مقالات

السلطة الجديدة في دمشق بين ضغوط الداخل والخارج

السلطة الجديدة في دمشق بين ضغوط الداخل والخارج

بكر صدقي

استبقت تركيا غيرها من الدول إلى التواصل المباشر مع السلطة الجديدة في دمشق، فأرسلت رئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن إلى العاصمة السورية حيث التقى بقائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع وصلى في الجامع الأموي. كان لافتاً في التفاصيل المرئية لهذه الزيارة تلك الجولة بالسيارة التي جمعت الرجلين وانتهت عند مدخل الجامع الأموي، فدخله الضيف التركي لأداء الصلاة التي سبق وتوعد بها أردوغان في العام 2011 ولم تتحقق، في حين بقي الشرع خارج الجامع ولم يرافق كالن حين دخل.
لا نعرف شيئاً عن المباحثات التي تمت بين الرجلين بحكم طبيعة منصب كالن الأمنية، بل تولى وزير الخارجية هاكان فيدان إعلان أولويات تركيا في العلاقة مع المرحلة الجديدة، حكومة جامعة ومكافحة الإرهاب والاستعداد للمساهمة في إعادة الإعمار. وهي تعني في سياق السياسة التركية بشأن سوريا على التوالي: عدم استبعاد الكتل السياسية والعسكرية السورية المقربة من تركيا، وعدم السماح بإنشاء كيان كردي على حدودها الجنوبية، ونيل حصة في إعادة الإعمار للشركات ورجال الأعمال الأتراك.
ترى ماذا كان رد الشرع على المطالب التركية؟ في غياب الشفافية لا يمكننا إلا الاستنتاج من الإشارات الرمزية في اللقاء بين الرجلين. كان يمكن أن يجلسا معاً على المقعد الخلفي للسيارة على أن يقودها سائق، لكن الشرع على ما يبدو أراد أن يكون هو في مقعد «القائد» تأكيداً لموقعه السياسي الذي كرسه من خلال قيادته للحملة العسكرية التي انتهت بإسقاط نظام الأسد، ليبقى لكالن موقع الضيف الذي ينقل طلبات القيادة التركية من السلطة الجديدة. كذلك فإن حرصه على عدم دخول الجامع برفقة ضيفه التركي يمكن قراءته كإشارة إلى استقلال قراره عن تركيا على رغم وزنها الثقيل في المعادلات السورية، بل بسبب هذا الوزن.
في الجانب التركي الحكومي حاول الإعلام الموالي تصوير هذا التفصيل «الشكلي» بطريقة مختلفة وكأن الشرع «عمل سائقاً» لسيارة رجل الاستخبارات التركي وما يعنيه ذلك من «فوقية» تركية في نظر الرأي العام الداخلي في تركيا. أما الزيارة بحد ذاتها، وبصرف النظر عن مضمون المباحثات بين الرجلين، فهي رسالة تركية إلى كل الدول الأخرى بأنها الرابح الأكبر مما حدث حسب ما تطمح إليه في مستقبل سوريا. لذلك فقد سارعت إلى حجز مقعد لها في اجتماع العقبة الذي سنأتي إلى تناوله. فمن منظور إقليمي نشأ فراغ للقوة في أعقاب الانسحاب الإيراني من سوريا إضافة إلى الضربة الإسرائيلية الكبيرة التي تعرض لها حزب الله في لبنان، وترى القيادة التركية أنها مؤهلة لملء هذا الفراغ، بخلاف إسرائيل التي كان تدخلها في سوريا ما بعد الأسد بقضم مناطق حدودية جديدة والقضاء على ما تبقى من إمكانيات عسكرية لتتمكن من فرض شروطها «الأمنية» على سوريا الجديدة.
أما المنظومة العربية إذا جاز التعبير فكانت آخر من يبادر إلى إعلان مطالبها ومتطلباتها بشأن سوريا الجديدة، على رغم أن الدول الغنية بينها تملك ورقة قوة مهمة تتمثل في مساهمتها المحتملة في إعادة الإعمار، وقبل ذلك في فرصة مساعدة السلطة الجديدة في الوقوف على قدميها في المدى العاجل. لا أعرف ما الفائدة من اعتماد لجنة الاتصال العربية التي تشكلت في زمن سابق بهدف استمالة نظام الأسد للمشاركة في «حل عربي» للمأزق السوري. فمن حيث بنية هذه اللجنة لم يعد ثمة أي معنى لتمثيل لبنان فيها بعدما انسحبت إيران من سوريا، إلا إذا كان موضوع إعادة النازحين السوريين في لبنان يمنح هذا البلد المنكوب حصةً في الدور العربي في سوريا الجديدة. بالمقابل كان يجدر باجتماع العقبة، بمستوييه العربي والإقليمي ـ الدولي أن يدعو ممثلاً للسلطة الجديدة في دمشق للاستماع إليه ووضعه في صورة المشاورات.

يدرك أحمد الشرع أنه يمشي في حقل ألغام شديد الخطورة ويحتاج في كل خطوة يقوم بها إلى دعم شعبي واسع وتوافقات إقليمية ودولية لا يمكن تجنبها

أما إيفاد المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون إلى دمشق «لإبلاغ» الشرع بنتائج اجتماعي العقبة فقد نال ما يستحقه من جواب حين قال له الأخير إن قرار مجلس الأمن 2254 قد تجاوزه الواقع الجديد بحكم خروج أحد طرفيه، نظام الأسد، من المعادلة.
غير أن تقادم القرار المذكور لا يتعلق فقط بخروج أحد طرفيه، بل بخروج الطرف الآخر أيضاً ألا وهو «هيئة التفاوض» المشكلة من «الائتلاف الوطني» ومنصتي موسكو والقاهرة، من المعادلة وفقاً للأمر الواقع الجديد. نعرف منذ سنوات أن الائتلاف بات محكوماً بالظهير التركي، في حين تشكلت «هيئة التفاوض» في الرياض. وهذا ما يعيدنا إلى موقع تركيا في الوضع الجديد وما تطمح إليه في مستقبلها. لنتذكر، في هذا السياق، أنه ثمة «حكومة سورية مؤقتة» تشكلت منذ العام 2013، وكانت الذراع الحكومية للائتلاف المعارض، ويحمل كثير من أعضائهما الجنسية التركية. وقد سارع أحمد الشرع إلى تشكيل حكومة تسيير أعمال من خلال نقل كامل «حكومة الإنقاذ» التي كانت تدير محافظة إدلب تحت المظلة العسكرية لـ«هيئة تحرير الشام» إلى دمشق، ولم يشرك وزيراً واحداً من الحكومة المؤقتة فيها، ناهيكم عن التشاور مع الائتلاف أو هيئة التفاوض أو حكومة النظام المخلوع التي اقتصر دور رئيسها الجلالي على «تسليم السلطة» لحكومة الإنقاذ. هذا ما قد يعني رد الشرع السلبي على المطلب التركي بشأن «حكومة جامعة» في حين أن تعاطيه التوافقي مع قوات سوريا الديمقراطية، منذ بداية حملة «ردع العدوان» إلى اليوم، يشير إلى رده على المطلب التركي الثاني. لذلك نرى اليوم حشوداً عسكرية تركية قرب كوباني مع استعدادات فصائل «الجيش الوطني» للهجوم عليها، كمؤشر على عدم توافق تركي مع دمشق.
لا شك أن نزول ملايين السوريين إلى الشوارع للاحتفال بسقوط نظام الأسد، في المدن السورية والمهاجر القريبة والبعيدة قد منح أحمد الشرع و«إدارة العمليات العسكرية» شرعية شعبية هو بأمس الحاجة إليها، لكنها تبقى شرعية ثورية مؤقتة ومشروطة بطبيعتها. كذلك فإن التدفق الدبلوماسي الأمريكي ـ الأوروبي على دمشق الذي عبر عن اعتراف أولي، مؤقت ومشروط بدوره، يحتاجها الحكم الجديد وسوريا معاً.
بالنسبة للسوريين الذين كانوا عملياً خارج المعادلات السياسية في السنوات الماضية، ومحكومين بالتدخلات الإقليمية والدولية وحساباتها، فهم يتوقون إلى التحرر من تلك الوصايات وإمساك زمام الأمور بأيديهم وبناء سوريا الجديدة كما يريدون. لكنهم يدركون، في الوقت نفسه، أن الأمور ليست بهذه البساطة، لا فيما بينهم ولا في علاقاتهم مع المتدخلين من الدول الأخرى. ويدرك أحمد الشرع أنه يمشي في حقل ألغام شديد الخطورة ويحتاج في كل خطوة يقوم بها إلى دعم شعبي واسع وتوافقات إقليمية ودولية لا يمكن تجنبها.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب