ترامب الثاني: الوقائع تجبّ أدب الخيال السياسي
ترامب الثاني: الوقائع تجبّ أدب الخيال السياسي
صبحي حديدي
«ليلة كامب دافيد»، رواية الأمريكي فلتشر نيبل التي تعود إلى سنة 1965، تتخيّل رئيساً للولايات المتحدة يُدعى مارك هولينباخ، يذهب في جنون العظمة إلى درجة مطالبة فريقه برسم خطط لضمّ كندا إلى ولايات أمريكا؛ بالنظر إلى أنها مكمن ثروات هائلة، ولسوف تكون مركز قوّة وسطوة وهيمنة. أيضاً، يطالب الرئيس بأن تصبح الدول السكندنافية، السويد والدنمارك والنروج وفنلندا، ملحقة بالاتحاد الأمريكي؛ لأنها سوف تجلب للولايات المتحدة جينات «الشخصية والانضباط التي نفتقدها بشكل محزن»، يقول هولينلباخ. بالقوّة، يشدد الرئيس، إذا اقتضى الأمر اللجوء إليها؛ أو بالإجراءات الاقتصادية وفرض الرسوم الباهظة على البضائع المنتجة خارج أمريكا، أو العقوبات القاسية…
وكان نيبل قد وقّع رواية أخرى تسير في منحى الخيال السياسي ذاته، صدرت سنة 1962 بعنوان «سبعة أيام في مايو»، تتخيّل انقلاباً عسكرياً في الولايات المتحدة، يطيح برئيس غير شعبي أبرم خلال الحرب الباردة اتفاقية عدم اعتداء نووي مع الاتحاد السوفييتي؛ تحوّلت إلى فيلم هوليودي شهير، شارك في بطولته نجوم أمثال كيرك دوغلاس وبرت لانكستر وآفا غاردنر. الأرجح أنّ أساطين الإنتاج السينمائي في هوليود لم يمتلكوا من الجرأة ما يكفي لتحويل «ليلة كامب دافيد» إلى فيلم، على غرار الرواية الشقيقة لها، فمشاريع الضمّ والاستيلاء والعقاب أشدّ حساسية وإحراجاً من أن تُستقبل بهدوء في كندا والدول السكندنافية.
أعمال نيبل تُستعاد اليوم على أكثر من نطاق، شعبي وسياسي وإعلامي، لأنّ إعادة انتخاب دونالد ترامب تحثّ على استعادتها؛ ليس على سبيل أدب الخيال السياسي هذه المرّة، بل لأنّ تصريحات الرئيس الأمريكي الـ47 حول كندا وباناما تحثّ عليها؛ ولأنّ مخيّلة ترامب تذهب إلى مطالبة السعودية بمحاصصة عوائد الحجّ مع واشنطن (فـ»الربّ واحد» كما اكتشف ترامب!)؛ وما إلى ذلك من سياسات تمزج الهلوسة بالخزعبلات والعنصرية.
وأمّا بصدد العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية عموماً، واتفاقية وقف إطلاق النار والتبادل بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي خصوصاً؛ فلا حاجة، في المدى المنظور على الأقلّ، لمخيّلة نيبل وأمثاله من أجل ترسيم محاور تلك العلاقات خلال ولاية ترامب الثانية. يكفي، هنا، تصفّح تدوينات الأخير على «تروث سوشيال»، منصّة التواصل الاجتماعي الخاصة به، كي يعثر المرء على المديح والهجاء، سواء بسواء؛ وعلى التلويح بالجزرة الثمينة المجزية من جانب واشنطن، مقابل هذا التنازل أو ذاك من جانب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. ولا عجب، في غمرة هذا الخضم، أن يعيد ترامب تدوين مقولة جيفري ساكس، الاقتصادي الأمريكي البارز، التي تطلق على نتنياهو شتائم بذيئة مثل «ابن عاهرة»، يستغلّ أمريكا لإشعال «حروب بلا نهاية» في الشرق الأوسط.
ذلك لأنّ رئيس القوّة الكونية العظمى الأولى، الذي قدّم لدولة الاحتلال هدايا ثمينة مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وفرض اتفاقيات أبراهام التطبيعية والاعتراف بالمستوطنات الإسرائيلية في الجولان السوري المحتل؛ قادر، أكثر من سَلَفه جو بايدن، على فرك أذن نتنياهو، وجلبه صاغراً إلى وقف إطلاق النار. وللمرء أن يراهن على هدايا أخرى كثيرة، غالية تارة ورخيصة تارة أخرى، سوف تنهال على نتنياهو خلال الأسابيع والأشهر والسنوات المقبلة من ولاية ترامب الثانية هذه. الأمر الذي يعني أيضاً، ومن باب الاستطراد المنطقي، أنّ القسط الأعظم من الهدايا الآتية سوف يكون على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه، ليس في قطاع غزّة وحده بل في سائر فلسطين التاريخية؛ وسوف تتكفل بسداد نفقاته أنظمة التطبيع ذاتها التي يحدث أنها عربات خلفية تلهث لتنفيذ اشتراطات ترامب، أو لعلها تتلهف على الخضوع والانحناء، وتتزاحم لحيازة «السبق» فيه.
لا أدب خيال سياسي هنا، ولا مَن يحزنون !
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس