مقالات

بين بوتين وشي وترامب… أوروبا على مفترق طرق

بين بوتين وشي وترامب… أوروبا على مفترق طرق

شاهر الحاج جاسم

يشهد العالم تغيرات جذرية في موازين القوى، مع تسارع محاولات الدول الكبرى لإعادة رسم النظام العالمي، شخصيات مثل فلاديمير بوتين وشي جين بينغ ودونالد ترامب لم تعد تمثل مجرد قادة دول، بل تحولت إلى رموز قومية تعكس طموحات شعوبهم، كل منهم يعتمد أسلوباً مختلفاً لتعزيز نفوذ بلاده.
يستخدم بوتين القوة العسكرية وموارد الطاقة كورقة ضغط، شي يعيد رسم خريطة النفوذ عبر الاقتصاد، بينما يركز ترامب على تعزيز الداخل الأمريكي، وتقليص التزامات بلاده الخارجية، وفي ظل هذا المشهد المتغير، تقف أوروبا مترددة، تفتقر إلى قيادة قادرة على التعامل مع هذه التحديات، وكأنها تخلت عن دورها التاريخي كقوة سياسية مؤثرة على المسرح الدولي.
منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، تبنى سياسات جريئة لإعادة تموضع روسيا كلاعب رئيسي على الساحة الدولية، استغل موارد بلاده من الطاقة، التي تمثل شريان الحياة للاقتصاد الأوروبي، كوسيلة ضغط استراتيجي، كما لم يتردد في استخدام القوة العسكرية، بدءا من حرب جورجيا عام 2008 إلى ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وصولا إلى الصراع المستمر في أوكرانيا، ومع ذلك، تظهر سياساته تجاه الغرب أنه لا يهدف فقط إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق، بل يسعى إلى تأسيس نظام عالمي جديد قائم على تعدد الأقطاب، حيث تكون روسيا جزءا لا يتجزأ من مراكز القوة العالمية، بوتين يدرك أن الغرب ربما يفتقر للإرادة السياسية للتصدي له، خاصة في ظل اعتماد أوروبا على الدعم الأمريكي لضمان أمنها.
على النقيض من بوتين، يتحرك شي جين بينغ بخطوات مدروسة نحو تحقيق طموحات بلاده، لا تعتمد بكين على القوة العسكرية فقط، بل تستخدم نفوذها الاقتصادي لإقامة شراكات استراتيجية مع دول آسيا وإفريقيا وأوروبا، ومبادرة «الحزام والطريق» ليست مجرد مشروع اقتصادي، بل هي أداة صينية لربط العالم بمصالحها، بفضل هذا النهج، أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لمعظم دول العالم، ومع ذلك، فإن صعود الصين يثير قلقا متزايدا في الغرب، خاصة مع تنامي قدراتها العسكرية وتوجهاتها الاستراتيجية في بحر الصين الجنوبي وتايوان، شي يتجنب المواجهة المباشرة، مفضلا استراتيجية طويلة الأمد لترسيخ موقع الصين كقوة لا يمكن تجاهلها.

مع تسارع التغيرات العالمية، لم يعد التردد خيارا أمام أي قوة تسعى للحفاظ على مكانتها، بينما يواصل بوتين وشي وترامب إعادة تشكيل النظام العالمي وفق رؤيتهم، يجب على أوروبا أن تستيقظ من سباتها إذا أرادت أن تبقى لاعبا رئيسيا

أما دونالد ترامب العائد إلى البيت الأبيض حاملا معه رؤية تتسم بالانعزالية، والتي تحمل شعاره المألوف «أمريكا أولا» يدعو ترامب إلى تقليل التدخلات الخارجية والحد من الالتزامات الأمنية تجاه حلفاء تقليديين مثل أوروبا، بينما ركز في فترته الأولى على إعادة التفاوض بشأن الاتفاقيات التجارية والضغط على حلفاء الناتو لتحمل المزيد من التكاليف الدفاعية، فإن فترته الجديدة قد تكون أكثر عدائية تجاه المؤسسات الدولية، ورغم الانتقادات الشديدة لأسلوبه، فقد نجح في تحقيق مكاسب ملموسة للداخل الأمريكي، ومع ذلك، تواجه أمريكا تحديات داخلية كبرى، من الاستقطاب السياسي إلى المشاكل الاقتصادية، ما يضعف قدرتها على الحفاظ على دورها القيادي عالميا.
وسط هذا التحول السريع في موازين القوى، تبدو أوروبا مشلولة بأزماتها الداخلية، منذ رحيل أنجيلا ميركل سياسيا، وهي التي كانت تمثل صوت العقل والقيادة في القارة، يعاني الاتحاد الأوروبي من غياب شخصية قادرة على توحيد الصفوف، بينما يحاول إيمانويل ماكرون دفع أوروبا نحو تحقيق «استقلال استراتيجي» فإن انقسام الدول الأعضاء حول قضايا مثل الدفاع المشترك والسياسة الخارجية يجعل تحقيق هذا الهدف أمرا صعبا، بالإضافة إلى ذلك، تعاني أوروبا من أزمات داخلية تضغط على تماسكها، من صعود التيارات الشعبوية إلى تحديات ملف الهجرة والتفاوت الاقتصادي بين الدول الأعضاء، هذا الانقسام يمنع القارة من لعب دور قوي في مواجهة القوى الكبرى مثل الصين وروسيا.
أوروبا اليوم تقف أمام منعطف مصيري، ولاستعادة دورها الريادي، تحتاج القارة إلى معالجة تحديات جوهرية تهدد وحدتها: أولا، ضرورة تعزيز التكامل العسكري والأمني بين الدول الأعضاء لتقليل الاعتماد على الناتو، خاصة مع تصاعد الصراع العسكري على حدودها، ثانيا، الاستثمار في التكنولوجيا والصناعات الحيوية للحد من الاعتماد على الصين وأمريكا، ثالثا والأهم، استعادة ثقة شعوبها عبر سياسات تقلل من الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الدول الأعضاء.
مع تسارع التغيرات العالمية، لم يعد التردد خيارا أمام أي قوة تسعى للحفاظ على مكانتها، بينما يواصل بوتين وشي وترامب إعادة تشكيل النظام العالمي وفق رؤيتهم، يجب على أوروبا أن تستيقظ من سباتها إذا أرادت أن تبقى لاعبا رئيسيا في هذا العالم الجديد.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب