مقالات

هي أزمة انتخاب رئيس للجمهورية أم انكشاف استراتيجي للمجتمع والدولة في لبنان؟ بقلم الدكتور محمد مراد باحث وأستاذ جامعي-لبنان –

بقلم الدكتور محمد مراد باحث وأستاذ جامعي-لبنان -المنبر الثقافي العربي والدولي-

هي أزمة انتخاب رئيس للجمهورية أم انكشاف استراتيجي للمجتمع والدولة في لبنان؟
بقلم الدكتور محمد مراد باحث وأستاذ جامعي-لبنان –
بعد ما يقرب من السنتين على شغور كرسي الرئاسة في الجمهورية اللبنانية، لم يظهر النواب اللبنانيون, وبعد تعيين سلسلة من الجلسات الانتخابية, على أنّهم قادرون على لببنة الموضوع الرئاسي, بعيدا عن الإملاءات الاقليمية والدولية من جهة، وانقساماتهم العمودية الآخذة بالتزايد من جهة أخرى.
المشكلة الكامنة وراء مأزق الرئاسة الأولى, باتت تنذر بانسحابها على سلسلة من المآزق الدستورية والسياسية والحكومية, وصولا الى استحقاقات مؤسسية وادارية تأتي في مقدّمتها مسألة تجديد الإدارات البلدية المحلية عبر عمليات ديمقراطية تؤسس لسلطات قاعدية ديمقراطية على مستويي المجتمع والدولة معا .
إنّ المراقب الموضوعي لحركة تطور المجتمع اللبناني في تاريخه الحديث والمعاصر, يرى أنّ المسار التطوري لهذا المجتمع كان يحصل دائما على قاعدة أزمة عميقة على مستوى البنية الاجتماعية – السياسية، لا سيّما في الجانب المتعلق منها بانتاج أو بإعادة انتاج السلطة السياسية الحاكمة. فجماعات المكانة أي أصحاب النفوذ الزعامي – السياسي كانوا يلجأون الى توظيف المسألة الطائفية, بوصفها المصدر الاستثماري الأكثر اعتبارا بين سائر المصادر الأخرى, لمواقعهم السلطوية وتعزيز شروطهم التفاوضية في كل معركة يعاد فيها توزّع السلطة على قاعدة المحاصصة أو المناصب بين سائر القوى الطائفية المختلفة .
إنّ ظاهرة التطييف السياسي كأحد أبرز آليات انتاج السلطة استمرت ظاهرة ملازمة لتطور الحياة السياسية في الدولة اللبنانية الحديثة بدءا من نشأتها في العام 1920، مرورا بالاستقلال الوطني في العام 1943, وصولا الى صيغة الطائف التي أوقفت الحرب الأهلية ميدانيا عام 1989، دون أن توقف الصراع السياسي المخزون تاريخيا, ثمّ تلتها تسوية الدوحة في العام 2008. فعلى الرغم من كل هذه المحطات التسووية استمرت المحاصصة قاعدة ثابتة في توزّعات السلطة, لا سيّما توزّيع المناصب الحكومية والبرلمانية بين الزعامات الطائفية التي عرفت ثباتا طويلا في الحكم, والتي كانت تضع نفسها فوق الدولة وفوق القوانين العامة التي اعتمدت كآليات لتسيير الدولة وإدارة شؤونها .
ولمّا كان لبنان مجتمعا تعدديا ضمّ حوالي تسعة عشر مذهبا دينيا، فقد كان من الطبيعي أن تصادف عملية توزّع السلطة الى أنصبة بين الطوائف المختلفة عقبات، لا بل صعوبات جمة, لا سيّما وأنّ عملية المحاصصة بحدّ ذاتها كانت على ارتباط وثيق بمتغيّرات القوى الطائفية في صعودها أو هبوطها من ناحية، وبدور العوامل الخارجية الاقليمية والدولية ذات التأثير البالغ على حركة الوضع اللبناني الداخلي من ناحية أخرى. من هنا، كان مسلسل الأزمات اللبنانية ظاهرة ثابتة في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، فما كادت تختفي أزمة حتى كانت تطل أزمة جديدة، وذلك في كل مرة تتعثر فيها عملية محاصصة السلطة بفعل المتغيّرات الحاصلة على مستوى القوى الطائفية على مستويين اثنين:
الأول, داخلي, ويتمثل بمتغيّرات سكانية ديمغرافية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية وأيديولوجية، وعسكرية (ميليشيوية ) من جهة، الثاني، خارجي، ويعكس المتغيّرات الاقليمية والدولية وتقاطعاتها مع الداخل اللبناني من جهة أخرى. لقد استمرت البنية السياسية اللبنانية، وهذا هو الأخطر في تطور لبنان السياسي منذ قيام الدولة الحديثة وحتى اليوم, في كونها بنية مخزونة بعناصر خارجية.
فالعناصر الحاملة لهذه البنية من داخلية وخارجية كانت تتحوّل باستمرار الى عناصر تضادّ داخل البنية نفسها مع مجرد أي تأزّم يطرأ داخليا أو خارجيا, ذلك أنّ أي أزمة داخلية كانت تجد لها أصداء سريعة في الخارج الاقليمي أو الدولي, وكذلك، فإنّ أي أزمة في هذا الخارج كانت تثير أزمة موازية أو امتدادية لها في الداخل اللبناني المحلي.
إنّ توصيفا موضوعيا لحركة المتغيّرات الطائفية, وكيف أنّ هذه المتغيّرات أفضت الى اختلال التوازن في توزّعات السلطة، يظهر, الى حدّ بعيد، أنّ ثمّة قانونا تاريخيا طائفيا – سياسيا حكم انتاج ازمات لبنان المستمرة، ومنها الأزمة الراهنة – أزمة الشغور في رئاسة الجمهورية – والتي بات معها المجتمع اللبناني اليوم أقرب الى الانقسام العمودي السياسي – الطائفي، وتهدد مستقبل الكيان الوطني وتضعه أمام المجهول.
إنّ حلا جذريا للمسألة اللبنانية يكمن أولا وأخيرا في تغليب الخيار الوطني و وتأكيد نهائية الدولة الوطنية اللبنانية كمشروع استراتيجي حاضن للوطن اللبناني وللشعب اللبناني الواحد.
​إنّ بناء الدولة الوطنية المستدامة يكمن في اعتماد الاستراتيجية التأسيسية المرتكزة الى مبدأ التراكم الخطي الايجابي انطلاقا من الآتي:
1 – المواطنة كهوية ثابتة في الانتماء الى الوطن اللبناني، مقابل انتفاء خصوصيات الانتماء الطائفي والمذهبي والمناطقي. إنّ انجاز المواطنة اللبنانية يبدأ مع تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وفق أحكام الدستور, على أن تضمّ فاعليات وطنية، ورموزا نخبوية فكرية وثقافية وأكاديمية تمثل التيار اللاطائفي, لمباشرة الخطوات الإجرائية باتجاه العبور من دولة الطوائف والمذاهب الى دولة المواطنين – دولة الشعب اللبناني الواحد .
2 – إقرار قانون انتخاب جديد للتمثيل النيابي يأتي تفصيله على قياس الدولة والشعب, وليس على قياسات المصالح الزعامتية والطائفية. من مواصفات هذا القانون الانتخابي اعتماد جغرافية انتخابية على أساس دوائر الاندماج الوطني، والتمثيل النسبي خارج القيد الطائفي، وعلى نحو يضمن فرصا متكافئة للتكلات واللوائح المتنافسة ديمقراطيا .
3 – إصدار قانون عصري للأحزاب السياسية يعزّز التوجهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية. إنّ مثل هذا القانون يساهم في إغناء الحياة السياسية، ويعزّز الروح الوطنية، وإليه يعود الدور الأكبر في قيام جماعة الدولة على أساس وضع الدولة فوق سائر الجماعات الطوائفية, وليس كما هو حاصل اليوم، من حيث وقوف الجماعات الطوائفية فوق الدولة .
4 – تفعيل الهيئات الرقابية وتحديث الإدارة, واعتماد مبدأ الأهلية والكفاءة في التوظيف، وكسر احتكار زعامات السلطة للوظائف العامة، ومكافحة الزبائنية السياسية الحامية لكل أشكال الفساد الإداري والمالي المستشري في غير إدارة ومؤسسة عامة في القطاع العام الحكومي أي قطاع الدولة .
5 – اعتماد الانتظام الدوري في إجراء الانتخابات البلدية، الأمر الذي يؤسس لإنتاج سلطات ديمقراطية قاعدية أي على مستوى قاعدة الهرم السلطوي، ذلك أنّ تأسيس الديمقراطية القاعدية هو بمثابة المدخل الضروري لتأسيس الديمقراطية الرأسية أي على مستوى القيادات المركزية للدولة من نيابية وحكومية وسواها .
6 – العمل على تضييق فجوة الاختلالات القطاعية أي بين قطاعات الانتاج الزراعة، الصناعة والخدمات والتجارة. ينبغي على الدولة اعتماد خطط استراتيجية للتنمية الاقتصادية تقوم على تشجيع الاستثمار في القطاعات الانتاجية الثلاثة، وعلى إيلاء أهمية للتدخلات الايجابية لتنمية المناطق الطرفية والأرياف الزراعية، وذلك بهدف الوصول الى توازن انمائي على مستوى القطاعات المنتجة من جهة، والمناطق اللبنانية المختلفة من جهة أخرى. وفي هذا المجال تبرز الحاجة الى تفعيل المشروع الأخضر الذي انشىء في العام 1963، وقد قام بانجازات مهمة في مجالات استصلاح الأراضي الزراعية، وزيادة الانتاج، وفي الحدّ من هجرة الأرياف ومن النزوح الى المدن.
7 – التخطيط لسياسة اجتماعية تسهم في اتساع شبكات الآمان والضمانات الاجتماعية، لا سيّما في ميادين السكن والاستشفاء والتعليم والشيخوخة، وحماية مؤسسة الضمان الاجتماعي والسعي لتطويرها وتحديثها من أجل التقدم باتجاه التنمية البشرية المستدامة، والخروج من الدولة المغانمية القائمة على المحسوبية والزبائنية الخدمية .
خلاصة: إنّ أسباب تعثر النهوض اللبناني تكمن أولا وأخيرا في السياسات التي اعتمدت في معالجة الأزمات المتلاحقة والتي هي أزمات معادة الانتاج رافقت قيام الدولة اللبنانية الحديثة منذ العام 1920 وحتى اليوم. فلم تفض المعالجات الى ايجاد الحلول الدائمة لتلك الأزمات، وانما كانت في معظمها محاولات لتأجيل الأزمة الناشئة وليس الى الغاء أسبابها ومحاصرة تداعياتها .
ثمّة جدلية تاريخية حكمت المسار التطوري للبنان الحديث والمعاصر هي جدلية الأزمة – التسوية, وذلك عبر دورية تعاقبية لإنتاج وإعادة إنتاج سلسلة متواصلة من الأزمات – التسويات، بحيث أنّ كلّ أزمة كانت تنتهي الى تسوية مؤقتة ثمّ تعود التسوية لتتعثّر وتتحوّل من جديد الى أزمة, وهكذا دواليك ..
إنّ خروج لبنان من مأزق أزماته التاريخية المستمرة إنما يكون بقيام الدولة الوطنية والخروج النهائي من صيغة الدولة المغانمية والسلطة الريعية الثابتة في الحكم . ينبغي إعادة قوننة الدولة ومأسستها في الاتجاه الذي يستجيب لقيامة لبنان الوطن.. لبنان الجغرافية والهوية، لبنان الشعب الواحد والمصير الواحد .
من الأهمية بمكان تعزيز الدور الريادي لمؤسسات المجتمع المدني ( أحزاب، نقابات، جمعيات وروابط الخ … ) التي تبقى بمثابة صمّام الأمان للسلام الوطني اللبناني, وهو السلام الأقدر على إخراج لبنان من عنق أزماته الراهنة، والولوج الى رحاب الاستقرار الذي بات راهنا ومستقبلا حاجة وطنية للشعب اللبناني برمته .
إنّه التحدي الذي يواجهنا جميعا, فهل نحن قادرون على توليد استجابات من شأنها النهوض بالوطن اللبناني المرتكز الى قواعد التطور الديمقراطي من خلال عمل المؤسسات الديمقراطية, واعتماد مبدا المواطنة كشرط معياري لقيام الجماعة الوطنية اللبنانية المتماثلة من حيث وحدة نسيجها الاجتماعي والثقافي، ووحدة مصالحها المشتركة ومصيرها المشترك الواحد؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب