تكن في الساحة عندما ذبح الأسد أبناء شعبه، ولم تعمل ضد النظام، باستثناء التنديد وفرض العقوبات التي لم تساعد في تغيير أسلوب الأسد.

إضافة إلى ذلك، أعادت الدول العربية الأسد إلى أحضانها في السنة الأخيرة، وفحص عدد من الدول الأوروبية تطبيع علاقاتها مع نظامه، وعرض الدولة كـ “مكان آمن” للتمكن من إعادة ملايين اللاجئين السوريين إلى بيوتهم. هذه الدول، مثل كل العالم، كانت غير مستعدة للانقلاب المضاد الذي نفذه المتمردون. وإزاء محاولة بذل الجهود “لبناء الأمة” في أفغانستان والعراق وليبيا، يمكن تفهم “موقف المشاهد” الذي تتبعه الآن. ولكن لا يمكنها التأثير وتوجيه تبلور نظام جديد في سوريا من هذا الموقف.

السعودية، مثلاً، فهمت بتأخير أنها فقدت العراق لإيران قبل البدء في نسج العلاقات السياسية والاقتصادية مجدداً مع بغداد. الولايات المتحدة يمكنها مساعدة لبنان في أزمته الاقتصادية الشديدة لو سمحت لمصر والأردن ببيعه الكهرباء، التي حرم منها؛ لأن خطوط الكهرباء ستمر في سوريا. الرافعة الاقتصادية التي يمكن إيجادها في سوريا لدول الخليج الغنية والدول الغربية لا تعد فرصة اقتصادية أو سياسية فحسب، بل تتعلق مباشرة بالأمن الإقليمي الذي يحتاج سلطة ناجعة ومستقرة. وإزاء الخطر الذي يتربص بسوريا، سيتطور نظام مليشيات يغرق في حرب العصابات.

 هآرتس 9/12/2024

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب