دولة الاحتلال والفاتيكان: البابا في «محور الشرّ»!
دولة الاحتلال والفاتيكان: البابا في «محور الشرّ»!
صبحي حديدي
لا عدّ لها ولا حصر تلك الجبهات التي تخوض حروبَها دولةُ الاحتلال وأنصارها، صهاينة كانوا أم مجرّد متطوعين أشدّ حميّة وتعصباً، لمَسْخ الحقائق الساطعة الدامغة حول حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ ومتنوّعة، استطراداً، أفانين الدفاع عن جرائم الحرب عن طريق السعي إلى اختزالها إلى خانات زائفة شتى، تبدأ من ّحقّ الدفاع عن النفس، ولا تنتهي عند تهمة العداء للسامية.
الفاتيكان، والبابا فرنسيس شخصياً، في مرمى نيران متقاطعة المصادر متعاظمة اللهيب ومتشعبة الاتهامات، منذ مطالبة الكرسي الرسولي بإجراء تحقيق في احتمال ارتكاب دولة الاحتلال إبادة جماعية فى القطاع؛ عدا، بالطبع، عن السلوك الرسمي لحكومة بنيامين نتنياهو التي استدعت سفير الفاتيكان لإبلاغه «خيبة الأمل» (وليس التوبيخ، كما جرت العادة) إزاء مواقف الفاتيكان عموماً وتصريحات البابا فرنسيس شخصياً، بخصوص الحرب في قطاع غزّة.
أحد الأبواق المدافعة عن دولة الاحتلال، جوزيبي ليفي بيزولي الصحافي والأكاديمي ورجل الأعمال الإيطالي ــ البريطاني اليهودي، ذهب إلى درجة التكهن بأنّ البابا فرنسيس لن يفتقر إلى عشرات المتطوعين من أصدقائه الطغاة والمتشددين، إذا اعتزم تنظيم معرض خاصّ بعنوان «محور الشرّ».
إذْ كيف، يساجل بيزولي أوّلاً، يلتقي البابا مع رئيس جامعة الأديان والطوائف الإيرانية ويقول خلال اللقاء إنّ نتنياهو «يتجاهل القوانين الدولية وحقوق الإنسان»؛ وتنشر وكالة أنباء إرنا الإيرانية هذا التصريح، فلا يصدر عن الكرسي الرسولي أي نفي أو تكذيب؟ وكيف، في احتجاج ثانٍ، يسمح البابا لوسائل إعلام الفاتيكان أن تحاور الجولاني (لأنّ اسمه ليس أحمد الشرع، عند بيزولي)، وتنشر على لسانه القول بأنّ المسيحيين «جزء لا يتجزأ» من تاريخ سوريا، أو اعتبار البابا «رجل سلام حقّ»؟
دولة الاحتلال تجاهلت، وهكذا فعل بيزولي وأضرابه، شكوى البابا من أمور تخصّ تعطيل الاحتلال الإسرائيلي لأبسط أعمال الكنيسة المسيحية ذاتها، على شاكلة منع الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك اللاتين في القدس، من دخول قطاع غزة بعد أن تلقى وعداً بذلك من السلطات الإسرائيلية. ولائمو البابا على «انفصاله عن الواقع الإرهابي»، كما رددت وزارة الخارجية الإسرائيلية، يتعامون عن تعمّد سلطات الاحتلال فرض ضرائب باهظة على أملاك الكنائس المسيحية، مما يخرق قواعد وضع قائم يتجاوز عمر دولة الاحتلال لأنه يعود إلى العصر العثماني.
وهيهات أن تغيب تماماً نبرة التوبيخ والأستذة وإعادة تلقين وقائع التاريخ طبقاً لقراءات صهيونية مبتسرة ومشوّهة وباطلة، كما في الرسالة المفتوحة التي نشرها عميحاي شيكلي شاغل حقيبة وزارية عجيبة تحمل اسم «شؤون الشتات والعداء للسامية»؛ وفيها يخاطب البابا هكذا: «معروف أن يسوع ولد في بيت لحم من أعمال يهوذا، لأمّ يهودية، وعاش يهودياً، ومات كيهودي. قبل أسبوعين شهدتم حدثاً صوّر يسوع ملفوفاً بالكوفية، وهذا يردد صدى السردية الفلسطينية. تلك واقعة غير منفردة، فقبل أسبوع أوحيتم بأنّ إسرائيل قد تكون مذنبة بالإبادة الجماعية في غزّة. نحن شعب فقدنا ستة ملايين من أهلنا في الهولوكوست، ولهذا لا نتحمل الاستخفاف بمصطلح الإبادة الجماعية».
بيزولي نفسه علّق على رسالة شيكلي، مستطيراً من شرّ عودة «العهود السوداء» التي شهدت في نظره انزلاق الفاتيكان إلى العداء للسامية، مستذكراً أمثال البابوات بيوس الرابع، غريغوري الثالث عشر، وبيوس الثاني عشر خصوصاً؛ ممّن واصلوا تراث العداء للسامية من غيتوات العصور الوسطى إلى فرية الدم، حسب قناعته. وإمعاناً في مزج الابتذال باستغفال العقول، يقتبس بيزولي حنة أرندت (دون سواها!) كي يذكّر الفاتيكان بأنّ أكبر الشرور يمكن أن تأتي من أناس يدّعون الشفقة الأخلاقية؛ ولا عجب عند هذا المستوى من التسخيف، إذا كان «الأكاديمي» اللوذعي هو ذاته التي اقترح على البابا تنظيم معرض لمحور الشرّ.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس