ثقافة وفنون

عربة السياسة التي أضاعت طريقها

عربة السياسة التي أضاعت طريقها

سعيد خطيبي

مطلع القرن الماضي، قاد مثقفون عربة السياسة في الجزائر، وهي لا تزال تحت الاحتلال. فقد بزغت الحركة الوطنية على يد مثقف، نقصد به الأمير خالد (حفيد الأمير عبد القادر)، وهو رجل ثقافة قبل أن يصير محارباً في الحرب العالمية الأولى، ثم رجل سياسة، وكذلك كان الحال مع حزب «نجم شمال افريقيا»، عندما أحاط مصالي الحاج نفسه بمثقفين، قبل أن تلتحق بهم شرائح المجتمع الأخرى، من عمال في مصانع وفلاحين، ثم تكرست مكانة المثقفين في «حزب الشعب»، الذي كان يدير شؤونه بالاتكال على مثقفين، يوجهون دفة السياسة ويدونون البيانات والمناشير والمطبوعات، التي تصدر عن الحزب عينه.
بينما حركة «أحباب البيان»، فقد تزعمها مثقف يدعى فرحات عباس، وانضم إليها خريجو جامعات، جعلوا من السياسة مسألة ثقافية. وعندما ظهرت «جبهة التحرير الوطني»، فهمت أن النضال لن يبلغ مبتغاه إلا إذا ارتبط بالمثقفين، لذلك دفعت إلى مقدمتها أسماء مرموقة، على غرار فرانز فانون، أو مفدي زكرياء، وعقب الاستقلال راهنت «الجبهة» على مثقفين آخرين في الدفاع عن شرعيتها، وعندما وطدت موقعها، تخلت عنهم، ثم حادت عن طريقها، فتحولت إلى آلة بيروقراطية. في حين أن الحزب الشيوعي في الجزائر فكان مسألة مثقفين حصراً، وتداولت عليه أسماء معروفة، على غرار هنري علاق، بشير حاج علي، أو محمد حربي، واشتهر بإصدار جريدة كانت ذائعة الصيت، اسمها «ألجي ريبيبليكان»، أشرف عليها مثقفون بدورهم، وضمت إليها كاتب ياسين. بينما حزب «التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية»، فكان أول حركة سياسية، في البلاد، جعلت من الثقافة اسماً لها، وكرست دفاعها عن حقوق الأمازيع، بينما مؤسسها قادم من الأدب، اسمه سعيد سعدي، مؤلف أول رواية بالأمازيغية في الجزائر. وفي عام 1997، عندما ظهر حزب «التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يرجى منه أن يكون بديلاً عن «جبهة التحرير»، فقد استقطب إليه مثقفين، من أجل أن يصنع واجهة منيرة له، وفشل في قيادة حركة سياسية بديلة، بل صار أسوأ من جبهة التحرير، لكن ذلك لا ينفي عنه أنه لم يهمل المثقف من خريطة الاهتمامات.
هذا هو الغالب في منطق الأحزاب السياسية، في الجزائر، أنها تستميل المثقف، لأنها من دونه تصير عرجاء، بغض النظر إن نجح المثقف في مهامه السياسية أم فشل، فتلك مسألة يفصل فيها التاريخ. لكن الغريب في المشهد المحلي هي الأحزاب ذات النزعة الدينية، التي أعلنت منذ ميلادها معاداة المثقف، فحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الذي تأسس في 1989، وكسب انتخابات البلديات، ثم الدور الأول من انتخابات تشريعية عام 1992، قبل حل البرلمان، فلم نعثر في قوائمه على مثقف واحد. على الرغم من أن بعض المثقفين ودوا الالتحاق به، طمعاً في مناصب، بعدما ظنوا ان ذلك الحزب في طريقه إلى الحكم، لكن الباب أوصد في وجههم. وكذلك كان الحال مع أحزاب من التوجه نفسه، التي يتزاحم فيها موظفون أو عمال أو إداريون، لكننا لن نجد من بينهم مثقفاً واحداً.
من المتعارف عليه إذن أن الحركة السياسية في الجزائر ولدت وكبرت وهي تتكئ على عصا المثقفين، ثم توالت الهزات، وأودت إلى قطيعة بين الطرفين. لم تحصل القطيعة دفعة واحدة، بل على مراحل. فقد انقلب الساسة على المثقفين، ومن أجل تثبيت أركان الانقلاب، لفقوا لهم تهماً، وشوهوا صورتهم وسمعتهم في المجتمع، وبات المثقف يتحمل ما لا يخطر على بال بشر، تنسب إليه التهم كلها من عمالة وخيانة، على الرغم من هشاشة الحال التي يحيا فيها، وعلى الرغم من أنه صار خاصرة رخوة في التركيبة الاجتماعية، مع ذلك فكلما أطل مثقف برأسه، وشاعت سمعته خلف الحدود، فسوف يصير محل التهم كلها، يصير في نظر الناس، في مرتبة واحدة مع من أزهق روحاً أو اختلس المال العام.
إزاء هذه الحالة، باتت السياسة تسير بساق عرجاء، أو بالأحرى صارت عربة تسير بلا مقود. أضاعت طريقها، ولا تعلم أي جهة تولي لها وجهها، تواجهها أزمات في الداخل وأخرى في الخارج، لأنها تفتقر إلى مقود، تفتقر إلى عقول تفكر في حكمة وتدبر، فقد بات الساسة وحدهم يملؤون المشهد، تتزاحم صورهم وتتوالى على شاشات التلفزيون أو في صفحات الجرائد والمجلات، بل من الساسة من دخل الكتب المدرسية، بينما المثقفون جرى محوهم من الواجهة. وبعدما كان الأطفال يتمنون أن يصيروا كتاباً عندما يكبرون، يكتبون مثل محمد ديب أو مفدي زكرياء، تغيرت أحلامهم وصاروا يتمنون أن يلبسوا بذلات وربطات عنق مثل وزراء أو عمداء بلدية. فقد ترسخ في بالهم أن الإنسان الناجح لا بد أن يتبوأ منصباً، وليس شخصاً يفكر في التاريخ وفي مآل البشر كما يفعل المثقفون. ولا أحد من الأطفال يريد أن يصير مثقفاً، كي يتلافى التهم التي توزع على المثقفين، بما لا يتطابق مع واقع ولا عقل.
إن إحالة المثقف إلى دكة الظل، تعيد إلى الأذهان تصرفات الأحزاب الدينية، التي جعلت من المثقف خصماً لها، تنعته تارة بالزندقة وتارة بالردة، تظن في الفلسفة والتفلسف أو الانفتاح على لغات أجنبية انقلاباً على الدين، وهذه الحالة جعلت من السياسة تسير مثل ضرير في أرض بور، لأن الساسة يراود بالهم أن المثقف يزاحمهم مرتبة أو شرفاً، ونسوا تاريخه الطويل في تشييد الحركة الوطنية في البلاد، وأنه يمارس دوراً لا يشوبه غموض، في النصح أو إبداء الرأي بما يخدم مصلحة بلده وساكنته. لكن الأنانية تغلبت على العقل، وبات المثقف يحيا حياة لا يحسد عليها، إذا لم يتعرض إلى سهام المتدينين فسوف يسقط بين فكي كماشة السلطة، وإذا نجا من الطرفين، فلن يسلم من المجتمع، الذي تشبع بالخطابات التي تستهجن المثقفين، وتجعل منهم شياطين، لأنهم ببساطة لم ينحازوا إلى الأفكار السائدة، ومارسوا حقهم في الاختلاف.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب