سوريا الخمسينيات: التجربة الموءودة
صبحي حديدي
خلال سنوات أعقبت انتهاء الانتداب الفرنسي وإعلان الاستقلال الوطني الرسمي، 1947، وسبقت أنظمة الوحدة السورية ــ المصرية وانقلاب 1963 البعثي/ الناصري؛ شهدت سوريا مناسبات مجيدة سجلت صفحات خالدة في تاريخها الحديث الديمقراطي والعصري والحداثي، كما قد يصحّ القول. ولعلّ الطور الراهن من حياة البلد، بعد انهيار نظام “الحركة التصحيحية” وعصابات آل الأسد، يقتضي استعادة الكثير من تلك المآثر، خلال خمسينيات القرن المنصرم. وهذه السطور تستحبّ استذكار مناسبتين، ما يسمح به المقام في هذا العمود، لهما أغلب الظنّ العديد من الدلالات بصدد السياقات السورية المعاصرة، وآفاق التطلع إلى مستقبل ديمقراطي وعصري عماده المواطنة ودولة القانون والحقوق والواجبات.
المناسبة الأولى كانت في اليوم الأوّل للاستقلال، 17 نيسان (أبريل) 1946، حين قام الرئيس السوري شكري القوتلي (1891ــ1967) بتقليد عدد من ضباط الجيش السوري أوسمة تكريمية؛ وكان على رأس المكرّمين العقيد عدنان المالكي (1919ـ1955)، نائب رئيس الأركان الذي سوف يلقى حتفه اغتيالاً. صحيح أنّ التقليد كان جديداً من حيث الشكل والمحتوى، ومثله كان الوسام المصمّم حديثاً للتعبير عن سوريا المستقلة المتحررة؛ إلا أنّ الرمز الأعلى خلف المراسم تلك كانت خضوع الجيش السوري لحكام البلاد المدنيين، وللساسة في مواقع المسؤولية وليس كبار ضباط الأركان والأفواج والألوية العسكرية.
وإلى جانب إعطاء الإشارة الأبكر على التقيّد بمبادئ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدستور الوطني لسنة 1950، انطوت المراسم على تفصيل تربوي بالغ المغزى: إشراك المئات من الناشئة تلاميذ المدارس في الحفل، بهدف تعلّم الدروس التربوية الحاسمة حول هذا المناخ الجديد بين المدنيّ والعسكري، وحول موقع الجيش الوطني في هرم المسؤوليات الوطنية. وبالمعنى التاريخي الأكثر تعبيراً عن متغيرات سوريا خاصة، وحركات الاستقلال الوطني في المنطقة وما سيُسمى “العالم الثالث” عموماً، كان شطر غير ضئيل من أعراف المشاريع الاستعمارية الغربية يُطوى، في صياغاته التقليدية القديمة على الأقلّ.
المناسبة الثانية خلّدتها صورة فوتوغرافية تعود إلى عام 1955، وتحديداً يوم 6 أيلول (سبتمبر)، ويظهر فيها رجلان يتبادلان التوقيع على وثيقة من نسختين: الأول هو هاشم الأتاسي (1875 ـ 1960) رئيس الجمهورية آنذاك، والثاني هو القوتلي رئيس الجمهورية المنتخب؛ وأمّا الورقة التي تبادلا التوقيع عليها فهي وثيقة انتقال السلطات الدستورية، وتقول بعض فقراتها: “في هذا اليوم (…) جرى في ندوة مجلس النوّاب انتقال السلطات التي خوّلها الدستور لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي، إلى حضرة صاحب الفخامة السيد شكري القوتلي الذي انتخبه مجلس النوّاب رئيساً للجمهورية (…) وقد شهد ذلك صاحب الدولة الدكتور ناظم القدسي رئيس مجلس النواب، والأستاذ صبري العسلي رئيس مجلس الوزراء، والسيد وجيه الأسطواني رئيس المحكمة العليا”. ولا يخفى، بالطبع، ترتيب السلطات الثلاث الشاهدة على التوقيع: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
والحال أنّ تلك الممارسة، الديمقراطية والحضارية، باتت غريبة على أبصار وأسماع غالبية العرب في مشارق أرضهم ومغاربها، وافتقدتها ـ إذْ لم يحدث أنها تكرّرت مراراً في حياة ـ الأجيال العربية بعد ذلك التاريخ؛ حين استولى أصحاب العروش والتيجان والقبعات العسكرية على مقاليد الأمور، وتراجعت السياسة إلى الباحة الخلفية، أو قبعت في الزنازين، أو تلقفتها المنافي هنا وهناك. إنها، غنيّ عن القول، تُفتقَد في هذه الأيام تحديداً، وأكثر من أيّ وقت مضى، ويتوجب أن تكون في صدارة ما يُطلب من السلطات الحاكمة في سوريا الراهنة، وما يُلزمهم باستلهام نهجها.
أيّ جيل عربي يتذكر انتقالاً سلمياً للسلطات بين رئيس انتهت ولايته وآخر انتُخب لتوّه، وفي المقابل كم من الأجيال ذيقت مرارة الانقلابات، والانقلابات على الانقلابيين، ومَسْخ السياسة إلى محرّم محظور، وتحويل المواطن إلى واحد من اثنين: سواد أعظم يلهث خلف الرزق اليومي، من دون أن يفلح في بلوغ كرامة العيش؛ وفئة، قليلة العدد مطلقة الصلاحيات، من الطغاة واللصوص ومافيات السلطة والفاسدين المفسدين؟
أسباب كثيرة تحضّ إذن على إعادة استلهام رجال من ذلك الرعيل الرائد، على سبيل مثال القوتلي: رجل باع أملاكه الشخصية لتمويل نضالات الحركة الوطنية ضدّ الأتراك وضدّ الاستعمار الفرنسي في آن، وخاطب ونستون تشرشل بعد أن التفت إلى البحر القريب: “شعبنا لن يكبّل وطنه بقيد العبودية والذلّ والاستعمار حتى لو أصبحت مياه هذا البحر الزرقاء حمراء قانية”. هو، كذلك، المسؤول الذي تخلى طواعية عن منصبه كرئيس للجمهورية السورية، منتخَب ديمقراطياً ومحبوب من شعبه وصاحب حظوة واحترام في العالم، مقابل تحقيق الوحدة السورية ـ المصرية.
أسباب، كثيرة بدورها، وقفت خلف وأد تلك التجربة الديمقراطية الوليدة، وقَطْع الدروب كافة أمام تحويلها إلى نموذج عربي وشرق أوسطي فريد ولامع، لا يُحتذى بسبب من مكاسبه العديدة في ميادين الحقوق والحريات العامة فحسب؛ بل كذلك لأنّ سوريا كانت، كما في العديد من سمات حالها الراهنة، محطّ احتلالات وصراعات إقليمية ودولية شتى. أو هي، كما يقول شاعرها الكبير الراحل عمر أبو ريشة، أرض “لنْ تري حفنة رمل فوقها/ لم تُعطّر بدما حرّ أبي”.