منوعات

قطناني: العدوان على غزّة حوّل التطريز المنتظم إلى تجريدي… ومحظوظ بوصول فنّي للناس

قطناني: العدوان على غزّة حوّل التطريز المنتظم إلى تجريدي… ومحظوظ بوصول فنّي للناس

زهرة مرعي

في معرض «أبواب الحكاية» أسلاك وحديد وألوان التطريز الفلسطيني تنثر الدفء

بيروت ـ  بالتوجه إلى معرض «أبواب الحكاية» للفنان الفلسطيني عبد الرحمن قطناني في كاليري صالح بركات تتزاحم الأسئلة وماذا سيقوله في هذه اللحظة القاسية؟ قطناني المُبدع طوّع الأسلاك الشائكة، هذّب حركتها، ونسج تداخلها في حياة الفلسطيني منذ النكبة.

«أبواب الحكاية» معرض يتألف من تسعة أعمال، تتدلى ثمانية منها في الصالة الكبيرة، والتاسعة تستقبل الزائر مباشرة، أعمالاً سطّح فيها قطناني براميل النفط، ونثر عليها أشكالا هندسية، قد يستغرق الإلمام بتفاصيلها زمناً ليس بقصير. التبصّر فيها عن بعد بما تتيحه رحابة المكان، يُطلق الدهشة لحدودها القصوى. ويزداد الإعجاب بقطناني وفنه الفريد المعبّر عن قساوة حياة الفلسطيني اللاجئ بعيداً عن وطنه.
في التطويع كذلك امتدّ صبر قطناني وسعة خياله ليصنع من الأسلاك الشائكة سجادتين كبيرتين فاقتا بجمالهما ودقتهما أشهر الأنواع. واحدة احتفظت بالفضي كأرضية أساس، وتداخل فيها الذهبي راسماً فيها أشكالاً ليست عشوائية بكل تأكيد، والثانية فيها ألوان مبهجة تخدع المتبصّر فيها، فيتجاهل أو يتناسى المسامير المؤذية التي وجدت لأجلها تلك الأسلاك في حياة البشر.
في معرض «أبواب الحكاية» يخصص عبد الرحمن قطناني وقتاً للزوار، يستمع إليهم ويجيب على أسئلتهم. لحسن الصدف أن الدكتورة والناقدة والفنانة مهى سلطان، والدكتور الفنان فيصل سلطان كانا في حوار دافئ مع طالب مرّ في حياتهما الأكاديمية في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، خلال زيارة «القدس العربي». استاذان شديدا الإعجاب بطالب وجدا فيه نبوغاً واختلافاً، ودافعا عن مشروع تخرجه حين أتى إلى المناقشة مصطحباً تجهيزاً خشبياً فيه حبل غسيل. فقطناني المعاصر بأفكاره صدم أساتذته الكلاسيكيين. الأستاذان السابقان في معهد الفنون يريان في قطناني حالة تميز نادرة، ويستشهدان بأقوالهما من خلال أعماله التي باتت تحتلّ متاحف كبيرة وشهيرة في العالم.
مع الفنان عبد الرحمن قطناني هذا الحوار:

○ ماذا عن بدء تكوين «أبواب الحكاية». متى وكيف ولدت الشرارة الأولى؟
• بالمناسبة اسم المعرض مستعار من قصيدة لمحمود درويش عنوانها «عند أبواب الحكاية». أما الفكرة فأنطلقت من مؤسسة دلول آرت فونديشن، حيث أطلعني صاحبها باسل دلول على ثماني سجّادات مطرزة، ومنحني حرية التصرّف بها. اُعجبت جداً بتلك السجّادات، فهي بالنسبة لي أعمالاً متحفية، وعمر كل منها يفوق العشر سنوات. تلك السجّادات نُسجت في مؤسسة الإنعاش التي تتولى مهمة إحياء واستمرار هذا التطريز. اُطلقت على تلك السجادات تسمية أبواب الجليل. وأقرأ فيها الأبواب المفتوحة نحو فلسطين من جنوب لبنان. وهكذا تكونت عندي فكرة الستائر على الأبواب. ففي تقاليد منطقتنا تبقى الأبواب مفتوحة، تغطيها ستارة رمزية تسمح بمعرفة حركة الخارج. كان هذا قبل سنتين تقريباً.
○ هكذا يبدو المعرض تطريزاً فلسطينياً متعدد الألوان والأشكال وكأنه بخيط حرير. بين تطريز مرهف بأنامل النساء وأسلاك وحديد ماذا تقرأ؟
• إنها خلطة غريبة عجيبة، مُزجت بمواد المخيم، وكان التطريز مصدر الوحي والإلهام. يعود تاريخ التطريز في فلسطين لأيام الكنعانيين سواء في شكل الثوب، أو الزهرة، أي منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة. ويُقرأ في تاريخ تطور فن التطريز أنه فن زخرفي مرتبط بالفلاحين والبدو الفلسطينيين. بالعودة إلى السؤال فإن القراءة تنطلق من طبيعة العمل الذي أنتجه، والذي يرتكز على الجمع بين التناقضات. فالشريط الشائك أنتج موجة عاتية وجميلة. أسعى في عملي لتجسيد تناقض المادة مع الموضوع، كما شجر الزيتون المنسوج بالشريط الشائك، لكنها مثّلت الرقة والانسياب من بعيد، وبالاقتراب منها يظهر الشريط الشائك.
○ كيف تفسّر الأعمال المتشابهة الملصقة على الحائط في بداية المعرض؟
• هي شجيرات سروٍ يتوسطها قعر فنجان قهوة. بدأت معرضي من خلال فنجان القهوة، وعادة يلتقي حوله الجيران لقراءة الطالع. نقرأ في قعر هذا الفنجان ما سيكون عليه حالنا في المستقبل. معرض «أبواب الحكاية» بالنسبة لي قراءة في الماضي واستطلاع للمستقبل. صحيح أن قراءة الفنجان فيه نوع من الفكاهة، لكنّه يمنح الأمل، ويُحذّر أحياناً من مطبات في الطريق.
○ تختار الألوان الحارة في التجهيز الذي تنجزه. هل للون دلالات؟
• يتّصل هذا المعرض بالعاطفة، وهي التي كانت في السنتين الماضيتين في وضع غير مستقر نهائياً. كنّا نحتاج للدفء. اعتمدت في اختيار الألوان ما هو سائد في التطريز الفلسطيني، وسعيت للموازنة بين تلك الألوان والمواد التي استعملها في عملي. لون السيلفر على سبيل المثال له صلة بالعاطفة. لم أتقصّد هذا اللون أو ذاك، إنما حاولت مراعاة قواعد التطريز الفلسطيني بشكل عام، ونعرف أن التطريز الفلسطيني يعتمد غالباً على الأزرق والأحمر والأسود، وإضافة البرتقالي والأصفر وغيرهما بهدف الترصيع.
○ تحمل الستائر تفاصيل يصعب الإحاطة بها لكثرة تنوعها والنقوش المضافة كـ«خطر الموت» والرقم التسلسلي. ماذا تريد القول من خلالها؟
○ تركت بعض العناصر على براميل النفط كالجمجمة والنار والرقم التسلسلي، تقصدت بقاءها، لتكون في خدمة التأليف، ولإعطاء لمحة عن كينونة المادة التي أستعملها.
○ عناصر التطريز على الستائر أشكاله هندسية. هل تدوير الزوايا صعب؟
• صحيح. فالتطريز يعتمد على قماش مكوّن من خطوط طول وعرض. الرسم أو التطريز عليها يُنتج زوايا حادة، لو دوّرت الزوايا كنت سأبتعد عن شكل التطريز.
○ أستاذك الفنان فيصل سلطان أخبرني أن الأشكال الهندسية ذات صلة بحياة الإنسان الفلسطيني؟
• بالنظر إلى المخيم فبناؤه عشوائي كما حياة الفلسطيني. قد يكون التطريز الفلسطيني وحده هو المُنظّم «يضحك».
○ التطريز شكل وحياً للمعرض إنما توزيعك للأشكال الهندسية على الستارة عشوائي وكذلك ما ابتكرته من ثقوب وكتابات؟
• تقنيات متعددة دخلت في إنجاز تلك الستائر من بينها التثبيت بالبراغي والتلحيم، والتشبيك، إلى مهن أخرى كان لها دور في إنجاز العمل.
○ تعدد المهن التي يتألف منها عملك يوحي بأن ورشتك فسيحة جداً؟
• بل أن المحترف الخاص بي متوسط المساحة وبحدود 150 متراً فقط.
○ هل من لحظة تأبى فيها اذنك سماع المطرقة والتلحيم والقص وكافة أدوات الورشة وجميعها حاد؟
• يُسأل الفنان إن كان يستمع إلى الموسيقى خلال العمل. الموسيقى الخاصة بي هي الأصوات الصادرة عن استعمالي لأدوات عملي. إذاً موسيقاي الخاصة في المحترف هي عبارة عن ضرب الحديد والجلخ والقص. ولا أخفي عنك أني جرّبت الاستماع إلى الموسيقى خلال عملي ولم يكن ممكناً.
○ هل من أوقات تعجز خلالها عن العمل؟
• عندما لا أعمل يدوياً أكون في مخاض فكري، وحينها تعلق أفكار في دماغي أسعى لفكفكتها. في هذه الفترة أعجز عن تنفيذ أي عمل، وأكتفي بالـ»حرتقة ع الخفيف». وأعجز عن العمل خلال الأزمات والصدمات الجمعية، كمثل الانهيار المالي في لبنان، ثم كورونا، ومعهما تفجير المرفأ. وباتت حركتي شبه مشلولة مع بدء العدوان على غزّة ومن ثمّ لبنان. نعم تعطّلت لأشهر متواصلة.
○ ماذا تفعل خلال الانكفاء عن العمل؟
• أكون في حالة نفسية تعيسة. وبوصف دقيق إنها الكآبة، والجمود والشلل الحركي. أجهد وأسعى لاستيعاب المصيبة خاصة عندما تواصلت الإبادة على غزّة. لكني على الدوام اُشبّك النقاط والأفكار في مخيلتي، واُفكر بالمفهوم الذي سأقدّمه، بعد ذلك يبدأ العمل والتجربة الحسية الفعلية والنتيجة التي سأخلص إليها.
○ عندما تصمم على مفهوم ما هل تكتبه؟ هل ترسمه؟
• مطلقاً. حتى أني لا أرسم اسكتش.
○ أين أثر الإبادة على أهل غزّة في معرض «أبواب الحكاية»؟
• بالنظر إلى الأعمال المعروضة، ثمة فرق بين الستائر التي اُنجزت قبل العدوان على غزّة وبعده. التحول جلي بين المرحلتين، إنه تحول من قواعد التطريز الفلسطيني المنسقة والمنتظمة، وصولاً إلى أن هذا التطريز أصبح تجريدياً أكثر من كونه عناصر مزخرفة. توجّهت نحو التجريد في الأعمال التي اُنجزت خلال العدوان على غزّة وهي الأعمال التي تحمل عناوين «جرف ومدن وغابة».
○ صمود غزّة أسطوري بعد وقف إطلاق النار كم تزدحم الأفكار في مخيلتك؟
○ أيه والله الأفكار تتزاحم. معرض «أبواب الحكاية» يُعبّر عن الحالة العامة، إلى جانب أخرى ولدت بوحي من صمود غزّة وعذابات ناسها. مخيلتي مشحونة بالأفكار، وهي ستنضج بالتأكيد. أترك لأفكاري حريتها متتبعاً خُطاها إلى أن يحين زمن التنفيذ العملي.
○ هل ترتاح خلال العمل وهل تنسى الخارج؟
• ساعات العمل وحدها تساعدني على تحقيق التوازن النفسي والراحة.
○ كم ساعة تعمل عندما تكون جاهزاً للإنتاج؟
• لم احتسب الزمن ولا مرّة خلال عملي. وأظنني أعمل بحدود تسع أو عشر ساعات.
○ كأنك تقوم بأشغال شاقة فمن يساعدك فيها؟
• بالتأكيد أحتاج للمساعدة، إنها مساعدة أبي وإثنين من أخوتي، وأمي تطرّز من «يوم يومها».
○ القطع الفنية التي تحمل توقيعك منتشرة في متاحف العالم. هل تعمل أيضاً بناء لطلب؟
• الطلب كثير، لكني أعمل وفق مشاعري. وعندما أنتهي من مجموعة أعمال أنقلها إلى الكاليري، وهي التي تتعامل مع طالبي الأعمال الفنية. تنفيذ المطلوب قد يصطدم في الاختلاف بين ما هو موجود في مخيلتي، وما هو موجود في مخيلة الطالب. واللقاء بين المخيلتين ليس حتمياً. وعندما يتحوّل العمل إلى تعديل هنا وهناك يصبح وكأنه ديكور. في الفن ننظر إلى الأعمال فنحبها أو لا نُحبّها، وأي تعديل يُنهك روحية الفكرة. بالتأكيد أفضّل أن أكون حراً.
○ مشروعك للتخرج كان قطعة من الفن المعاصر. ألم تجذبك بعد التخرج الريشة أو الفرشاة والألوان زيتية كانت أم أكريليك؟
• قبل سنتين كان لي معرض في جنيف رسمت خلاله قليلاً. داهمتني رغبة الخروج لبعض الوقت من الضرب والتطعيج والقص و«طوشة» الحديد، إلى حركة جسدية مختلفة، ورغبت بمعرفة النتيجة. أنجزت بحدود ثمانية أعمال، جسّدت فيها شخصيتي من خلال الريشة واللوحة. أعرف بأني لست رسّاماً ولا ملوناً، أدرك هذا في شخصيتي، وبأن مخزوني البصري هو اللون الرمادي الذي وصلني من جدران المخيم. كما أن دراستي الجامعية لم تساعدني في أن أكون ملوناً، وربما هي طبيعتي وحبي للعمل بالمواد القاسية أكثر من التلوين.
○ شئنا أم أبينا فلسطين والحق المغتصب حاضرة وكافة أعمالك تقول هذا. ما هو وقعها على المتلقي الغربي حيث قدّمت معارض عديدة؟
• الحوارات مع زائري المعارض في الغرب تبدأ من المنجز البصري وطبيعة العمل بغض النظر عن أية خلفيات أو إسقاطات عليه. هكذا يُفتح النقاش، ليصل إلى رغبة الإطلاع على خلفية الفنان ومن أين هو، وتترابط الأمور بعيداً عن الإسقاطات. برأي يلمس الناس العمل الفني أينما كانوا. على سبيل المثال معارضي في البرازيل وأوروبا عموماً، ورغم اختلاف الهوية بين زوّار المعارض كانت ردود الفعل تقول إن بشراً عاشوا في بيوت تنك حتى في فرنسا. هذا النقاش البصري فتح بوابة النقاش نحو الأوسع، والتي أدت في النهاية لوضوح الصورة، وتوضيح مصادر أفكار المعرض.
○ لنمسك الخشب أنت في عمر الأربعين وما أنجزته جيد جداً. هل توقعت لذاتك هذه المكانة والوصول إلى أكبر متاحف العالم؟ وهل أنت راضٍ؟
• أمضيت سنوات بعد التخرّج ولم أكن خلالها أدرك معنى كلمة فنان. في هذه السنوات كنت اُحاول تنفيذ ما اُحبه وإيصال رسالة من خلاله. عالم فن بكليته لم يخطر ببالي أن أكون من ضمنه. كنت أعمل لعشر ساعات يومياً وبسرور كبير ألعب وأجرّب، إلى أن وصلت إلى التوازن ما بين الفكر والعمل. عندما أشرد بأفكاري وأنا داخل المحترف، لم أكن أتوقع ما وصلته من انتشار. بالتأكيد أنا فرح، وأشعر بأني محظوظ لكوني اُنتج فناً يصل للناس، ومن خلاله الرسالة التي أرغب بوصولها.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب