عالم ابن عساكر: كتابة تاريخ دمشق والإحياء السني
محمد تركي الربيعو
يعتبر ابن عساكر واحداً من أهم وأشهر المثقفين الذين عرفتهم مدينة دمشق في الألف سنة الماضية. إذ تحول كتابه عن تاريخ دمشق، الذي تجاوز الخمسين جزءا في بعض الطبعات، إلى مصدر وملهم للعديد من كتّاب المدينة ممن كتبوا بالأخص عن تاريخها، وتراجم الأعيان والعلماء الذين عاشوا فيها على مدى القرون الطويلة. كما أن هناك من وجد في ابن عساكر مرجعا مهما للحديث عن المثقف المحلي، الذي لم ينخرط فحسب في كتابة التاريخ، بل شارك أيضا في السياسة اليومية، والنقاش مع السلطة حول مستقبل البلاد، كما يحسب له، حسب البعض، أنه لعب دوراً أساسيا على صعيد إعادة رسم صورة الحياة الدينية والفكرية في المدينة. وعلى الرغم من هذه الشهرة، فإن ما أنجز من كتب ودراسات عن حياة ابن عساكر ما يزال محدودا، كما أن موسوعته الكبيرة عن دمشق، لم تشجع بعض الكتاب للخوض فيها، ما جعل الكلام محدوداً، حول كتابه عن دمشق، ومضمونه، وأسلوب ابن عساكر في كتابة التاريخ، والأجواء التي كتب بها هذا المجلد.
ويعتبر كتاب سليمان مراد «ابن عساكر في دمشق: بطل الإسلام السني في زمن الحروب الصليبية»، الذي يعمل استاذاً لدراسة تاريخ الدين في الشرق الأوسط في جامعة سميث الأمريكية، واحداً من أهم ما صدر عن هذا المثقف الدمشقي في السنوات الأخيرة. يعتبر الكتاب نتاج ثلاثين سنة تقريبا قضاها المؤلف سليمان مراد، في قراءة تاريخ وأعمال ابن عساكر، وقد صدر ضمن سلسلة صناع العالم الإسلامي، التي يشرف على تحريرها خالد الرويهب. ينقسم الكتاب على ثلاثة محاور أو موضوعات رئيسية. الأول العالم الذي عاش فيه ابن عساكر، والذي عرف تراجعا للنفوذ الشيعي، مقابل صعود قوي لدور السلاجقة، او ما عرف في الأدبيات بفترة الإحياء السني. وفي المحور الثاني، يناقش كتابات ابن عساكر، وبالأخص كتابه الشهير «تاريخ دمشق»، كما يناقش فكرة ان ابن عساكر لم يكن مؤرخاً بالمعنى المعاصر للكلمة. أما الثالث فيتعلق بكيفية استدعاء تراث ابن عساكر في الكتابة عن مدينة دمشق، لصناعة هوية وذاكرة وطنية سورية. وهنا يتوقف المؤلف (في الفصل السابع تحديدا) عند تجربتين، الأولى للعالم الدمشقي الحنبلي عبد القادر بن بدران في عام 1911، الذي عمل على نشر كتاب ابن عساكر حول دمشق، والثاني هو محمد كرد علي (ت 1953)، والذي سعى أيضا انطلاقا من التراث لخلق ذاكرة سورية جديدة.
وقد يكون من الصعب الإحاطة بالمحاور الثلاثة، ولذلك سنحاول في المقال التركيز على المحورين الأولين، اللذين يقرباننا أكثر من معرفة أجواء وعالم ابن عساكر. خلال القرنين العاشر والحادي عشر، حكمت سوريا عدة سلالات شيعية، فقد سيطر الفاطميون 909ـ 1171 في مصر، وعلى وسط وجنوب سوريا، خاصة فلسطين، بينما حكم الحمدانيون (944 ـ 1004) حلب والموصل والجزيرة، وجاءت لاحقا الدولة المرداسية 1025 ـ 1080. وكانت الهيمنة السياسية للشيعة في دمشق، وبشكل عام في سوريا، لا تعني فقط أن على أهالي دمشق السنة تحمل هذا النفوذ، بل القبول بما يعتبرونه بدعا شيعية. كما أن السنة في هذه الفترة كانوا يفتقرون إلى الموارد الاقتصادية لرعاية مؤسساتهم الخاصة. لكن هذا النفوذ الشيعي، بدأ بالتراجع مع اجتياح السلاجقة السنة للمنطقة. وقد جاء هذا الظهور ليعلن عن السقوط السياسي للمشروع الشيعي، وبداية لتغيير ديموغرافي، حيث بدأت القبائل السنية والتركية والكردية في الاستقرار بأعداد كبيرة هناك.
تنافس أمراء سلاجقة على حكم دمشق، وأعادوا الثقة قليلاً للمؤسسة السنية الدينية، من خلال تأسيس بعض المدارس الدينية، مثل المدرسة الصدرية التي أسسها الجندي السلجوقي صدر الدين بن منجا في الفقه الحنفي، أو مدرسة كمشتكين الشافعية، التي أسسها أمين الدولة كمشتكين (ت 1146)، وكان شيخها الأول هو أبو الحسن السلمي (ت 1139)، أحد أساتذة ابن عساكر لاحقاً. وقد لعبت هذه المدارس دورا مهما على صعيد تخريج نخب جديدة (فقهاء ومحتسبين)، ممن شغلوا أدوارا مهمة في المدينة، كما مكنت العلماء من إعادة تشكيل نفوذهم داخل المدينة، مقابل إذعانهم للسلطة.
لاحقاً، تراجع النفوذ السلجوقي، عندما وصل الصليبيون وسيطروا على القدس عام 1099، وكانت إحدى عواقب هذا الأمر، وفق ما يراه مؤلف الكتاب، انتقال عدد كبير من علماء السنة، لاسيما المدن الساحلية وفلسطين إلى دمشق، وهناك عينوا أئمة للمساجد، وهو ما حول مساجد المدينة لمراكز تعليمية، مما أثر النقاش الفكري داخلها، خاصة على صعيد الاهتمام بالحديث. وقد اضطر السلاجقة لإبرام هدن مع الصليبيين، ما أثار غضب العلماء السنة الدمشقيين الذين كانوا يعتقدون أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع الفرنجة الغزاة هو الجهاد. وربما هذا الاحتقان، بالإضافة لعوامل أخرى، كان كفيلا بفتح الباب أمام عماد الدين الزنكي للتقدم، خاصة بعد هزيمته للبيزنطيين في الرها 1144، وهو ما حوله إلى واحد من أعظم أبطال الإسلام، لأنه اعتبر بمثابة أول إنجاز قلب المد لصالح المسلمين في شمال سوريا.
جاء لاحقا نور الدين وتولى زمام حلب ودمشق، وأخذ يعمل على بناء المزيد من المؤسسات الدينية والمستشفيات، أو ما يسميه المؤلف بـ»حملة التسنن» أو الإحياء السني، مما غير المشهد الاجتماعي في سوريا، كما ازداد نفوذ العلماء في المدينة، ما اكسب نور الدين إرثا فريدا في التاريخ السني. إذ كان الأخير يبدي حماسا للعلماء من خلال حضور دروسهم، كما فعل مع ابن عساكر، كما سعى للإطاحة بالحكم الفاطمي، ولذلك كان يحتاج إلى دعم العامة والاحتشاد خلفه، ولتحقيق هذا الهدف كان من الضروري كسب العلماء.
وفي ظل هذه الأجواء ولد ابن عساكر، ونشأ في بيئة مشبعة بالتوقعات العالية والمخاوف والطموحات، فقد كان أساتذته يتوقون إلى استعادة دمشق كعاصمة، كما في الأيام الماضية، وقد نقلوا هذا المزاج إلى ابن عساكر وجيله عموما.
ولكن من هو ابن عساكر؟
ولد أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر في دمشق 1105، وهو ينحدر من عائلة لا نعرف عنها شيئا تقريبا قبل والده، كما لا يعرف لماذا أطلق عليهم لقب عساكر. كان والده مثل العديد من النخب السنية المتعلمة في ذلك الوقت مهتما بالحديث، كما عرف أخوه هبة الله بعمله وتدريسه في زاوية الغزالي الواقعة في الجامع الاموي، وقد لعب هذا الأخ كما يبدو دورا في تنشئة أخيه الأصغر، إذ أتاح له الفرصة للتعلم على يد علماء من المدينة، ثم رسم لاحقا خط سير رحلاته لخارج دمشق. ففي عام 1126، سافر ابن عساكر إلى بغداد ومكث هناك خمس سنوات، وحصل على شهادات من عدد من علماء بغداد وأصفهان. عاد بعدها لدمشق مجهزا بسيرة وذخيرة معرفية، وبالأخص على صعيد الحديث، مما منحه مستوى من المكانة أعلى بكثير من معظم أقرانه المحليين. عاد وسافر مرة أخرى عام 1134، في رحلة استغرقت أربع سنوات، وشملت تبريز ونيسابور، واستطاع أن يحضر نسخا من كتب لم تكن موجودة أو معروفة في دمشق آنذاك، مثل مسند ابن حنبل، أو مسند أبي يعلى الموصلي. بعد هذه العودة، أخذ ابن عساكر تقريبا منذ عام 1139 يلقي دروسه في الجامع الأموي، ثم انتقل بعد تطور علاقته مع نور الدين الزنكي، إلى دار الحديث النورية. يعتقد المؤلف، أن ابن عساكر في هذه الفترة، بدا مدركا الدور الحاسم الذي كان مقدرا له أن يلعبه في إحياء السنة في دمشق، كما اعتقد أن هناك بعض القضايا المهمة التي اعتبرها أساسية لشرعية الحاكم المسلم، وفي مقدمتها انتزاع مصر من الفاطميين، وتحقيق الوحدة السياسية مع سوريا. كما انشغل بالصراع بين الأشاعرة والحنابلة، وكان معظم الشافعيين في المدينة من الأشاعرة، ويبدو أنه انحاز لهم في ظل تأثره بالدروس التي تلقاها في بغداد على يد علماء أشاعرة، ولذلك قيل إنه كان يتجنب السير في أحياء الحنابلة خوفا من تعرضه للأذى، كما أن الحنابلة غالبا ما تجنبوا وقاطعوا ندواته. أما النقطة الأهم التي ركز عليها عساكر فهي الدعوة للجهاد، والتي عبر عنها بشكل واضح في رسالة «الأربعون في الحث على الجهاد»، التي كتبها بناء على طلب السلطان نور الدين، وقد حاول، أن ينقل أحاديث سمعها من علماء التقى بهم في رحلاته، بينما غاب العلماء الدمشقيون، باستثناء مرة واحدة، كمراجع للحديث في رسالته، ويبدو أن هذا الأمر كان مقصوداً، إذ أراد أن يثبت للسلطان نور الدين، ولأهل بلدته أنه لا يدين بإتقانه للحديث، للمعلمين المحليين.
جوهرة ابن عساكر.. تاريخ دمشق
كانت بغداد من أول الأعمال التي درسها ابن عساكر في دمشق عندما كان تلميذا صغيرا، ويبدو أن غياب عمل شبيه بعمل البغدادي، من بين العوامل التي دفعته إلى البدء في تأليف واحد مثله. ويبدو أيضاً أن كتابته أيضا جرت برعاية السلطان نور الدين، وقد كمل الكتاب أو الموسوعة بتاريخ 1164، وضم حوالي 10500 سيرة ذاتية أو ترجمة. يقف المؤلف عند أسلوب ابن عساكر في الكتابة عن دمشق. ويرى في هذا السياق، أنه كان محبا ومولعا بالمدينة، ويمكن اعتبار شعوره نوعا من الوطنية الجغرافية، في العصور الوسيطة الإسلامية، التي شكلت أيضا الهوية وحددت الانتماء. وكانت الأدبيات حول المزايا الدينية لمكان معين شائعة جدا في الإسلام في تلك الفترة، وكتب العديد من الكتب حول هذا الموضوع. وكانت المدينتان الأكثر شعبية هما القدس ومكة المكرمة. في المقابل يعطينا المجلد التمهيدي لموسوعة «تاريخ دمشق» العديد من الأمثلة على نوع التقاليد والحكايا، التي عممها العلماء في سوريا حول المزايا الدينية لأرضهم وبلداتهم وأضرحتهم المقدسة، ولذلك نراه يأتي على ذكر الحديث النبوي «الخير عشرة أعشار، تسعة بالشام وواحد في سائر البلدان». ويمكن القول إن أسلوبه في الكتابة، بدا مركزا على الدور الفريد الذي لعبته دمشق في تاريخ الخلاص الديني، ونادرا ما نواجه صوته المباشر، ومع ذلك فقد ترك آلاف الأحاديث والروايات التاريخية والأساطير المختارة بعناية تتحدث نيابة عنه، ونشرها ببراعة، في سبيل جعل دمشق في المشهد المركزي من ارتباط الله بالبشرية.
في المجلدات اللاحقة لا نرى ابن عساكر ملتزماً كثيرا بالتواريخ والتسلسل الزمني، كما فعل لاحقاً بعض المؤرخين، من أمثال شمس الدين الذهبي (ت 1348) في كتابه «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام»، كما لا يمكننا مقارنته بالطبري (ت923) الذي روى التاريخ من خلال الحكايات والاقتباسات من مصادر سابقة، ولذلك يعتقد المؤلف أن ابن عساكر لم يكن مؤرخا بالمعنى التقليدي، وربما لم يسع لذلك، وإنما أولت جهوده لاحقا بداية القرن العشرين لتصنع منه مؤرخاً، فهو كان مهتما جدا بزبدة ومعنى التاريخ وليس بتفاصيله. فعلى سبيل المثال نراه في سيرة نور الدين، يسرد جميع الأماكن التي فتحها، لكنه لم يحدد تواريخ لهذه الفتوحات، وبالمثل عدد ابن عساكر المدن التي أمر فيها نور الدين ببناء المستشفيات والمساكن الصوفية، لكنه لم يحدد المباني التي منحها في كل مدينة أو تاريخ بنائها.
ولأنه كان مرتبطا بوضوح بدعوة الإحياء السني، لذلك عمل على تأويل سيرة بعض الأشخاص، كما في مثال يزيد بن معاوية، الذي أعاد فيه ابن عساكر تأهيل شخصيته الإشكالية، من خلال الحديث عن دور يزيد في الجهاد ضد البيزنطيين وقيادة قافلة الحج إلى مكة، ليظهره بمظهر الحريص على شوكة الإسلام، كما استخدم أحاديث ضعيفة مثل القول في سيرته عن الإمام الحسين (150 صفحة) أن الأخير انضم إلى حملة جهادية إلى القسطنيطينة بقيادة يزيد بن معاوية.
في كتاب سليمان مراد تفاصيل أطول حول أسلوب ابن عساكر في كتابة «تاريخ دمشق»، ولذلك ربما تعد ترجمته مهمة، وفي هذه اللحظة بالذات، كونه يوفر لنا تفاصيل دقيقة عن السياقات، التي ولد فيها ابن عساكر وعاشتها دمشق، خاصة أن هناك سيحاول استدعاء ذلك التاريخ وإسقاطه على الحاضر اليوم في دمشق الجديدة، دون أن يكون ملما كفاية بذاك الزمن، أو حتى ربما بتعقيدات زمننا هذا.
كاتب سوري