العودة التاريخية تُسقط مخطط التهجير

العودة التاريخية تُسقط مخطط التهجير
أحمد عويدات
لم يكن متوقعا لدى الأوساط جميعها القريبة أو البعيدة، الصديقة أو المنحازة «لإسرائيل» أن يُصفع قادة الكيان والمجتمع الحربي الإسرائيلي واليمين الديني المتطرف مرتين أو أكثر خلال يومين، كما لم يكن متوقعاً للجميع -كما هو مألوف- من الرئيس ترامب أن يكشف جهاراً المخطط القديم الجديد لتهجير الغزيين إلى مصر والأردن ودول أخرى؛ تحت ذريعة مساعدتهم بحياةٍ أفضل بعيدة عن العنف الذي عاشوه لسنوات، وريثما تتم إعادة إعمار بيوتهم، على حد تعبيره.
لقد بات واضحاً للجميع أن تهجير سكان غزة كان أهم أحد أهداف حرب نتنياهو واليمين المتطرف، وهذا ما صرح به مراراً وتكراراً القادة السياسيون والعسكريون على حدٍ سواء، بضرورة إفراغ الشمال ومحافظة غزة كمرحلةٍ أولى إلى الجنوب، ومن ثم إفراغ وسط القطاع وخان يونس والتوجه إلى رفح كمرحلةٍ ثانية. ويُذكر أنه في فبراير 2024، أُعيد إحياء مشروع الاستيطان من قبل سموتريتش وبن غفير، وفي سبتمبر 2024 بُدئ بتنفيذ خطة الجنرالات، التي اقترحها اللواء غيورو آيلاند، التي أفشلتها المقاومة وعملياتها النوعية وصمود وثبات أهل الشمال، خاصةً في جباليا ومخيمها وبيت حانون وبيت لاهيا. وعليه، إن ما فشل في تحقيقه نتنياهو بالضغط العسكري وارتكاب المزيد من مجازر الإبادة هناك، يحاول الرئيس ترامب تحقيقه بالضغط السياسي على الأطراف المعنية.
العودة إلى الديار ولو كانت أنقاضا وركاما، رسالة الغزيين إلى العالم وإلى الصهاينة تحديداً؛ بأنهم ملح الأرض وجذورهم ضربت عميقاً كما السنديان والزيتون، إنها عودة الكبرياء والإباء
ولكن رياح التهجير لم تجرِ بما يشتهي الربان ترامب؛ فقد جاء الرد العربي الرسمي واضحاً على لسان وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، الذي صرح بـ»أن الحل للقضية الفلسطينية هو حل فلسطيني وإن الأردن للأردنيين، وفلسطين للفلسطينيين»، وكذلك رفض مصدر مسؤول في الخارجية المصرية «المساس بحقوق الشعب الفلسطيني ورفض تهجيره»، واعتبر أن هذا المخطط مساس بالأمن القومي المصري. رغم هذين الموقفين ما زال ترامب يُصر على مخططه بردّه على سؤال أحد الصحافيين حول موقف البلدين قائلاً «سيفعلان ذلك»، غير آبهٍ بسيادة كلٍ منهما. غير أن طوفان العودة لمئات الآلاف من الغزيين، وبمشهد تاريخي لم يسبق له مثيل، كان بمثابة الصفعة الثانية، لقد جاءت من ذاك السيل البشري العائد إلى الشمال وقد قال كلمته وأفشل خطة التهجير، وسط ذهول وغضب من قبل قادة الكيان وعلى الأخص قادة اليمين المتطرف، الذين عكست تصريحاتهم الهوجاء والمشادات الكلامية بينهم قوّة هذه الصفعة. كما أظهرت الخلافات الحادة بين أعضاء الكنيست الذين وصفوا هذه العودة بالعار والهزيمة، إثر هذه الصفعة. لقد أدرك هؤلاء الصهاينة بغضبهم وخلافاتهم وانقساماتهم، أن هذه العودة تؤسس إلى بداية نهاية مشروعهم وفشل مخططاتهم؛ لأنهم يرون بهذه العودة إلى الجغرافيا – التي طالما استوطنوا بها وأقاموا كيانهم- بمثابة عودة إلى التاريخ الذي يؤكد مشروعية حق الشعب الفلسطيني في وطنه وأرضه، وأن اغتصاب الأرض زائلٌ لا محالة.
إنها عودة المنتصر على رحلة النزوح القاهر وعلى جبروت آلة القتل والتدمير، إنها العودة من رحم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. رغم الآلام والجراح والمعاناة الطويلة، انه انتصار الإنسان على قنابل الـ1000 طن الأمريكية الصنع وصواريخ الطائرات وحمم الدبابات. إنها العودة إلى الديار ولو كانت أنقاضا وركاما، إنها رسالة الغزيين إلى العالم وإلى الصهاينة تحديداً؛ بأنهم ملح الأرض وجذورهم ضربت عميقاً كما السنديان والزيتون، إنها عودة الكبرياء والإباء وهزيمة الجبناء والأعداء، إنها جاذبية الإنسان لأرضه وانتمائه لوطنه ودفاعه عن حياضه، واحتضانه لمقاومته التي فقدت قادتها الأوائل في سبيل الإنسان والمقدسات، هذه العودة المظفرة الهادرة لا يفهمها من جاء غازياً من بولندا وأوكرانيا وروسيا وأوروبا، وبقاع أخرى شتى في العالم إلا أنها خطرٌ على استيطانه الذي نراه مؤقتاً وزائلاً ويراه دائماً. لا يفهم هذه العودة سارقوا الأوطان وقاتلوا الشعوب، الذين لا ينتمون لوطنٍ هو سماؤهم وهواؤهم وأرضهم وجوارحهم وذكرياتهم كما هو بالنسبة لأهل غزة.
هذا المشهد التاريخي العفوي صُنع في غزة وبأيدي أهلها أطفالاً ونساءً ورجالاً، الذين سارعوا الخطى من الجنوب إلى الشمال، ولم يرهقهم تعبٌ ولا كللٌ؛ كان يحذوهم لقاء الأحبة هناك وإن كانوا شهداء، كان يحذوهم نصب خيمة فوق أنقاض منزلهم، يتفيؤوا بظل علم الوطن الجريح، إنهم بهذا السيل العارم، وتحت أنغام الطوفان الهادر يقبرون مخطط التهجير القديم المستحدث بحسهم العفوي وقراءتهم الأولية لتصريحات الرئيس ترامب، الذي وعد بأنه سيكون صانع سلام وينهي الحروب، إنهم يَرَون بهذا المخطط جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية؛ لأنها تنطوي على تطهيرٍ عرقي، كما نص على ذلك القانون الدولي الإنساني. فهل سيكتب الرئيس ترامب نفسه مجرما كما هو نتنياهو؟ هذا المخطط نراه ويراه الغزيون تكريسا لحقيقة الكيان الاستحلالي الإجلائي الاستيطاني الاستعماري، على حساب أصحاب الأرض وإنه يعيد المنطقة وشعوبها إلى أجواء وويلات الحرب، وسقوط المزيد من الضحايا، ويهدد الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي، كما أن هذا المخطط يمثل إسقاطاً لكل حديثٍ عن مبادرات السلام كحل الدولتين وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وتحقيق الأمن والسلام في المنطقة أو الحديث عن دولةٍ فلسطينية.
إن كل الدلالات السابقة تعبر عن تماهٍ حقيقي بين مصالح الإدارة الأمريكية الحالية ومصالح وأهداف اليمين الديني المتطرف، خاصة بعد إعلان هذه الإدارة عن رفع الحظر عن تزويد إسرائيل بقنابل الـ1000 طن ورفع العقوبات على المستوطنين الذين اعتدوا على المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهذا بدوره يعبر عن شراكة استراتيجية بين المسيحيين الإنجيليين والتوراتيين المحافظين. فهل هذا هو السلام الترامبي الجديد، أم أنه مشروع استثماري اقتصادي في المنطقة؟ إن أهل غزة في زحفهم العائد إلى الديار، يؤكدون أنهم يعشقون رمال غزة الذهبية، وأنهم يتوقون إلى شواطئها الجميلة ومناخها الرائع، وهم أحقُّ باستثمارها وإعادة إعمارها والتنعّم بها. لقد أفشل الغزيون ومعهم مقاومتهم المظفرة أحلام الحالمين، ولعلهم أيقظوهم من غفوتهم فهل يعتبر هؤلاء الغافلون؟
كاتب فلسطيني
باحث فلسطيني ورئيس وحدة التطوير المهني في وكالة الأونروا