«برتقالة من يافا»: رحلة البحث عن الوطن وسط الحواجز والمعاناة
«برتقالة من يافا»: رحلة البحث عن الوطن وسط الحواجز والمعاناة
فايزة هنداوي
القاهرة ـ السينما الفلسطينية المقاومة هي إحدى الوسائل التي يستخدمها الفلسطينيون لتوثيق معاناتهم اليومية في مواجهة الاحتلال، وللتعبير عن نضالهم المستمر في سبيل استعادة وطنهم.
منذ بداية الاحتلال مع نكبة 1948، كانت السينما الفلسطينية تسجل الألم الجماعي وتعكس القيم الوطنية، متخذةً من المعاناة والأمل محورًا رئيسيًا في رواياتها. وقد شهدت هذه السينما تطورًا ملحوظًا، بدءًا من الأفلام التسجيلية التي وثقت النكبات والتهجير، وصولًا إلى الأعمال الروائية التي نقلت الحياة تحت الاحتلال بأبعادها الإنسانية والسياسية. وفي كل مرحلة، كانت السينما تعبر عن الهوية الممزقة ومحاولات الصمود المستمرة.
فيلم «برتقالة من يافا» للمخرج محمد المغني، هو امتداد لهذه الرحلة، يضيف فصلًا جديدًا في تاريخ السينما الفلسطينية المقاومة ويعكس قدرة هذه السينما على أن تكون شاهدًا على الواقع ومتحدثًا باسم الأجيال المتعاقبة التي نشأت وتربت في ظل الحواجز والجدران. حيث ينقل النضال الفلسطيني من الميدان إلى الشاشة، مجسدا قصة وطن محاصر وأحلام لا تنكسر.
الفيلم فاز مؤخرا بجائزة البرج الذهبي في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير، كما تم ترشيحه ليمثل فلسطين في المنافسة على جوائز الأوسكار لعام 2025 في فئة أفضل فيلم روائي قصير، لتواصل بذلك السينما الفلسطينية المقاومة رحلتها في إيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم، وتعريفه بالمعاناة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون تحت سطوة الحواجز والجدران.
القصة: رمز المعاناة المتواصلة
ينطلق الفيلم من حكاية تبدو بسيطة في ظاهرها لكنها تحمل أبعادًا شديدة التعقيد. يتتبع العمل الشاب الفلسطيني محمد الذي يسعى للقاء والدته لخطبة فتاة في مدينة يافا، المدينة التي ترمز لأصالة فلسطين وهويتها. هذه الرحلة القصيرة ظاهريًا تتحول إلى معركة مع الاحتلال، وسلسلة من التحديات الوجودية، خاصة عندما يضطر إلى عبور حاجز إسرائيلي بدون تصريح، بصحبة فاروق سائق سيارة الأجرة الذي يجسد دوره الفنان القدير كامل الباشا، والذي يساعد محمد في محاولته للعبور من الحاجز العسكري.
القصة لا تكتفي برصد لحظة عبور الحاجز، بل ترصد الصراع النفسي العميق بين الأمل والخوف، بين الشوق للأم والأرض والحلم من ناحية، والواقع القاسي المُحكَم بالاحتلال من ناحية أخرى.
من خلال هذه القصة، يُعيد الفيلم طرح السؤال الوجودي الدائم في السينما الفلسطينية: كيف يمكن أن تكون أبسط الحقوق، مثل التنقل، معركة يومية مليئة بالخوف والأمل في آنٍ واحد؟
على الرغم من قتامة الموضوع، نجح الفيلم في إدخال لمسات كوميدية خفيفة تكسر حدة التوتر وتعكس قدرة الفلسطيني على إيجاد لحظات من الفرح رغم كل الصعاب، ليبرز الجانب الإنساني وروح الدعابة التي تُساعد الفلسطينيين على التمسك بالأمل.
الأداء المتميز: بين الحكمة والشباب
يجسد كامل الباشا شخصية فاروق بحرفية عالية، شخصية الفلسطيني الذي يحمل في طياته تجارب عقود من المقاومة الصامتة معتمدًا على أداء هادئ يختزن سنوات من المعاناة. يعبر بصوته ونظراته عن الأجيال التي عاصرت كل سنوات الاحتلال والانكسارات المتتالية، لكنها لم تفقد الأمل يومًا.
نجح كامل الباشا في تقديم الشخصية بمزيج من الصلابة الإنسانية والحكمة المُرهقة. من خلال نظراته وصمته المدروس، ينقل للمُشاهد الإحساس بالمعاناة اليومية التي اعتادها الفلسطيني، ولكنه في الوقت نفسه يُحافظ على بقايا الأمل داخل روحه. أداء الباشا المُتزن اعتمد على الاقتصاد في الحركة والكلمة، ما جعله مؤثرًا في كل لحظة صمت أو نظرة عابرة، فهو شخصية تختزن في صمتها حكايات معاناة طويلة، وملامحه المُتعَبة تحكي قصص الفلسطيني الذي يقاوم يوميًا بأبسط الأفعال. ويؤكد فكرة أن الصمود ليس فقط مواجهة عنيفة، بل قد يكون في القدرة على الاستمرار رغم كل العوائق.
بينما يمثل سامر بشارات في دور محمد، الجيل الشاب الذي ولد في ظل الاحتلال ومع الحواجز، لكنه لا يزال يملك عناد الحلم. بشارات يقدم أداءً مقنعًا يُظهر الصراع الداخلي بين الرغبة في الوصول إلى حلمه والخوف من الاعتقال أو الإهانة. تَوتره وانفعاله محسوبان بعناية، ما يُكسب الشخصية مصداقية ويجعل المشاهد يشعر بأن كل خطوة نحو يافا هي مغامرة تهدد بالانكسار، ومع ذلك يؤكد استمرار الأمل في قلوب الشباب الفلسطيني رغم كل القيود.
الإخراج والرؤية الفنية: استمرار للتعبير المقاوم
محمد المغني استطاع من خلال إخراجه أن يعكس الواقع الفلسطيني المعقد، مستخدما لقطات قريبة تركز على تفاصيل الوجوه والانفعالات. ما يجبر المشاهد على مواجهة مشاعر التوتر والاختناق، اختياره لتصوير الرحلة داخل سيارة أجرة يُحاكي الحصار الدائم الذي يعيشه الفلسطينيون، لأنهم محاصرون حتى في محاولاتهم للحركة داخل وطنهم.
تبرز اللقطات الهادئة وطول مدة المشاهد، إحساس الانتظار المرهق الذي يعيشه الفلسطينيون. المغني لم يعتمد على الدراما المفتعلة، بل فضل سردا هادئا متوترا يشبه الحياة الواقعية، حيث القلق يتسلل في كل لحظة، كما اعتمد على تصوير الطريق بأبعاده الجغرافية المقيّدة.
اعتمدت الكاميرا على الإضاءة الطبيعية، لتعكس حقيقة البيئة التي يعيشها الفلسطينيون. الشوارع المحاصرة والأسلاك الشائكة تخلق شعورًا دائمًا بالحصار، وتكمل الصورة البصرية للقيود المفروضة على الأرض وأصحابها.
يوازن المغني بين المساحات الضيقة في السيارة والمساحات الواسعة المحاصرة بالحواجز، ليعكس التناقض بين حرية الحركة المفقودة والآفاق التي يفترض أن تكون مفتوحة. هذا الأسلوب يضيف بعدًا نفسيًا للرحلة، حيث كل خطوة تبدو كأنها محاولة للهروب من سجن مفتوح.
نص الفيلم الذي كتبه أيضا المغني يحافظ على التوازن بين التلميح والتصريح. الحوارات مقتضبة ولكنها محملة بالمعاني والدلالات. الحوار بين محمد وفاروق يكشف عن فجوة الأجيال بين من عاشوا قبل الاحتلال ومن ولدوا تحت ظله، ولكنه يظهر أيضًا وحدة الهدف والمصير والمعاناة المشتركة. كل جملة تبدو عادية تحمل بين طياتها ألما دفينا ورغبة في الحرية. ويظل الصمت سيد الموقف، ليؤكد وقع الألم الذي يعيشه أبطال الفيلم، فلحظات الصمت هنا ليست مجرد فراغ، بل مساحة مشحونة بالخوف والترقب، قادرة على التعبير أكثر من أي كلام.
البرتقال: رمز للوطن المسلوب
اختيار البرتقال في الفيلم لم يكن عشوائيًا، بل يأخذ بعدا رمزيا عميقا للهوية الفلسطينية والجذور التي يحاول الاحتلال اقتلاعها. وهو يمثل رمزا للصمود والتمسك بالأرض، ويحيل إلى مدينة يافا التي تجسد معاني الأصالة والتهجير القسري. ويذكر بماضٍ غني يحاول الفلسطينيون الحفاظ عليه، رغم الحواجز والمعوقات معبرا عن الجذور التي يستحيل اقتلاعها. البرتقال هنا، تعبيرعن مقاومة صامتة تُجسد إصرار الفلسطينيين على التمسك بوطنهم رغم محاولات الطمس.
هذا الاستخدام الرمزي يُواكب مسيرة السينما الفلسطينية، التي لطالما اعتمدت على الرموز لتوصيل رسائلها بعمق وبساطة، سواء كان ذلك من خلال البرتقال، أو مفتاح العودة، أو شجرة الزيتون.
يبدو فيلم «برتقالة من يافا» تجسيدا لرحلة فردية، لكنه يجسد معاناة شعب بأكمله. فالفلسطينيون محاصرون جسديًا ونفسيًا، ولكنهم لا يزالون يقاومون بشكل يومي. الفيلم دعوة للتفكير في معنى الوطن، والهوية، والمقاومة المستمرة التي تحدث في كل لحظة عادية.
«القدس العربي»: