استراتجية ترامب: ما وراء الجدل حول المكسيك وبنما وغرينلاند
استراتجية ترامب: ما وراء الجدل حول المكسيك وبنما وغرينلاند
حسين مجدوبي
وفجأة استفاق العالم على الميول الإمبريالية والكولونيالية للرئيس السابق والمقبل للولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب بحديثه وبطرحه الاستحواذ على أراض تابعة لسيادة دول أخرى مثل، غرينلاند وقناة بنما. غير أن توجه الرئيس لا يمكن فهمه سوى في إطار الرؤية الجيوسياسية لواشنطن للمستقبل ونوعية مصالحها وتمركز قواتها. وخلال الثلاثة أسابيع الأخيرة، وقبل وصوله إلى رئاسة البيت الأبيض وأداء اليمين كالرئيس الـ47 للبلاد، تسبب ترامب في جدل دبلوماسي أكثر منه أزمات، وذلك عبر قوله بضرورة ضم كل من كندا وجزيرة غرينلاند إلى الأراضي الأمريكية، ثم استعادة السيطرة على قناة بنما، وتغيير اسم خليج المكسيك إلى الخليج الأمريكي. ويبدو أنه يتعامل مع العلاقات الدولية مثل الكتابة في شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تغيب الحقيقة وسط كثرة التعاليق.
ورغم ذلك، إلى جانب البهرجة التي يراها الكثيرون في تصريحات ترامب، فهي تحمل منطقا براغماتيا وحقائق تتعلق بالمستقبل، وهو أن كل هذه الملفات وتصريحات الرئيس مرتبطة، أو نتاج الرؤية الاستباقية الجيوسياسية للولايات المتحدة تحسبا لتعاظم النفوذ الصيني. إذ أن الرئيس ترامب لا ينطق عن الهوى، بل يكشف عن الاستراتيجية الحقيقية لواشنطن، التي بدأت في التسعينيات من القرن الماضي، وستمتد إلى العقود المقبلة.
تسبب ترامب في جدل دبلوماسي أكثر منه أزمات، عبر قوله بضرورة ضم كل من كندا وجزيرة غرينلاند إلى الأراضي الأمريكية، واستعادة السيطرة على قناة بنما، وتغيير اسم خليج المكسيك إلى الخليج الأمريكي
في بداية التسعينيات، أدركت واشنطن أن المنافس الحقيقي سيكون الصين، وبدأ رؤساء باحتشام، مواجهة الصين، سواء اقتصاديا أو التمركز العسكري حتى جاء الرئيس ترامب في حملته سنة 2016 وجعل من مواجهة الصين النقطة الجوهرية، وكان من أوائل قراراته عند توليه الرئاسة هو عقوبات اقتصادية ضد بكين. وربط ترامب السيطرة على غرينلاند وبنما بمواجهة الصين، إذ أن الاستثمارات الصينية ترتفع في غرينلاند، وهناك شركة صينية تشرف على ميناءين في قناة بنما. بينما يبقى الملف الكندي مجرد مزايدة من ترامب .وعلاقة بملف تسمية خليج المكسيك بخليج أمريكا، فقد تعامل معه البعض بأنه مجرد جدل كلامي، على شاكلة ما يعيشه العالم العربي من تسمية الخليج العربي أو الخليج الفارسي، حيث توجد خرائط دولية تسميه الخليج العربي، وأخرى تسميه الخليج الفارسي، لكن ترامب يرى في تغيير الاسم من «خليج المكسيك» إلى «خليج أمريكا» المستعمل منذ أربعة قرون عمقا هوياتيا في مواجهة ما يصفه بـ»الخطر المكسيكي». وكان رد الرئيسة المكسيكية شاينبوم باردو، ذكيا على ترامب بلغته بقولها إذن لنغير اسم الولايات المتحدة الأمريكية إلى «المكسيك الأمريكية»، بل نشرت الرئاسة المكسيكية خريطة تعود إلى سنة 1607 وكل الأراضي الأمريكية تسمى «المكسيك الأمريكية»، وهي خريطة أعدتها في تلك الحقبة الشركة الهولندية «شركة أمستردام الهندية». والواقع أن الملف المكسيكي يكتسي أهمية خاصة للولايات المتحدة، وربما مصدر الكثير من المشاكل، سواء في الوقت الراهن وأغلبها ذات طابع اجتماعي، ومستقبلا وقد تكون خطيرة سياسيا إلى مستوى حرب أهلية. ونلقي الضوء مجددا على كتابين مهمين للفكر الجيوسياسي الأمريكي وهما «صراع الحضارات» ثم «من نحن» وكلاهما للمفكر صاموئيل هنتنغتون. صدر الأول سنة 1996 وأسس لمفهوم الصين كخطر على ريادة الولايات المتحدة للعالم، والثاني صدر سنة 2004 ونبه إلى خطورة ارتفاع نسبة اللاتينيين، خاصة المكسيكيين وسط المجتمع الأمريكي، ويكتب هذا المفكر «هناك عدد كبير من المكسيكيين في الولايات المتحدة ويميلون إلى التمركز في عدد قليل من الولايات، خاصة في كاليفورنيا والأراضي التي كانت تابعة للمكسيك. وهنا يكمن الخطر الأكبر: هناك شعب داخل الشعب الأمريكي يولد». ويضيف في فقرة مثيرة للغاية «وعلى عكس بقية الهجرات التي استقرت في الولايات المتحدة على مرّ القرون، قد يكون للمكسيكيين أسباب للمطالبة بأراضيهم. ففي نهاية المطاف، كانت تكساس ونيو مكسيكو وأريزونا وكاليفورنيا جزءا من المكسيك حتى منتصف القرن التاسع عشر». وقعت المكسيك بعد خسارتها الحرب ضد الولايات المتحدة على اتفاقية «وادالوبي هيدالغو» سنة 1848 التي بموجبها تخلت عن كاليفورنيا ونيومكسيكو وتكساس وأجزاء من وايمونيغ ويوتا وكولورادو لصالح واشنطن.
جزء من الدولة العميقة في الولايات المتحدة تؤمن بأفكار هنتنغتون الذي يعد من أكثر المؤثرين في قرارات البنتاغون، لاسيما بعدما أصبحت الإسبانية هي اللغة السائدة في الجنوب الأمريكي من كاليفورنيا جنوب غرب البلاد إلى ميامي جنوب شرق البلاد، وبلغ عدد المكسيكيين في الولايات المتحدة مع نهاية 2024 ما يفوق 36 مليون سواء مهاجرين يحملون الجنسية المكسيكية، أو أمريكيين ينحدرون من المكسيك. الملف المكسيكي هادئ وجامد، ولكن توجد أطروحات أنه قد يتحرك خلال العقود المقبلة بشكل درامي، وعلى رأس هؤلاء ما يطرحه هنتنغتون. ويعتقد صناع القرار الأمريكي، وهم خبراء السياسة الدولية، أن المطالب التاريخية باستعادة الأراضي التي جرى ضمها بالقوة ستعود إلى الواجهة، والبعض منها ما زال مطروحا منذ قرون مثل حالات سبتة ومليلية وجبل طارق وجزر المالوين والجزر الثلاث في الخليج العربي. وشعرت واشنطن بالقلق عندما قال الرئيس الروسي في ندوته خلال فبراير/شباط 2022 بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا «لقد ضمت الولايات المتحدة تكساس وكاليفورنيا بالقوة، ومن حق المكسيكيين المطالبة باستعادتهما». وتفاقم القلق مع تصريحات رئيس مجلس الأمن الروسي، نيكولاي باتروشيف، لصحيفة «روسيسكايا غازيتا» الرسمية يوم 22 مارس/آذار 2023 بأن «المكسيك ستستعيد في نهاية المطاف الأراضي التي فقدتها لصالح الولايات المتحدة بين عامي 1847 و1848، بعد حرب غير متكافئة كلفت الدولة الأمريكية اللاتينية نصف أراضيها آنذاك».
وعليه، هجمات ترامب ضد المكسيكيين من أجل تشويه سمعتهم وترحيلهم ليست اعتباطية، بل هي تدخل في هذا الإطار، كما أن الحرص الكبير لواشنطن على عرقلة أي صناعة عسكرية مكسيكية، بل جعل المكسيك لا تتوفر على سلاح جو يدخل في هذا الإطار (سلاح الجو المكسيكي لا يتعدى بضع مقاتلات من أف 5 التي عفا عليها الزمن)، كما أن سعي واشنطن لكيلا تطور المكسيك علاقات متقدمة مع الصين وروسيا، يدخل كذلك في هذا الإطار، وإصرار واشنطن على جعل الاقتصاد المكسيكي مرتبطا بها يدخل في هذا الإطار. كما أن محاولة تغيير اسم خليج المكسيك بخليج أمريكا هو صراع هوياتي حول الأرض يعود إلى القرن الثامن عشر.
الدولة العميقة في واشنطن تخاف من انهيار الإمبراطورية الأمريكية بسبب التحدي الصيني من جهة، وبسبب الخطر المكسيكي في الداخل. وهذه الدولة العميقة تؤمن بتغيير الخرائط الجيوسياسية وانهيار الإمبراطورية، ولهذا فإن تركيز ترامب على الصين والمكسيك ليس من باب الهجرة، بل من باب الخوف على مستقبل البلاد مما قد يحمله التاريخ إذا لم يتم السيطرة على نتائج التحولات.
كاتب مغربي