إنقاذ الجندي جعفر: تقرير عيانيّ عن أحداث سوريا الأخيرة

إنقاذ الجندي جعفر: تقرير عيانيّ عن أحداث سوريا الأخيرة
أحمد عمر
اتصلت بي أم جعفر وكانت جارتنا قبل هجرتها من حمص إلى طرطوس، في صباح الأحد العظيم، أحد إسقاط أعتى نظام ظالم عرفه التاريخ العربي، رحلت بعد البسوس الثانية التي اشتعلت بين الشعب والنظام، استغاثت بي قائلة: أقبل يديك ورجليك، ابني جعفر في الشام، والمواصلات مقطوعة.
فتذكرت قول بشامة: وإن دعوت إلى جلي ومكرمة يومًا سراة كرام الناس فادعينا، فقلت: إذا حصّلت بنزين فأبشري أم جعفر.
اتصلت بها بعد نصف ساعة، وأخبرتها أني إليه منطلق، فشكرتني ودعت لي بدعاء طويل ظهرت فيه لوعة الأم الثاكل على ابنها، أقرعت بين نسائي، وليس لي سوى امرأة واحدة لكن بأربع أسماء ، فوقعت القرعة على زوجتي الصغرى الحبيبة إلى قلبي أم الخير، فأنا أستوحش في السفر من غير أنثى تواسيني في الطريق وتجلو عني وعثاء السفر، ليرتي لها وجه واحد: طرة، وليس لها نقش، اصطحبت ابني الخير، في رحلة «إنقاذ الجندي جعفر»، على غرار الفلم الشهير، إنقاذ الجندي رايان، كانت أصوات القذائف وغمامات الدخان تتعالى من بقايا المعركة، انطلقنا من حمص باتجاه الشام، أخبرني جعفر الذي أخذت رقمه من أمه أنه ينتظرني في كراج العباسيين في الشام.
كان الطريق مطرزًا بالجثث، جثث على مدِّ النظر، وثياب عسكرية ملقاة خلفها أصحابها تخلصا من شبهة الجيش، لم أجد شحاطات لجند جيش أبي شحاطة. كانت عشرات العربات المدرعة متفحمة ولحمها الحديدي لا يزال يحترق، وكنا نرى بين الحين والآخر فصائل الجيش الحر التي يسميها السوريون الهيئة اختصار أو الجيش الحر بتسميته الأولى، قد أوقفت مجموعات من جند الأسد جاثين، خاشعين، مبدلين ومغيرين، فيصادرون أسلحتهم، ويلصقون عليها لصقات عليها أرقام وعلامات، ويصادرون هواتفهم، والمصادرة أمنية، وليست اغتننامية، ثم يطلقونهم بعد خطبة قصيرة قائلين في ختامها: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فيهتفون الله أكبر عدة مرات.
رأينا أنا زوجتي الصغرى التي وقعت عليها القرعة وابني سطورًا طويلة ومتراكبة ومتلاصقة من السيارات والشاحنات في الطريق، وصهريجًا مثل سلحفاة بحرية تراكمت عليها الأصداف والأشنيات، عليها ما يقرب من ثلاثين رجلًا، كأننا في الهند الشهيرة بمواصلاتها المزدحمة، بلغت استراحة الجلّاب على مشارف النبك، فاتصل بي جعفر يخبرني أنه وجد وسيلة نقل، ورجاني أن أنتظره في حمص لإجلائه عنها إلى طرطوس، فملنا إلى الاستراحة، فوجدت فيها باصًا كبيرًا مليئًا بالرجال ينزلون، سألت أحدهم عن خبرهم فقال: نحن سجناء، فعجبت من أمرهم، فهم أصحاء، سمان، لا يشبهون سجناء سجون الأسد الذين يخرجون عراة من اللحم والعقل، ثم علمت أنهم سجناء جنائيون محررون، من الطائفة العلوية والمرشدية، عملوا مساعدين للسجانين، وأنَّ النظام الرحيم أطلقهم قبل الهروب الكبير. كانوا سعداء، ويكبّرون، ويحيون هيئة تحرير الشام، ويسبون الأسد الصغير ويترحمون على الأسد الكبير.
عدنا إلى السيارة، فوجدت شابًا مع أمه على كرسيها المتحرك، وقفا أمام سيارتي، توسل الشاب إليّ أن أصطحبه مع أمه، ورجاني شابان آخران، قلت للشابين إن سيارتي لا تسع سوى خمسة ركاب، وأستطيع أن أقل واحدا منهما، وسأقرع بينهما، اقترح الرجل الثاني أن ينام في صندوق السيارة الخلفي، فابتسمت وقلت: إذا استوقفتنا هيئة تحرير الشام سيظنون بي الظنون، وقد أتهم بتهمة جنائية.
انكبّ على يدي يقبلها، فسحبتها كما يفعل الشيوخ الأجلاء تواضعا لله، قائلا بلهجته الساحلية: في عرضك، ورمى بنفسه على قدمي زوجتي التي تراجعت مذهولة، أدرك أنه أخطأ، وأن المرأة عند السنّة لا تمسّ، فاعتذر، وتوسل، فألحدته في الصندوق، وانطلقنا باتجاه حمص، بعد أن أجلست ابني، وهو طالب جامعي، عظيم البنية، في حضن أمه في المقعد الأمامي، فصار منظرنا مضحكًا، لكن المنظر كان شائعًا في وسائل النقل على الطريق. حادثت ضيفي، والمضيف العربي ينادم ضيفه، كما قال الشاعر مسكين الدارمي:
أُضاحك ضيفي قبل إِنزال رحله
ويخصبُ عندي والمحلُّ جديبُ
فسألته عن اسمه، فمكث غير بعيد، كأني أسأله عن حلِّ أحجية، ثم أجاب بعد تفكر: جورج.
انتظرت وسألت: جورج إيش؟
قال بعد تفكر (ظننت أنه سيطلب ثلاثة أجوبة) جورج إلياس. فأدركت أنه يتوقى من اسمه الطائفي، حتى لا يذعرني، كما نذعر من أسمائنا عند عبور الحواجز. سقى الله تلك الأيام غير البعيدة.
سألت: من أين؟
أجاب: من زيدل.
وهو حي للنصارى.
فتوثقت من كذبه، فلهجته ليست لهجة زيدل، امتحنته قائلًا: إذًا تعرف لورانس إلياس من زيدل، لعله ابن عمك، فسكت ثم قال لا أعرفه لأني خرجت من زيدل منذ زمن، فأشفقت عليه من الكذب وأعتقته.
أخبرني ابن ذات الكرسي المتحرك أنه مهندس اتصالات، فسألته عن «البوابات المنطقية» في الحاسبات، فسكت، ثم قال معترفًا إنه نقيب، واعترف الثاني أنه مقدم في الحرس الجمهوري، وقد شارك في معارك التسليم بدءًا من حلب حتى دمشق، وهما هاربان بعد أن أمروا بالاستلام والتسليم، لم اجد تعبير التسليم والاستلام متسقا، فهو لا هذا ولا ذاك أنه ترك أو فرار، أو تسليم من غير استلام، ولم اعرف مهنة المسافر في الصندوق، الذي ستره الصندوق من الكذب ولم اعرف رتبته، لاحقا زعم انه من حرس الشرف، وهي مهنة استعراضية ، واظنه كاذبا .
أخبرني المقدم أنهم خسروا 700 جندي في معارك حماة، وقدر خسائر جيش الأسد بثلاثة آلاف جندي في طريق الشام، وخسائر هيئة تحرير الشام بعدة مئات، بغضتهما بغضًا شديدًا، فهما كاذبان خسيسان، هربا مثل رئيسهما من غير تبليغ للجنود بأمر الاستلام والتسليم، وزاد من بغضي لهما أنهما توسلا إلي أن أوصلهما إلى مأمنهما، وكنت أخبرتهما أني مبتعث لاصطحاب الجندي جعفر، وأني سأنتظره في حمص، كما وعدت أمه، وأنا على العهد، وليس مثل رئيسهما الذي أقسم على حماية الدستور ورعاية مصالح الشعب رعاية كاملة، فخانها، قبلت أن أوصلهما إلى أطراف وادي الذهب شفقة بهما، وهو حي للطائفة العلوية في حمص، خال من الذهب والفضة، عشوائي البناء مثل كل الأحياء العلوية، بني رغمًا عن أنف القانون، مثل كل الأحياء العشوائية التي بناها رفعت وحافظ للطائفة، نزلا أمام بيت في الحي الشاحب، الخالي من السكان الهاربين خوفا من الانتقام، وجعل أحدهما يتسلق حائطًا، فيخذله بدنه، تركتهما، وأنزلت السيدة ذات الكرسي المتحرك أيضًا، وعدت أنتظر جعفر في الاستراحة التي اتفقنا عليها. شربت شايًا ثم قهوة، وصليت العصر والمغرب والعشاء، لم يصل جعفر إلا بعد الساعة الثانية عشرة ليلًا، معتذرًا بزحام الطريق. كنت وزوجتي (الصغرى التي وقعت عليها القرعة) وابني قد بلغ التعب منا مبلغه، فاقترحت عليه أن أستضيفه في بيتي، فسكت على مضض، وكان يخافني، ويظن أني سأذبحه في الليل، تجولنا في حمص، وأوقفتنا دورية لهيئة ردع العدوان، سألونا، وهم يغضون حياء من زوجتي طمأنونا وقدموا لنا دخانًا، تعمدت أن أزور صديقًا علويًا كريمًا كان معتقلًا سابقًا، جاع، لم يخف من الجيش الحر لطمأنة ضيفي جعفر. أعلمني جعفر أنه ملازم أول يخدم في منطقة سعسع، واعترف بأنه يكره هؤلاء الإسلاميين، لكن لم ير منهم سوءًا، واعترف أن أصدقاء له من السنّة من أهل المنطقة حموه وصانوه، عدنا إلى البيت وتعشينا، وغلبني النعاس النوم فأيقظني جعفر، ليخبرني بأنه سيقصد طرطوس ولو مشيًا على الأقدام، فطلبت منه أن يقود السيارة لشدة تعبي. وانطلقنا من جديد.
وجدت الطريق مكتظا بالمدرعات والعربات المدمرة، أو المعطلة، وجثثً ما تزال فيها، تظهر أن معركة شديدة قد حصلت بين هذه الفرقة المدرعة وبين فصائل الجيش الوطني، والذي يسميه العلويون الجيش السوري الحر، اسمه الأول الذي يعرفونه به، وإن القوم ذعروا لبسالة المقاتلين ففر منهم كثير. أخبرني الملازم أنه علم أن دولًا عربية عرضت عليهم تكوين جيب طائفي، لكن وجهاءهم رفضوا أن يعقدوا صفقة الذل والمهانة مع من بقي من طغمة آل الأسد، وآثروا السنة الذين سخروا من دينهم وحجابهم وصلاتهم وفتكوا بمدنهم وأهاليهم. لقد يئسوا، أوصلت جعفرًا إلى أمه في فجر الاثنين، وعدت إلى حمص الموحشة، سكرانًا من النعاس، وسعيدًا بالحرية غير خائف كأني سيد هذه البلاد، وتذكرت مرارات أربعين سنة من الذل، والقتل والاعتقال، كانت حمص مدينة خالية من الحواجز والبشر. أذن الفجر، فتذكرت قوله تعالى:
(فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون)
ملاحظة: التقرير السابق من محادثة مع صديق
كاتب سوري