هل ستكون “المفرقعات” نقطة الضوء الوحيدة في انتخاب عون رئيساً؟
هل ستكون “المفرقعات” نقطة الضوء الوحيدة في انتخاب عون رئيساً؟
حتى اللحظة الأخيرة قبل فرز أصوات أعضاء البرلمان في جلسة انتخاب الرئيس، كان يبدو أن الأمر يتعلق بحدث آخر على المسرح السياسي اللبناني، وكأنه لم تحدث حرب، وأن الدولة غير مفلسة، وأن حزب الله ما زال بكامل قوته السياسية، وأن النظام في سوريا لم يتغير، وأن “الفرصة التاريخية” التي ستحدد مستقبل الدولة هي حلقة أخرى في مسلسل كوميدي باسم “لبنان ينتخب الرئيس”.
الكراهية والانتقاد والاتهام التي تبادلها أعضاء البرلمان في الوقت الذي سبق الجولة الأولى للتصويت، انتقلت إلى صناديق الاقتراع، التي كتب على واحد منها جوزيف، وعاموس، وبن فرحان، بالإشارة إلى أن انتخاب جوزيف عون ليس اختيار الـ 128 عضواً في البرلمان، بل اختيار عاموس هوكشتاين، المبعوث الأمريكي، واختيار يزيد بن فرحان، المسؤول عن الملف اللبناني في وزارة الخارجية السعودية. “لقد استدعينا للمصادقة على إملاء، وليس للانتخاب”، قال أحد أعضاء البرلمان.
في الجولة الأولى حصل جوزيف عون على 71 صوتاً من بين الـ 86 المطلوبة للمصادقة على تعيينه. ولكن نبيه بري (87 سنة)، رئيس البرلمان ورئيس حركة “أمل” الذي توسط بين حزب الله والحكومة اللبنانية ودول الوساطة من أجل التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، كان قصير النفس. فقد صمم على استكمال عملية انتخاب الرئيس، وليس عبثاً أن دعا عشرات الدبلوماسيين الأجانب للمشاركة في هذا العرض. تأجل التصويت في الجولة الثانية لساعتين، نجح فيها بالتهديد والمصالحة ولي الأذرع. بعد ذلك، حصل عون على 99 صوتاً، وأصبح الرئيس الـ 14 للبنان.
لقد شهد دستور لبنان أمس صعوداً وهبوطاً، فظهر وكأنه اللاعب الرئيسي الذي يهدد إفشال عملية الانتخاب. الدستور يمنع الموظفين الكبار، من بينهم ضباط جيش كبار وقضاة، من الترشح للرئاسة. بالتالي، لم يكن من المفروض حتى أن يكون عون مرشحاً لمنصب الرئيس. ولكن اختيار جنرال يتولى منصبه لمنصب الرئيس كانت له سابقة بالفعل، حيث تم انتخاب ميشيل سليمان، قائد الجيش، في العام 2002 لمنصب الرئيس. العقبة الدستورية تبخرت عند انتهاء جولة الانتخابات الثانية، وأثبت لبنان بأنه دولة يعرف القانون فيها كيفية إظهار المرونة البهلوانية.
كان هذا الامتحان الأول، السهل نسبياً، الذي كان على عون أن يواجهه. لقد احتاج نجاح المجلس النيابي لانتخاب رئيس 13 جولة تصويت منذ تشرين الأول 2023، وانتهاء ولاية الرئيس السابق ميشيل عون (لا توجد قرابة بين الاثنين). أسباب ذلك كثيرة: الخلافات السياسية الشديدة بين حزب الله (الذي دعم سليمان فرنجية) وبين رؤساء الأحزاب المسيحية، مثل سمير جعجع زعيم القوات اللبنانية، وسامي الجميل نجل أمين الجميل ورئيس حزب الكتائب، والخصومة بينهم وبين جبران باسيل صهر الرئيس السابق ورئيس حزب “التيار الوطني الحر”، وسلوك جنبلاط المتلون وهو الزعيم الدرزي الذي عارض مرة حزب الله ومرة أخرى أيد مرشحه، والخلافات بينه وبين الزعيم الدرزي الآخر وئام وهاب، كل ذلك جعل جولة انتخاب الرئيس عديمة الجدوى.
أمس، حاول باسيل أيضاً الاعتراض على التصويت، الذي تم حسب رأيه تحت ضغط كبير من الخارج. “عدنا إلى عهد القناصل (الأجانب) في لبنان، الذين يملون اسم الرئيس من الخارج”، اتهم باسيل. “نشاهد الآن خطوة التعيين التي يقوم بها البرلمان… هذا مشهد مخجل”. وبعد فشله في جهود تخريب عملية انتخاب عون، ربما يكون باسيل زارع الألغام الرئيسي في طريق الرئيس الجديد، ولن يكون الوحيد.
الشخص الذي انتخب لإعادة الإعمار
يمكن التقدير بيقين بأنه لولا الحرب ونتائجها، لتأخرت جولة انتخاب الرئيس الحالية بدون تقييد. لكن الضربة الشديدة التي تلقاها حزب الله والأضرار الكبيرة، المباشرة وغير المباشرة، التي تسببت بها الحرب للبنان (التي تقدر بنحو 13 مليار دولار)، ومليون وربع لاجئ ومهجر، وعشرات آلاف البيوت التي تم تدميرها – كل ذلك خلق ضغطاً جماهيرياً داخلياً كبيراً، الذي حول مسألة انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة إلى الفرصة الأخيرة للبنان من أجل الحفاظ على مكانته كدولة.
عند تآكل قوة حزب الله العسكرية، ضعفت قبضة إيران القوية في لبنان. لقد كان من الواضح لحزب الله برئاسة نعيم القاسم، ولطهران أيضاً، بأن الوضع الجديد يحتاج إلى تغيير الاستراتيجية إذا كانوا يريدون الحفاظ على الأقل على التأثير السياسي في لبنان. في الوقت نفسه، تبلور الضغط الدولي (لا سيما الأمريكي والفرنسي) الذي لم ينجح خلال الحرب في أحداث انعطافة سياسية في لبنان، وانضمت إليه السعودية بشكل نشط. فهي أيضاً قد تكون الممول الرئيسي لإعادة إعمار لبنان. في الفترة الأخيرة، أصبح هذا الضغط مكبساً ثقيلاً، وجعل نعيم قاسم يعلن بأن حزبه لن يستخدم الفيتو على انتخاب عون. لذلك، أعلن مرشح “حزب الله” سليمان فرنجية، الأربعاء، عن انسحابه من التنافس ودعمه لعون.
عون (60 سنة)، الذي أدى اليمين لمنصب الرئيس بعد التصويت على الفور وسار فوق السجاد الأحمر إلى قصر الرئاسة في بعبدا، تولى هذا المنصب في أصعب الأوقات في تاريخ لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية في 1989. عون ابن عائلة عادية، ولد في قرية العيشية جنوبي لبنان، وهو هاو للصيد والأفلام الوثائقية، وإضافة إلى اللغة العربية، يتحدث الفرنسية والإنجليزية. وهو زوج نعمات، التي كانت مديرة العلاقات الخارجية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وهو أب لخليل ونور. يأتي إلى قصر الرئاسة مع سجل عسكري له تقدير، ومع شبكة علاقات ممتازة مع نظرائه الفرنسيين والأمريكيين، لكن بدون قاعدة سياسية ممأسسة أو عائلة ثرية أو جذور سياسية واجتماعية.
الذخر الأهم الذي سيجلبه عون للبنان هو الغطاء الدولي الذي سيرافقه ويؤيده بعد بذل جهود كبيرة للدفع قدماً بانتخابه. مع ذلك، لم يكن عضواً في البرلمان أو رئيس حكومة. صلاحياته حسب الدستور كبيرة، هو يمكنه حل البرلمان والمبادرة إلى طرح قوانين والمصادقة عليها أو وضع فيتو عليها، والمصادقة على تشكيلة الحكومة والميزانية، لكنه بحاجة إلى مواجهة القوى السياسية نفسها التي أوصلت لبنان إلى شفا الهاوية.
منذ العام 2022 تتولى لبنان حكومة مؤقتة برئاسة الملياردير نجيب ميقاتي. صلاحيات هذه الحكومة وقدرتها على إدارة أي سياسة محدودة حسب الدستور، وهي أسيرة للقوى السياسية، وعلى رأسها حزب الله الذي إلى جانب حركة أمل وشركاء آخرين مستقلين خلقوا كتلة مانعة وعملوا على شل الحكومة والدولة. خطوة عون الأولى ستكون بناء على ذلك تعيين رئيس للحكومة متفق عليه.
التجربة تعلمنا بأن العملية قد تستغرق بضعة أسابيع وحتى أشهراً (سعد الحريري استغرقه الأمر تسعة أشهر من النقاشات لتشكيل حكومته في 2021، قبل رفع يده وتقديم استقالته)، باستثناء إذا ساعد الضغط والوضع عون في استكمال التعيين في القريب. رئيس الحكومة سيقف هو نفسه أمام تحدي تشكيل حكومة متفق عليها، ومثلما تعلم رؤساء الحكومات السابقين فإن تشكيلة الحكومة تتعلق بقدرتها على تنفيذ سياستها.
حسب الدستور، فإن القرارات المهمة التي تريد الحكومة تطبيقها (المصادقة على الميزانية، وإعلان الحرب أو عقد اتفاق سلام)، تحتاج إلى تأييد ثلثي الأعضاء فيها. أي أنه يكفي ثلث أعضاء الحكومة وعضو واحد آخر من أجل إلغاء أي قرار. “الثلث المانع” كان المفهوم الذي رافق الحكومات الأخيرة، التي تمسك فيها حزب الله بهذا الكابح المدمر رغم قلة أعضائه. هذه المتاهة يضاف إليها قواعد “العرف السياسي” في لبنان (الذي ترسخ بعد اتفاق الطائف)، الذي بحسبه الوزارات الحكومية والشركات الحكومية ومحافظ البنك المركزي وجهاز المخابرات يتم توزيعها حسب نسبة الطوائف. إضافة إلى ذلك، هناك تقسيم داخلي مثير للمواجهات، بين الوزارات الحكومية الهامة، مثل وزارة الدفاع ووزارة الداخلية ووزارة المالية، وبين وزارات الخدمات مثل التعليم والصحة والرفاه، التي فيها أيضاً تقسيم طائفي، لكنها ليست مكتوبة في الدستور.
عون يمكنه المحاولة والتأسيس لـ “حكومة تكنوقراط” في محاولة للانفصال عن الإملاء الطائفي، لكن هنا يتوقع مواجهة صراع سياسي شديد مع رؤساء الطوائف والحركات التي يدين إليها بانتخابه. في هذه المصفوفة المعرجة، سيضطر عون إلى التقرير ليس فقط كم سيكون عدد وزراء حزب الله (لحزب الله في الحكومة الحالية وزيران من بين الـ 24 وزيراً) ولحركة أمل 3 وزراء، بل كيف سيمنع الوضع الذي سيمكن من تشكيل معارضة داخل الحكومة. تشكيلة الحكومة ستحسم هل وكيف يمكن للبنان إعادة إعمار لبنان من خرائب قديمة جراء الحرب، والجديدة في أعقابها. المفتاح في قدرة عون على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والقانونية التي أملتها الدول المانحة ومؤسسات التمويل الدولية كشرط حيوي، والتي بدونها لا يمكن للبنان توقع أي مساعدات مالية حقيقية باستثناء المساعدات الإنسانية.
مهمة أخرى ملحة، وهي تعيين قائد جديد للجيش اللبناني، يمكنه مواجهة تطبيق القرار 1701 ووقف إطلاق النار مع إسرائيل. يواصل الجيش اللبناني الانتشار على طول الحدود مع إسرائيل، لكنه حتى الآن بعيد عن مواجهة سلاح حزب الله وتجربته العسكرية، والمطالبة بنزع سلاحه، ليس فقط في جنوب لبنان، بل في كل الدولة. الجيش اللبناني جيش صغير وضعيف وفقير بدون تجربة. آلاف الجنود والضباط فيه تركوا صفوفه في السنوات الأخيرة للبحث عن مصدر رزق أفضل. قبل سنتين، اضطر عون لجمع الصدقات من فرنسا وقطر والولايات المتحدة لدفع رواتب الجنود، 100 دولار في الشهر للجندي. هذا في الوقت الذي يحصل فيه مقاتلو حزب الله على راتب يبلغ 300 – 500 دولار في الشهر.
المقاومة اختفت
في خطاب أداء اليمين، لم يذكر عون مفهوم “المقاومة” (ضد إسرائيل). بعض المحللين اعتبروا ذلك إشارة إلى نيته توحيد وتجميع كل السلاح في الدولة في يد الحكومة والجيش. ولكن الامتحان العملي ينتظر وراء الزاوية، وربما يكون عنيفاً ويتدهور إلى الشارع. حزب الله، الذي أعلن رئيسه في السابق بأن الحزب رمم قدرته واستعد لكل تحد، لا يتوقع منه جمع سلاحه ووضعه إلى جانب إكليل من الورد على عتبة قصر الرئاسة، لا سيما أن إسرائيل ما زالت تحتفظ بمناطق داخل لبنان وتعلن عن نية البقاء في بعضها بشكل دائم.
“ساحة العبوات” الكثيرة هذه تنتظر عون ولبنان. وهي لن تتفكك من تلقاء نفسها. بدون مرافقة دائمة مقرونة بمساعدات سخية لمنظومة الدعم الدولية، فإن المفرقعات التي أطلقت أمس في سماء بيروت قد تكون نقطة الضوء الوحيدة في انتخاب عون رئيساً.