بين عامين واستعمارين!

بين عامين واستعمارين!
قبل 21 سنة، غزت الولايات المتحدة العراق واحتلته. الذرائع كانت مفبركة وكاذبة. القرار كان محض أميركي لم يقتنع به أو يشارك في تنفيذه سوى تابعة واشنطن الدائمة بريطانيا. أقر يومها «المحافظون الجدد»، برعاية وتبني الرئيس جورج بوش الابن، إستراتيجية «الحروب الاستباقية»، ونظرية «وضع قوة أميركا في خدمة اقتصادها» المعولم واحتكاراته العابرة للقارات. وقع الاختيار على بناء «شرق أوسط جديد» واسع وممتد، من الباكستان إلى موريتانيا. البداية كانت من العراق (وقبله في احتلال أفغانستان) والنتيجة احتلال هذا البلد أيضاً، وتكريس استخدام القوة أداة محورية في النزاعات والعلاقات الدولية.
خابت المحاولة في العراق (ولاحقاً في أفغانستان). الخسائر كانت هائلة. أعقبها تعثر المغامرة الأميركية الإسرائيلية في لبنان عام 2006: عجزت إسرائيل عن تنفيذ الخطة الأميركية بتصفية المقاومة في لبنان، وفشلت واشنطن في إرهاب سوريا وإخضاعها.
في أواخر عام 2011، كان موعد واشنطن مع تنفيذ قرارها بسحب جيوشها من العراق. الوجهة الجديدة كانت الشرق الأقصى حيث تنافس الصينُ واشنطن بقوة، متحولةً ما يشبه مصنع العالم في الصناعات الأوسع استهلاكاً بوجه خاص. تبلورت في السياق، وفي ضوء فشل استخدام القوة، إستراتيجية «الحرب الناعمة»، فكانت سلسلة «الثورات الملونة»، وكان «الربيع العربي»، في محاولة لتحقيق ما عجزت القوات العسكرية عن تحقيقه بالغزو والاحتلال. من ابتكارات «القوة الناعمة» التفتيت. إثارة النزاعات البينية والداخلية. تغذية الانقسامات والعصبيات العرقية والطائفية والمذهبية. برز، في السياق، دور التطرف («داعش» و«الخلافة»، كصنيعة، بتزوير الدين والتدين، لتحقيق أهداف الإمبراطورية الأميركية. إنه شبه تكرار لتجربة أفغانستان حيث تمكن «المجاهدون»، المدعومون من واشنطن وتابعيها الخليجيين، من إحراج الجيش السوفياتي وإخراجه مضرجاً بالهزيمة والخسائر (ما أسهم في تسريع انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته في أول تسعينيات القرن الماضي).
المشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة، ونفوذ الحركة الصهيونية الهائل في مؤسسات القرار و«صنع» الرأي في الولايات المتحدة، استعادا، مرة جديدة، أولوية الشرق الأوسط (العربي خصوصاً) في الإستراتيجية الدولية الأميركية، بالإضافة إلى أولويتي مواجهة روسيا في أوكرانيا والصين في تايوان. مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016، انطلق، مجدداً مشروع «صفقة القرن» مدموغاً ببصمة صهيونية عبر تكريس نتائج الاعتداءات الإسرائيلية من قبل الرئيس ترامب وعبر اتفاقات التطبيع «الإبراهيمية» التي قادها، وانتقاماً لخيبات واشنطن التي عزّزها، بالدرجة الأولى، تصاعد النفوذ الإيراني من مدخل القضية الفلسطينية. في ذروة الصراع على سوريا، بين محور واشنطن ومحور طهران، تدخلت موسكو مدشّنة تجربة دولة عظمى في المنطقة عبر التدخل العسكري المباشر، دعماً للسلطة السورية في أيلول عام 2016، ما منع سقوطها في أيدي تشكيلة من المعارضين (بينهم وأخطرهم تيارات إرهابية متطرفة) المدعومين من واشنطن والخليج والغرب عموماً.
تقدّم، في الموازاة، مشروع «الحزام والطريق» الصيني، مستهدفاً 67 دولة، وجاذباً أنظمة بعضها شديد الولاء لواشنطن، لاعتبارات المنفعة الاقتصادية، التي قد تأخذ بعداً سياسياً بعد توسُع وتوطد المشروع العالمي الطموح والمنافس. كان قلق واشنطن شديداً من النزعتين الروسية والصينية المناهضتين للتفرد الأميركي، ومن تعاون البلدين الكبيرين، ومن نشوء تكتلات وازنة تدعم محورهما في تصديه للهيمنة الأميركية: بشكل مباشر أو ضمني. في الأثناء، أيضاً، كان يتبلور «محور الممانعة» أو المقاومة الذي تتقدّمه إيران، والمناهض، هو الآخر، للسياسات والتوجهات الأميركية في الشرق الأوسط.
في صراع المحاور تلك، وبالارتباط الوثيق بالمحور المعادي لواشنطن في المنطقة، أدخلت عملية «حماس» باسم «طوفان الأقصى»، الصراع في طور جديد فاجأ العدو الصهيوني وداعميه، وكان صرخة اعتراض مدوية ضد مسار التطبيع التصفوي للقضية الفلسطينية. استغلت تل أبيب العملية لتطلق مساراً إرهابياً دموياً تدميرياً سرعان ما تحول حربَ إبادة وفرت لها واشنطن والأطلسيون كل وسائل التبرير والقوة والدعم في كل المنابر والحقول ما دشّن مساراً إجرامياً لم يشهد التاريخ له مثيلاً. بمبادرات جريئة ونبيلة (ومغامرة إلى حدٍّ ما بمقاييس التوازنات التقليدية)، كانت حرب «الإسناد» في الجنوب اللبناني وفي صنعاء التي فاجأت، بدورها، العالم، في قدرتها على الفعل والاستمرارية والتصميم. صنع ثلاثي غزة والمقاومة اللبنانية وصنعاء (ومعهم شعب غزة خصوصاً) مأثرة مقاومة وصمود أدهشت العالم!
النظام السوري الذي تكاثرت عثراته وصعوباته وأخطاؤه، واشتد الضغط عليه لإسقاطه بالتآمر والحصار وبتغذية التدخل الخارجي والاستنزافي، كان الضحية الأولى والانتكاسة الكبرى. أغرى ذلك نتنياهو، رئيس حكومة الفاشيين الصهاينة، بالإضافة إلى انخراط واشنطن وفريقها في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، بتعاظم الأطماع الصهيونية وفقاً للمخططات والخرائط التلمودية والصهيونية التأسيسية التوسعية والطموحة. عزّز ذلك فوز ترامب الكاسح ضد منافسيه الديموقراطيين. وجهة المعركة المباشرة العتيدة خوض معركة فاصلة ضد إيران وصنعاء (بدأت أثناء إعداد هذا المقال) تتورط فيها واشنطن: تدشيناً لـ«إعادة رسم خريطة «الشرق الأوسط»»، كما هدَّد وتوعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي غداة عملية «طوفان الأقصى»، وتطبيقاً لمشروعي «الشرق الأوسط الجديد» و«صفقة القرن».
هذه هي بعض أهم عناوين تقرير نهاية العام الذي يستنزف، الآن، أيامه الأخيرة، ومعها أعصاب شرفاء العالم بسبب هول معاناة أهل غزة، ليبدأ عام جديد سيكون امتداداً واستئنافاً للعدوان وللصراع على أوسع نطاق.
لبنان يكابد الآن وطأة ذلك، خصوصاً عبر محاولة واشنطن تبديد تضحيات مقاومته وشعبه، ولتمكين الصهاينة من أن يأخذوا في الهدنة (وليس السلم الذي لم يأتِ أوانه بعد) ما لم يتمكنوا من كسبه في الميدان نتيجة الصمود والمقاومة والتضحيات العظيمة. إن مزيجاً من الخطأ أو التواطؤ وسواهما، هو ما أدى إلى القبول براعي وشريك العدو في أن يكون، أيضاً، وسيطاً وحكماً!
يستدعي ما تقدم، على المستويين القومي والوطني، اشتقاق إستراتيجية تحرير وتحرر ذات برنامج كفاحي وأولويات واضحة في خوض معركة، هي، في الحقيقة، معركة استقلال حقيقي في مواجهة الاستعمارين القديم والجديد، وخصوصاً قاعدتهما العدوانية في المنطقة: العدو الصهيوني.
* كاتب وسياسي لبناني