فيلم «الغابة الإسفلتية»… الجريمة والطبيعة البشرية
زيد خلدون جميل
من الغريب أن اشهر أفلام السرقات مأخوذة من فيلم لا يعرفه أكثر هواة السينما حاليا، على الرغم من أن النقاد يعدونه أحد أعظم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، والبداية الحقيقية لأحد أكثر أنواع الأفلام شعبية. والفيلم المشار اليه هو «الغابة الإسفلتية» الذي عرض عام 1950. وكان من إخراج جون هيوستن وتمثيل سترلنغ هَيدن.
أحداث الفيلم
يخرج أروِن ريدنشنايدر (سام جاف) الملقب بـ(الدكتور) من السجن مصمما على القيام بعملية سرقة أخيرة كان يخطط لها قبل زجه في السجن. ولم يكن «الدكتور» رجلا عنيفا، بل داهية في التخطيط والتنفيذ الناجح ويتجنب أي مواجهة دموية. ويستقل سيارة أجرة إلى مكان مغلق في منطقة سيئة السمعة من المدينة. ولكن ذلك المكان لم يكن في الحقيقة مغلقا، بل كان وكرا سريا لنشاط المراهنات غير القانونية. وعند دخوله يلمح «ديكس» (سترلنغ هَيدن) حيث يلاحظ بخبرته الطويلة أنه جريء وقوي البنية ومن الممكن الاعتماد عليه. وما أن يخرج «ديكس» حتى يجلس «الدكتور» مع «كوبي»، مسؤول المراهنات في الوكر، ليخبره بخطة محكمة لسرقة خزنة محل شهير للمجوهرات، حيث توجد مجوهرات بقيمة مليون دولار، يستطيعون بيعها بنصف القيمة لمختصين في شراء المجوهرات المسروقة. ولكنه يحتاج إلى خبير خزائن وسائق ماهر وشخص عنيف، وأخيرا يحتاج إلى ممول لتغطية تكاليف ما قبل العملية، حيث سيعرض على كل من الثلاثة مبلغا قطعيا. ويقترح «كوبي» اللجوء إلى محامي المجرمين الشهير «لورينزو همرك» (لويس كالهرن) على الرغم من أن «الدكتور» يبلغه أنه سمع بأن «همرك» مفلس.
يلتقي الرجلان بالمحامي «همرك» الذي يرحب بالفكرة حتى إنه يقترح عليهم بيع المجوهرات له لأنه يعرف من سيشتريها، ويتفق المجتمعون على الثلاثة الذين سيقومون بالسرقة مع «الدكتور»، حيث سيكون «ديكس» الرجل العنيف في المجموعة. وعندما يغادر «الدكتور» و»كوبي» منزل المحامي «همرك» يقوم الأخير بالاتصال بـ»بوب» (براد ديكستر، أحد ممثلي فيلم العظماء السبعة الشهير) المحقق الخاص الذي يعمل لديه. ويشرح «همرك» لـ»بوب» أنه سيخون اتفاقه مع «الدكتور» ويستولي على المجوهرات ثم يغادر البلاد لأنه مفلس بسبب مصاريفه وعشيقته «أنجيلا» (مارلين مونرو)، ولن يستطيع شراءها، حيث سيدعي بعد السرقة أن المبلغ غير مكتمل بعد وسيتطلب توفيره عدة أيام. ولذلك سيعرض عليهم الاحتفاظ بالمسروقات حتى يتوفر المبلغ. وعرض المحامي «همرك» على المحقق الخاص «بوب» نصف الأرباح مقابل الاشتراك معه.
تقوم العصابة بسرقة الخزنة حسب الخطة المتقنة، إلا أن خبير الخزنة يصاب بطلق ناري من قبل حارس المحل، فينقله السائق إلى منزله ويتوفى لاحقا. أما «الدكتور» و»ديكس» فيتجهان إلى منزل المحامي «همرك». وقد بدأ «الدكتور» باتخاذ «ديكس» حارسا شخصيا له، حيث لم يرتح للمحامي. وفوجئ «الدكتور» بوجود المحقق «بوب» ويطلب المحامي الاحتفاظ بالمسروقات. ورفض «الدكتور» عرض المحامي، ولكن المحقق الخاص «بوب» شهر مسدسه مطالبا بالمسروقات، ما فاجأ المحامي الذي لم يتفق معه على ذلك. وتحدث مواجهة مسلحة تؤدي إلى مقتل «بوب» وإصابة «ديكس» برصاصة. وانهار المحامي «همرك» بسبب هذا التطور المفاجئ، إلا أن «الدكتور» طمأنه مقترحا حلا يرضي الجميع، وهو أن يقوم المحامي بالاتصال بشركة التأمين التي أمنت على المسروقات وعرضها على الشركة بمبلغ ربع مليون دولار، فهو محام شهير وستثق الشركة به وتشتري المسروقات دون أي أسئلة. ووافق المحامي «همرك» على ذلك. ويغادر «الدكتور» و»ديكس» المكان بينما يرمي المحامي جثة المحقق الخاص في البحر.
في هذه الأثناء تبحث الشرطة عن اللصوص، وكان شكها الأول في «الدكتور» بسبب شهرته بالقيام بالسرقات الكبيرة، التي تتطلب تخطيطا دقيقا، فنشرت الصحف صورته. وكان ذلك عملا صائبا، حيث تعرف عليه سائق سيارة الأجرة الذي أوصله إلى وكر المراهنات، فأرسلت الشرطة ضابط شرطة إلى ذلك الوكر. وكانت المشكلة أن ذلك الضابط كان يستلم مرتبا من مسؤول الوكر «كوبي»، فقام بضرب «كوبي» وتسليمه إلى الشرطة كي يبدو أنه اشترك في حل العقدة. وبالطبع قام «كوبي» بإخبار الشرطة بالمبالغ التي كان يعطيها لذلك الضابط، كما اعترف بكل ما يعرفه عن سرقة المجوهرات. أما المحامي «همرك»، فينتحر أثناء قيام الشرطة بالقبض عليه بينما يفقد «ديكس» صوابه بسبب إصابته ويموت أثناء محاولته العودة إلى مزرعة والديه، ناسيا أنهم قد باعوها منذ فترة طويلة ويفارق الحياة عند وصوله. وكان مصير «الدكتور» أفضل من الآخرين بقليل، فقد ألقت الشرطة القبض عليه بهدوء، لأنه بقي في حانة فترة طويلة وهو يراقب فتاة جميلة ترقص. وفي نهاية الفيلم يعلن مدير شرطة المدينة حل القضية، وأن المدينة ستتحول إلى غابة بغياب الشرطة.
الإخراج والأداء
كان إخراج الفيلم بارعا، أما أداء الممثلين، فكان متقنا. وتميز الفيلم بمهارة المصور في تصوير مشاعر الشخصيات والتوتر واليأس اللذين ميزا شخصيات الفيلم. ولذلك يشعر المرء بأنه يشاهد أحداثا حقيقية، لاسيما مشاهد المدينة المظلمة وكأنها غابة كثيفة تنتشر فيها الوحوش في الليل. باستثناء المشاهد التي ظهرت فيها مارلين مونرو، التي أثبتت أن قابلياتها في التمثيل الدرامي ليست أقل من جمالها، إذ لم تكن أقل قسوة من رجال العصابات. وكان المخرج جون هيوستن قد تأثر بالسينما الإيطالية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، لاسيما فيلم «روما، مدينة مفتوحة» Rome, Open City (1945) وفيلم «سارقو الدراجة الهوائية» The Bicycle Thieves (1948) اللذين يُعَدّان من أبرز علامات السينما الإيطالية. ولذلك فإن فيلم «الغابة الإسفلتية» يختلف كليا عن فيلم «العراب» الذي تظهر الشخصيات الإجرامية فيه وكأنها لأمراء يتصارعون بينهم، بشكل أبعد ما يمكن عن الواقع، ففيلم «الغابة الإسفلتية» يبين حقيقة حياة المنتسبين إلى عالم الإجرام بقسوتها وفقرها وانحطاط أخلاقها، وانعدام التآلف فيها، لأنها قادرة على جعل المرء حيوانا متوحشا، حتى لو كان من أصول راقية وبمستوى تعليم عالٍ. ووضح الفيلم كذلك أن في عالم الجريمة لا يوجد شخص جيد، ولكن هنالك من هو سيئ جدا وآخر أقل سوءا. واستطاع المخرج كذلك جعل تطور الأحداث سلسا، ما سمح للمشاهد تتبع الأحداث بسهولة. ومع ذلك، فإن الفيلم لم يخلُ من هفوات منطقية.
ولنبدأ منذ بداية الفيلم، فمن المستحيل أن يقوم «الدكتور» بعملية بالغة الخطورة في يوم خروجه من السجن. ولا يمكن أن يذهب إلى وكر المراهنات للاجتماع بالمسؤول عنه في سيارة أجرة، لأن السائق يسجل رحلاته، ما قد يجعله شاهدا. ولا تستخدم عصابات السرقة من هذا النوع رجالا عنيفين، ومقارنة بسيطة بعمليات السرقة المشابهة في الواقع تثبت ذلك. ولكن من الواضح أن المخرج والمؤلف أرادا اختلاق شخصية الرجل العنيف لمساعدة شخصية «الدكتور» العبقري ذي الخبرة الكبيرة والعقل المتفوق في التخطيط الدقيق والفكر الفلسفي، والذي لا يقوم بأي عمل عنيف بنفسه ولا يفقد تركيزه مهما حدث، ويجد دائما الحل الأمثل الذي يرضي الجميع حتى أعداءه، وهي شخصية غير موجودة في عالم الجريمة الحقيقية. وإذا راقبنا مظهر وصفات وتصرفات «الدكتور» في الفيلم، سنجدها مقتبسة بوضوح ولسبب ما من شخصية العالم الشهير ألبرت آينشتاين، حتى إنه في الفيلم من مواليد ألمانيا، ومن سكان الولايات المتحدة الأمريكية ويتكلم الإنكليزية بلكنة أجنبية، ولذلك كان من الممكن دمج شخصية «الدكتور» وشخصية «ديكس».
أثار الفيلم هيئة الرقابة على الأفلام لعدة أسباب، أولها إظهار الفيلم سهولة عملية السرقة بسبب التخطيط الدقيق لـ»الدكتور» العبقري، ما قد يشجع المشاهد على الإجرام. أما السبب الثاني فإن الفيلم يجعل المشاهد يتعاطف مع المجرمين ويكره الشرطة. وكان هذا التعاطف لكون الفيلم عن مرتكبي السرقة بشكل رئيسي، ما يعني أن المشاهد سيعرفهم أكثر من الشخصيات الأخرى في الفيلم، ويتعاطف المرء مع من يختلط بهم، وكذلك لأن ضابط الشرطة الذي ظهر في الفيلم كان يأخذ الرشوة، وامتاز بشخصية أكثر شرا وسادية من جميع المجرمين، كما أن الفيلم بين أن الشرطة كانت تعذب المتهمين بشكل منهجي، وحتى مدير الشرطة في المدينة كان غاضبا بشكل مبالغ به. وأرادت هيئة الرقابة أن تلقي الشرطة القبض على المحامي «همرك» بدلا من انتحاره. وإذا ظن المشاهد أن الفيلم لم يجامل الهيئة، فهو على خطأ لأن المخرج جامل الهيئة كثيرا وإلى درجة أضعفت من الجانب المنطقي للفيلم، فكل من اشترك في الجريمة قتل، أو اعتقل بشكل غير منطقي أحيانا، فمثلا كان من المستحيل من الناحية الواقعية أن يسلم ضابط الشرطة الفاسد للشرطة مسؤول الوكر الذي كان يرشيه، لأنه بالتأكيد سيعترف بالرشوة، وهذا ما حدث. وكان الخطاب الذي ألقاه مدير الشرطة في نهاية الفيلم مطولا ومصطنعا أكثر مما ينبغي، على الرغم من أنه يكشف حقيقة يرفض البعض الاعتراف بها، وهي أن المجتمع يتحول إلى مجموعة من المتوحشين في حالة غياب قوى الأمن مهما كانت درجة رقيه. ولهذا السبب، فإن الترجمة الصحيحة لأسم الفيلم «الغابة الإسفلتية» مثل اصطلاح «شريعة الغاب».
العمل الإجرامي
يبين الفيلم كذلك أن أحد أهم أسباب فشل العمل الإجرامي ميل المجرمين إلى الخيانة والغدر بشكل عام، مهما كانت الفرصة ضئيلة، فلا يوجد قانون بينهم، وأن الإنسان العادي يميل إلى مخالفة القانون وارتكاب الجريمة عندما تسنح له الفرصة مهما كان حجمها. لا يذكر الفيلم اسم المدينة التي تدور أحداث الفيلم فيها، ولكنها لسبب ما تعطي الانطباع بأنها نيويورك. وكان جميع الممثلين الرئيسيين من تلك المدينة ويعرفون بعضهم بعضا جيدا، ولذلك كانت هنالك بعض المنافسة بينهم. كان جميع الممثلين من الصف الثاني في عالم السينما الأمريكية، ولكن هذا لم يهم المخرج، لأن جل اهتمامه كان في الكفاءة، وليس الاسم الشهير. وقد أثبت نجاح الفيلم صحة رأيه. وقد تكون مارلين مونرو، أكثر من استفاد من الفيلم، على الرغم من أنها ظهرت في مشهدين فحسب، لأنها ترسخت في ذاكرة المشاهدين بجمالها وكون شخصيتها في الفيلم ليست أقل قسوة وخيانة من الآخرين. وجعل هذا شركة «فوكس القرن العشرين» تتفق معها لتتحول إلى إحدى أشهر الممثلات في تاريخ السينما الأمريكية.
مصدر قصة الفيلم
كانت قصة الفيلم مأخوذة من رواية للكاتب الأمريكي المعروف وليام برنيت، التي نشرها عام 1949. وقد عرف هذا الكاتب برواياته عن عالم الإجرام، وتم تحويل بعضها إلى أفلام سينمائية شهيرة، خلال فترة قصيرة بعد صدورها، فقد كان مؤلف رواية «القيصر الصغير»، التي أصبحت من أوائل وأشهر الأفلام حول عالم الإجرام، وكان أيضا بداية المسيرة الفنية للممثل أدوارد جي روبنسون». ومثّلت في الأفلام المأخوذة من رواياته مجموعة من أشهر ممثلي السينما الأمريكية. كانت الرواية الأصلية للفيلم تركز على مدير الشرطة، إلا أن المخرج جون هيوستن غيّر ذلك، وجعل الفيلم من وجهة نظر رجال العصابة. وكان قراره صائبا، حيث كان تأثير الجانب النفسي لشخصيات الفيلم أكثر واقعية وعمقا. واشترك هذا المؤلف في كتابة سيناريو وتفاصيل قصة الفيلم.
تأثير الفيلم على صناعة السينما
يُعَدّ الفيلم البداية الحقيقية للأفلام البوليسية، التي تتمحور حول السرقات غير العنيفة والكبيرة المرتكزة على خطة محكمة ودقيقة. وقد أعيد إنتاج الفيلم عدة مرات مع اختلافات طفيفة. أما الأفلام التي اقتبست أجزاء من الفيلم، فيصل عددها إلى الآلاف.
باحث ومؤرخ من العراق