قصيدة النثر العربية: هل يمكن تدوين تاريخها السرّي؟
عبداللطيف الوراري
أسلوب القطيعة
عندما أتت قصيدة النثر في نماذجها الأولى المُؤسِّسة، كانت مشاريع البعث الحضاري التي تتخذ أشكالا من الصوغ الرمزي والأسطوري تملأ الأفواه وتتساوق مع الانقلابات العسكرية، التي تذرعت بشعارات التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية والرفاه، والحرب على الرجعية والإمبريالية، ولعلّ الحركة التموزية هي أبرز من جسّدها، بالنظر إلى نوعية خطابها الشعري. أعادت هذه الحركة (1950- 1964) الماضي البعيد والأسطوري إلى الحاضر «الكاووسي» بطرق ووسائل لا تخلو من جهد إبداعي، لكنها سرعان ما انهارت وتأكد انهيارها بعد حدوث النكسة المدوّي، وانهار معها جبل عائم من الرموز والأحلام والأيقونات التي حملتها القصيدة واطمأنّ إليها جمهورها.
كانت مشاهد «الأرض اليباب» بإيحائها الإليوتي تكشف عن واقع ممزق ومشرذم وسط تحديات جيوسياسية صعبة سرّعت في ظهور وعي حداثي مضاد، بارودي وساخر. قد يكون مؤتمر روما (16- 20 أكتوبر/تشرين الأول 1961) بدوره ساهم في نشوء هذا الوعي، إذ اقترح استراتيجيات شعرية ستعمل على تنويع مرجعيّات النص والكتابة. اغتنمت قصيدة النثر تلك المشاهد، ولم تخطئ بوصلة هذا الوعي؛ إذ أخذت تنزاح عن يوتوبيا الأنا الشعري التي اطمأنّت إلى خلق أوطان بديلة بالرمز والأسطورة، بقدر ما انزاح شعراؤها إلى مناطق جديدة من الكتابة الصوفية والسريالية والفنتازية إلى حدّ التجريب، وهي تعبّر عن رؤى ومضامين وجماليات وجدت مُتنفّسها في أشكال من الهجاء السياسي والسخرية والتهكم، كأنما هو تعويض عن «اللاشعور السياسي» الذي يعلن خروجه على طرق التعبير والبلاغة المستقرة، أو التي أصبحت سلطة في شكل قوالب وأنماط محددة. لم تكن لهم مرجعية شعرية تُنسب إلى بعض مدارس شعر التفعيلة آنذاك، أو إلى تيار مجلة «شعر» البيروتية، بقدر ما كانوا أصواتا مختلفة حتى ضمن الجماعة الواحدة، وكان لكل شاعر داخلها أسلوبه الخاص، والأخطر في الأمر أن هذا الأسلوب لم يكن ضربا عاديا من تأليف اللغة الشعرية وتنميقها بهذا الشكل أو ذاك، بل كان في جوهره تعبيرا سياسيّا يضع نفسه في مواجهة حقيقية مع ما كان سائدا على الصعيد السوسيوثقافي، ولاسيما أن نصوصهم كانت تسندها خلفيات معرفية جديدة ومناوئة تشمل الماركسية والوجودية والتحليل النفسي والسريالية والنقد الجديد.
لقد أسهم التركيز على الدال في التّيه والعصيان، وإشاعة «الغموض» في كثير من نماذج قصيدة النثر الأولى والواعية (محمد الماغوط، أنسي الحاج، شوقي أبو شقرا، فاضل العزاوي، صلاح فائق، إلخ)، في أن يخلق تشويشا مزمنا لأفق انتظار الذائقة وأطرها المترسّمة؛ وذلك نتيجة عطالة الدلالة، أو هدم العلاقة بين دالّ وفهم، بحيث لم تعد الأدلّة تُحيل على مرجع، أكثر مما صارت تنتقل في سلسلةٍ من الدوالّ لا تنتهي. لم يكن الأمر متعلّقا بدائرة التلقي وحسب، بل بالتغير الكُـلّي الذي صاحب الرؤية الشعرية وأفق اشتغالها كخطاب. وكان الشعراء الذين انتصروا لخطاب قصيدة النثر واتخذوها ذريعة فنية للتعبير والمقاومة، خليطا من ذوي النزعات اليسارية على اختلاف مشاربها وتلويناتها الأيديولوجية والعقدية، وفي طليعتهم شعراء الستينيات الذين قادوا «الحرب الاستنزافية التجريبية» بتعبير بنعيسى بوحمالة، وظهروا في بلاد كانت تعيش أوضاعا مضطربة، وهو ما اضطرّ معظمهم للخروج منها فصاروا من المنفيّين، أو مثل الهائمين الذين يقتفون آثار عوليس والسندباد في دهاليز الحضارة والتاريخ والمخيال الاجتماعي النافر.
«مانيفست» الانشقاق
لم يكن همّ هؤلاء الشعراء فقط أن ينتزعوا اعتراف المؤسسة وأهليّتهم في مضمار الشعر وفضل روحهم التجديدية، ضمن ما اقترحوه من جماليات جديدة ومغايرة تفرزها الصور والرموز التي بدت في منظور التلقي السائد غير مألوفة وغريبة جدّا، أكثر من أنّهم أرادوا أن ينقلوا هذه الروح الثورية ليس فقط إلى مجال الشعر، بل كذلك إلى مجالات تعبيرية جمالية بدأت تظهر وتجد لنفسها حاضنة ملائمة داخل جمهور يتسع لأصوات المثقفين والطلبة ممن ضاقوا ذرعا بأحوال الوضع السائد الذين تَرتّب على واقع الهزيمة السياسية والعسكرية المدوّية، بل صاروا يلتئمون داخل جماعات فنية وثقافية، على صعيد الأغنية الملتزمة والمسرح السياسي والفنون التشكيلية وغير ذلك؛ مثل: جماعة كركوك، إضاءة، أنفاس، غاليري 68، ناس الغيوان، إلخ).
كان للقضية الفلسطينية تأثير كبير في معظم هذه الجماعات الشعرية، وتحت هذا التأثير ظهرت مجموعة الأصوات الشعرية الجديدة التي كان لها بدورها إسهام حيوي في تغيير الشعر العربي المعاصر وتثوير بنياته، وإن كانت «سلطة الريادة والسبق» مارست حجابا على هذه الأصوات، وكان النقد الشعري ما زال منهمكا في الحديث عن شعر الرواد وتجاربهم ومساجلاتهم.
قد يكون «البيان الشعري» الذي وقّعه العراقيون سامي مهدي وفاضل العزاوي وفوزي كريم والفلسطيني خالد علي مصطفى، وعُرف بـ «بيان الشعر 69» (نسبة إلى المجلة الشهرية التي نشرته في أول أعدادها بتاريخ أيار/ مايو 1969)، لسان حال هذه الأصوات التي أخذت تظهر ضمن جماعات شعرية تجريبية ومتمرّدة وتحريرية، وتميّزتْ بتطور الوعي الفكري والجمالي ضمن حركة الحداثة. يصدر البيان عن لهجة وجودية جدلية، وحساسية جمالية جديدة على مبدأ النقصان والفراغ في وعي القصيدة بالذات والأشياء والعالم، وناتجة عن حاصل التجربة والرؤية والمعاناة ضمن سيرورة متحركة لا تنتهي. ولا تخلو هذه الرؤية من بعد سياسي وثوري، إذ عبرها يمكن أن نلتقط إشارات العصيان بمعناه الانشقاقي الجمالي، ولاسيما حين يربط صوت الشاعر الذي يمثّل كل الأجيال بالاحتجاج «ضِدّ كل ما هو بربري ومُعادٍ وخالقٍ للعذاب». كما يلتزم فيها الشاعر ببحث الحقيقة في ذاته، وليس في الوهم والشعارات الأيديولوجية، بقدر ما يركّز على سياسات الفعل الشعري وينحاز إلى دور الحلم، وتأكيد المغامرة في الإبداع، وإلى قيمة مراجع الأسطورة والتصوّف والفلسفة في توسيع الرؤية الشعرية.
أصداء التأثير
انتقلت أصداء هذا السجال الفكري، تدريجيّا، إلى أطراف المحيط: فلسطين الأردن، واليمن، ومنطقة الخليج العربي ودول المغرب الكبير، وقد عمل ذلك على توسيع دائرة الفعل الثقافي للشعر وتنويع محتواه المعرفي والفنّي، مُتأثّرا ببيئات الشعراء المحلّية وشرائط وجودهم العيانيّ والشامل. بالنسبة إلى المغرب، فقد ظلّ الخطاب الشعري مُوزّعا بدوره بين تصور تقليدي بدأ ينفرج مع جيل الستينيات ويراكم مكاسبه التحديثية، متأثرا بشعراء الحداثة في المشرق ونظرائهم من ذوي النزعة الأممية الاشتراكية، وآخر فردانيّ متأثّر بالثقافة الغربية، الإسبانية والفرنسية تحديدا، وفي طليعة شعرائه محمد الصباغ (1930-2013)، الذي جسّد نموذج الشاعر الإنساني المتفتح، وعكس في كتابة قصيدة النثر روحا أكثر التزاما بالتجديد، متأثّرا بالتجربة الشعرية الإسبانية، خصوصا جيل 27 (ألكسندري، لوركا، نيرودا)، إلا أن قصيدته ذات الإيحاء الرومانسي الرمزي ظلت خارج الذوق السائد والاعتراف «الأكاديمي»، ولم يكن لها كبير تأثير في أجيال الشعر المغربي اللاحقة. إلا أنّ الشعراء الذين كانوا أكثر تعبيرا عن الحقبة السياسية الحرون التي شهدت طور العلاقة المتوترة بين الثقافة والسلطة؛ هم أولئك الذين تحلّقوا حول مجلة «أنفاس» Souffles (1966- 1972) من جيل ما بعد الاستقلال، الذي نهض لإحداث التغيير في مجال التعبير عبر القطع مع قواعد الأدب السائد، ومن ثمة تحرير المخيلة وبناء الهوية الثقافية على التعددية والاختلاف، بل النضال من أجل مشروع مجتمعي بديل، تقدمي ومعارض لمشروع السلطة نفسها. وقد عبرت المجلة بخلفيّتها الطليعية وتوجهها الماركسي والوجودي السارتري، منذ عددها الأول، على لسان أحد شعرائها الأساسيين؛ هو عبد اللطيف اللعبي، عن الحاجة «إلى أدب يحمل ثقل قضايانا الحالية». كانت المجلة تفتح صفحاتها لشعراء تعكس نصوصهم قيم الأدب الجديد خارج الإطار الواقعي، ولاسيما ممن كانوا يكتبون بالفرنسية، وتأثروا عن كثب بالأدب الفرنسي، وبالحركة السريالية ومعانيها المبتكرة على نحو خاص؛ مثل: محمد خير الدين، ومصطفى المسناوي وعبد الكبير الخطيبي وغيرهم. ورُبّما لهذا السبب؛ أي مغامرة اختيارهم اللغوي وانتهاكهم المدوي لطرق التعبير والتلقي، وحجاب الرقابة قبل هذا وذاك، لم يكن لهم، كما حصل لمحمد الصباغ في سياق آخر، أثر حقيقي في مجرى الشعر المغربي الحديث، بخلاف نظرائهم الذين كتبوا بالعربية، سواء من أصحاب الاتجاه الحر مثل أحمد المجاطي ومحمد الميموني وعبد الله راجع وغيرهم، أو من شعراء قصيدة النثر في بزوغها الثاني الأكثر وعيا وتأثيرا، ابتداء من عقد الثمانينيات؛ مثل: رشيد المومني وعبد الله زريقة وأحمد بركات وإدريس عيسى وغيرهم. وسّعت مقترحاتهم الجمالية هامشَ الاختلاف والتعدد على صعيد الممارسة الشعرية، التي صاحبها تنظير موازٍ ونقاش ثقافي وأيديولوجي معلن في، إذ كان أغلب شعراء ذوي تكوين أكاديمي، ينحدرون من تخصصات ومهن مختلفة، ولهم اطلاع على الشعر العالمي من منابت إنسانية كونية وفي لغاته الأصلية (الفرنسية، الإسبانية والإنكليزية)، لكنّه لم يقطع صلته بالشعر الحداثي في المشرق، ولاسيما في نصوصه المتأخرة المشبعة بمناخ قصيدة النثر وأسلوبها المتأخر (أنسي الحاج، سركون بولص، عبد القادر الجنابي، وديع سعادة، إلخ). وقد ترعرع في ظلّ خيبات الاستقلال السياسي، وأخذ ينظر إلى العالم والأسلاف بغضب، ولم يكن يدعي الريادة ووهم السبق، وصار لا يهمّه «ما يقول» بل «كيف يقوله»، مُتحرّرا من قيود ومناطق الأيديولوجيا التي هيمنت في السابق، ومن هتافات الثورة والتبشير بالذي يأتي ولا يأتي، ضمن سياسات الفعل الكتابي.
وإذا مَثّلنا بالشاعر عبد الله زريقة، فقد صاحب لا يهادن سلطة المؤسسة وخطابها، حيث نسج على شفير خلفيته الفلسفية والماركسية، أسلوبا جديدا ينحو إلى الغامض والغريب واللامنتهي الذي يجعل من وضع اللغة وتشذُّراتها مِحكّا لقدرتها على فكّ ارتباط الذات بمحيطها المادّي والمستهلك من أشياء وقيم ومواضعات، والزجّ بها في رحم تخييلي مُتعدّد يصطخب بدلالاته الميتافيزيقية والوجودية المفارقة، ويستمد عناصر اشتغاله من تراخي الرؤية اللاقطة، وروح الدعابة السوداء، والمزج بين الصوفي والسريالي ضمن سيرورة مُركّبة ذات شرائط تحررية وتأويلية عسيرة.
ابتداء من هذه الحقبة المفصلية بالنسبة إلى الشعر العربي المعاصر، وتحت تأثير المختبر الحيوي لقصيدة النثر، لن يعود الشعراء يكتبون على سويّة واحدة، وحتى الأمكنة والينابيع والمصائر الشخصية التي أتوا منها لم تعد هي عينها، وهو ما أثمر مَتْـنا فنّيا خصيبا وذا اقتراحات جمالية متباعدة الأطراف على نحو قوض سلطة المركز الشعري، وعرّض مفهوم «الجيل» نفسه للمساءلة والتشكيك على مستوى التماسك المنهجي، وبالتالي الاحتراز من وهم التطابق الذي كان يحشر الشعراء بِقضّهم وقضيضهم في «كتلة» لمجرّد انطباعات عامة وغير دقيقة. والأهم أنهم أخذوا يتحررون من إسار التردّد «اللاتاريخي» ويندفعون إلى زخم الحياة الثقافية وتصادياتها، مستلهمين من أحوال الذات والعالم حساسيّاتٍ متعدّدة، لغوية وجمالية وتخييلية ناشئة على الدوام.
كاتب مغربي