مقالات

هل يبدو الشرع متفائلا في قدرة إدارته على إنجاز العملية السياسية؟

هل يبدو الشرع متفائلا في قدرة إدارته على إنجاز العملية السياسية؟

إبراهيم نوار

يتبنى أحمد الشرع قائد الإدارة الانتقالية في سوريا خطابا سياسيا عاقلا ومتوازنا، جعل المراقبين في الغرب يعتبرونه «براغماتيا» ينتمي إلى جيل جديد من القيادات السياسية الواعدة في العالم العربي. ومع أنه من الخطأ إطلاق أحكام لتقييمه اعتمادا على خطابه السياسي، قبل النجاح في اختبار تجسيد هذا الخطاب وتحويل مفرداته إلى حقائق على الأرض، فإن طول انتظار حدوث التغيير، وفداحة التضحيات التي قدمها السوريون، والسقوط السريع للنظام السابق، جعل السوريين أنفسهم في عجلة من أمرهم شوقا إلى نظام جديد.
وقد بدأت القيادة الانتقالية للثورة السورية في رسم ملامح العملية السياسية. وطبقا للتصريحات الأخيرة التي أعلنها أحمد الشرع قائد الإدارة الانتقالية فإن الانتخابات قد لا تجري قبل عام 2028، لأنها تحتاج إلى إعداد جاد بوضع دستور جديد، وتوفير البنية الأساسية الانتخابية، على التوازي مع إعادة تشكيل الأرضية السياسية والمناخ السياسي الصحي للعملية السياسية بأكملها، بدءا من حل التنظيمات العسكرية ودمجها بالجيش النظامي، وتحويل الجماعات والهيئات القائمة عليها إلى كيانات سياسية، تشارك في صنع المستقبل السياسي لسوريا الجديدة.

من الخطأ إطلاق أحكام لتقييم الشرع اعتمادا على خطابه السياسي، قبل النجاح في اختبار تجسيد هذا الخطاب وتحويل مفرداته إلى حقائق على الأرض

الشروط المسبقة لبدء عملية سياسية ناجحة في سوريا تبدو صعبة التحقيق داخل هذا الإطار الزمني، ما لم تتوفر الإرادة السياسية الكافية لدى الأطراف الأخرى، خصوصا «قوات سوريا الديمقراطية» التي تتحكم فيما يقرب من ثلث مساحة البلاد وأهم ثرواتها من النفط والغاز والزراعة. وتدل قراءة رؤية الشرع للعملية السياسية على أنها تنبع من ثلاثة مصادر رئيسية. الأول هو التجربة العراقية في إعادة بناء الدولة بعد الغزو الأمريكي عام 2003، والعمل على تجنب الأخطاء التي وقعت فيها. المصدر الثاني هو تجربة «هيئة تحرير الشام» في إدارة «المنطقة المنخفضة التوتر» في إدلب اعتبارا من عام 2017. المصدر الثالث هو طبيعة أوضاع الشعب السوري نفسه، من حيث أن ما يقرب من نصفه يعيش خارج البلاد أو في مناطق نزوح في داخلها (حوالي 13 مليون شخص حسب تقدير الأمم المتحدة)، الأمر الذي يستوجب إقامة بنية أساسية تنموية كافية لاستيعاب اللاجئين والنازحين، بما يحقق مصداقية للعملية السياسية.

التجربة في العراق

بعد دخول القوات الأمريكية برا إلى العراق في مارس 2003 أصدر الرئيس جورج بوش الإبن أمرا بإخضاع العراق لإدارة مدنية برئاسة بول بريمر (الحاكم المدني للعراق). وقام بريمر من ناحيته بتعيين «مجلس الحكم» يعاونه في تسيير شؤون الإدارة المدنية، على أساس مبدأ المحاصصة الطائفية (الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيون والتركمان). ومع أن المجلس نفسه استمر في ممارسة صلاحياته تحت إشراف بريمر لمدة عام تقريبا، كانت له خلالها سلطة النقض على قراراته، إلا أن توزيع المناصب السياسية، استمر على أساس المحاصصة كما جاء في الدستور. ووصل الأمر إلى أن التعيينات في المناصب في الوزارات المختلفة، حتى في أدنى المراتب، كانت وما تزال تخضع لهذه القاعدة. وكان الظلم السياسي والحرمان الاقتصادي والاجتماعي، الذي تعرض له الشيعة العراقيون خلال حكم صدام مبررا قويا لتمسكهم بمبدأ المحاصصة وعدم التفريط فيه. وقد امتدت العملية السياسية في العراق تحت إشراف الأمم المتحدة حتى أواخر عام 2005 (3 سنوات تقريبا)، وكنت وقتها مسؤولا عن الشؤون السياسية في البعثة الأمنية. وتضمنت العملية عقد مؤتمر للحوار الوطني، وتشكيل جمعية وطنية مؤقتة، تضم ممثلين عن الأحزاب السياسية والقبائل والأقاليم، تولت مسؤولية وضع نظام للتمثيل البرلماني في انتخابات حرة تجري تحت إشراف الأمم المتحدة. وعلى التوازي تشكلت مجموعة عمل موسعة تحت إشراف عدد من الخبراء الدستوريين من ذوي التجارب الدولية لوضع الدستور الجديد للعراق (لجنة الدستور). وكان المبدأ الثاني الجديد الذي دخل إلى القاموس السياسي العراقي مع إقرار الدستور الجديد هو مبدأ «فيدرالية الدولة»، وهو المبدأ الذي يسمح لأي محافظة، أو عدد من المحافظات بالاتفاق على إقامة إقليم واحد يتمتع بسلطات واسعة في إدارة الشؤون المحلية والعامة، باستثناء سلطات الدفاع والسياسة الخارجية والمالية. وبذلك فقد أضافت خبرة صياغة الدستور مبدأين جديدين من مبادئ النظام السياسي معا لأول مرة في الدستور العراقي، هما «المحاصصة» و»الفيدرالية». علاوة على ذلك فإن النظام السياسي العراقي منذ الغزو الأمريكي اختلط إلى حد كبير بتداخل البندقية مع التنظيم السياسي، الأمر الذي جعل الولاء للتنظيم المسلح أقوى بكثير من الولاء للدولة. ومن الواضح أن خطاب الشرع السياسي يرفض كلا من المبدأين: المحاصصة والفيدرالية كما يرفض انتشار السلاح خارج أيدي الدولة.

التجربة في إدلب

خلال فترة حكم إدلب (2017 – 2024) نجحت حكومة هيئة تحرير الشام في تقديم صورة إيجابية للجماعة الجهادية، التي نجحت في الانتقال من «الجهادية العالمية» إلى «الجهادية المحلية»، أو «توطين الجهاد محليا»، وممارسة سلطات الدولة بالتعاون مع آخرين على الأرض. وطبقا لتقدير مراقبين للوضع في إدلب؛ فإن تلك الحكومة نجحت في جذب استثمارات أجنبية إلى المحافظة، وصيانة وتشغيل خدمات المياه والكهرباء والتعليم والعلاج. وعلى الرغم من الانتقادات بأن الإدارة كانت تسلطية، فإنها طبقت مواءمات سياسية وأخلاقية ضمنت الاستقرار، وهي تستفيد الآن من تجربتها السابقة في بناء الإدارة الانتقالية، مع علمها بأن ما صلح في إدلب قد لا يكون بالضرورة صالحا لسوريا ككل. وتظهر الأسماء المعلنة للمسؤولين في قيادة الإدارة الانتقالية في المناطق الخاضعة لها، أن القرار بتزكيتهم جاء من مجلس الشورى العام لهيئة تحرير الشام، وأنهم مكلفون بالعمل حتى مارس المقبل، بقرار من قائد الإدارة الانتقالية أحمد الشرع زعيم الهيئة. وقد رد الشرع على الانتقادات الموجهة إلى الإدارة بسبب سيطرة الهيئة عليها، وعدم وجود أسماء من جهات أخرى، بأن هذا الوضع هو مجرد استجابة مؤقتة لطبيعة المرحلة، التي تستلزم أعلى مستوى من التفاهم بين شخصيات الإدارة. الأسباب الأخرى الذي نراها موضوعيا من مبررات هذا الوضع المؤقت، هي أن قوات هيئة تحرير الشام هي التي تولت بالفعل قيادة المرحلة الأولى من التغيير بإسقاط نظام بشار الأسد، وأن الهيئة كانت تدير منطقة متنوعة القوميات والديانات في إدلب، وتعتبر نفسها امتدادا سياسيا للدولة السورية، بلا قيود طائفية أو قومية. وقد ساعدت الخبرات الإدارية التي تم تطويرها هناك على سرعة تعيين قيادات إدارية وسيطة، وتجنب حدوث فراغ إداري في المحافظات الخاضعة للسلطة الانتقالية، في كل المجالات تقريبا مثل، النفط والكهرباء والصحة والتعليم والنقل والخدمات العامة والنظافة.

استيعاب المهاجرين والنازحين

لا توجد إحصاءات دقيقة ومؤكدة عن ملامح الخريطة السكانية في سوريا. ويعتبر نقص وعدم مصداقية الأرقام واحدا من مظاهر فشل الدولة في ممارسة مهامها. ولذلك فإن الحديث عن احتياجات التنمية، أو عن المشاركة السياسية، لا يتمتع بأي مصداقية من دون وجود أرقام دقيقة، سواء لتقدير احتياجات بناء المساكن والمدارس والمستشفيات، أو لتقدير عدد الناخبين ورسم حدود الدوائر الانتخابية. وإذا افترضنا أن الحوار الوطني سيبدأ، أو يبدأ الإعداد له في شهر مارس، فإن الاحتياج الأول لضمان نجاح هذا الحوار هو توفير الإحصائيات السكانية الضرورية. ذلك أن الحوار الوطني يجب ألا يقتصر فقط على العملية السياسية، وإنما من الضروري أن يبحث في الاحتياجات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. بمعنى آخر فإن الحوار الوطني يجب أن يحلق بجناحين، سياسي وتنموي. السياسي يشمل الدستور والمؤسسات التشريعية والانتخابات ومعايير تنظيم المشاركة السياسية للأفراد والمؤسسات السياسية. أما التنموي فيشمل احتياجات استيعاب المهاجرين والنازحين وإصلاح وبناء المرافق الأساسية والخدمات والطاقة والصناعة والزراعة والمؤسسات الاقتصادية، ودور القطاع الخاص والمجتمع المدني، ومعايير ضبط علاقة الدولة بالسوق. المتغير المحوري الآخر في إطلاق عملية التنمية هو «تحدي التمويل» إذا استمرت العقوبات الدولية.
المصادر الثلاثة التي ينبع منها الخطاب السياسي تغذي طابعه المعتدل والعقلاني، ولكنها لا تضمن تحقيقه على الأرض، فهو ينطلق من رفض المحاصصة لأنها تدمر الدولة وتعطل عمل المؤسسات. كما انه يرفض الفيدرالية والتقسيم، وهو ما قد تفضله أطراف أخرى. وهو يريد دولة تعيش في سلام مع نفسها، ومع جيرانها ومع العالم، لا تمثل إزعاجا لغيرها، لكنه لا يقدم ما يفيد بالرد في حال تعرضها للإزعاج من غيرها. هذه الرؤية التي يتبناها الشرع ما تزال ناقصة، فيما يتعلق برد فعل «الدولة» في حال وجود مقاومة داخلية لنزع سلاح الجماعات المسلحة، وفي حال وجود اعتداء خارجي على «الدولة» بهدف إضعافها وتعطيل العملية السياسية والتنموية، أو في حال تمرد مجموعة تنتمي لجبهة تحرير الشام ضد الحل أو نزع السلاح.
كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب