مقالات

تقييم العدوان الإسرائيلي الفاشل على قطر

تقييم العدوان الإسرائيلي الفاشل على قطر

د. سعيد الشهابي

لم يكن العدوان الإسرائيلي على دولة قطر الذي حدث الأسبوع الماضي، الأول من نوعه على دولة عربية ولن يكون الأخير. وفي عالم يفتقر إلى القيادة الفاعلة والمؤسسات الدولية القادرة على حماية القانون الدولي، يصبح العدوان ممارسة تقوم بها الأطراف التي لا تؤمن بحكم القانون، بل تسعى لعالم تتحكّم فيه وفق إرادتها.
هذه المرّة لم يقتصر العدوان على الدولة الخليجية فحسب، بل تم اختراق سيادة عدد من الدول التي عبرت أجواءها الطائرات الإسرائيلية العشر وهي في طريقها لتنفيذ مهمة القتل خارج القانون. فإذا لم يكن هناك من يدافع عن الشهداء الذين قتلوا بدم بارد، أليست هناك إرادة للتصدي لاختراق الأجواء وانتهاك السيادة؟ أم أن أجهزة الرصد والأمن في بلداننا العربية غير قادرة على حماية الأجواء من الاختراقات المخالفة للقانون؟
ولعلّ التفسير الأقوى لغياب ردة الفعل الدولية أن العمليات الإسرائيلية السابقة سواء التي استهدفت العراق أم الأردن أم لبنان أم تونس لم تؤدّ إلى ردود فعل سياسية فاعلة سواء من المجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي أم من الدول العربية والإسلامية. هذه الدول يفترض أن تجمعها اتفاقات ومعاهدات تنص على الأمن العربي المشترك وتؤكد استعداد الدول العربية للدفاع عن بعضها وفق مقولة: «إن الاعتداء على أحد أعضاء الجامعة العربية يعتبر اعتداء على كل الدول الأعضاء». فما الذي دفع الدول العربية للإحجام عن القيام بردة فعل بحجم العدوان المذكور؟ صحيح أن الدول العربية عقدت اجتماعا طارئا لمناقشة ذلك العدوان، ولكن هل استطاعت طمأنة حكومة قطر بأن الدفاع العربي المشترك حقيقي وليس شعارا؟ لم ترتكب قطر مخالفة قانونية عندما وفرت ملجأ لبعض القيادات الفلسطينية بعدما طردوا من الدول العربية الأخرى. لماذا لم تقدم الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع كيان الاحتلال على سحب سفرائها من تل أبيب وقطع العلاقات معها؟ وأخيرا لماذا لم تُبد الولايات المتحدة الأمريكية ردة فعل تناسب حجم العدوان وأبعاده؟
الذين استشهدوا في الجريمة الإسرائيلية لم يكونوا المقصودين بالعملية مباشرة، بل تواجدوا في مكان العدوان لأن الأشخاص القياديين المطلوبين كانوا قد غادروا المكان لأداء الصلاة، حسب الأنباء التي رشحت بعد العدوان. وفي منطق العدالة الإلهي والإنساني فإن البشر جميعا متساوون أمام الله، ومن حق كل منهم أن يحيا حياة طيبة ويتمتع بالأمن. فما المغزى من هذه الجريمة التي قد تتوسع تبعاتها فيما لو تحرّكت الحكومات العربية بشكل جماعي للتصدي لكيان الاحتلال ولو على الصعيد السياسي فحسب؟
إنها فرصة مؤاتية لإظهار قوة العرب في عالم لا يحترم إلا القويّ، ولا تهمه صرخات المظلومين وحدها. هذه الأمّة أراد الله لها أن تكون رائدة وقائدة وخير أمّة، ولكن بشرط: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا شك أن التصدّي للعدوان بهدف منعه موقف ينسجم مع القيم الإسلامية والإنسانية. فقد تزامن العدوان الإسرائيلي مع حلول ذكرى المولد النبوي الشريف الذي يُفترض أن يكون مناسبة تساهم في لمّ شمل الأمّة وتظهر قوتها ومتانة صفوفها أمام العالم. فكأن الجريمة الإسرائيلية جاءت لتتحدى عقيدة المسلمين ونبيّهم الذي ما برح مستهدفا من قبل الإعلام بالنقد والتشويه بلا حدود. وهذه المناسبة هي الأخرى، فرصة لإعادة الالتفاف حول الرّاية المحمّدية ذات العمق الإيماني والأبعاد الإنسانية، فهي مصداق الهويّة والانتماء وتعميق الشعور بالكرامة والثبات على قيم السماء الهادفة لرفع شأن الأرض وسكانها. فالمولد النبوي الشريف يوفر فرصة لإعادة الالتفاف حول الإسلام الهادف لبناء بشريّة مسؤولة لا يُظلم فيها الضعيف ولا يتعالى فيها القويّ. والقوّة هنا نسبية جدّا، فليس القوة المادّيّة وحدها مؤشرا للقوّة، بل مدى عمق الشعور بالانتماء لصاحب الرسالة ومشروعه الإصلاحي في هذا العالم.

في عالم يفتقر إلى القيادة الفاعلة والمؤسسات الدولية القادرة على حماية القانون الدولي، يصبح العدوان ممارسة تقوم بها الأطراف التي لا تؤمن بحكم القانون

من المؤكد أن هناك في أوساط هذه الأمّة من يسري الغضب في أوصاله بعد أن دبّ في نفوس المحتلّين وهمٌ كبير بـ «أن إسرائيل تمتلك من القوّة ما يجعلها قادرة ومستعدة للوصول إلى أية نقطة في أرجاء العالم العربي» حسب ما ادّعاه رئيس وزراء العدو الذي يمارس الاستكبار في أبشع تجلّياته. وقد بادرت مصر لاستباق أي عمل عربي مشترك بمناورات عسكرية كانت هي الكبرى منذ عقود. فقد قامت قوات خاصة مصرية بدعم مروحيات الأباتشي والمدرعات بتنفيذ عمليات هجومية متعددة الأبعاد بكفاءة عالية، تفجيرات دقيقة، تحركات قوافل وإنزال برمائي على الشاطئ مع نيران من الدبابات ودعم مروحيات لصد الهجمات. وبعيدا عن مدى جدّيّة حكومة مصر في الاستعراض العسكري المتميز، فإن ظهور قوة عربية قادرة على التصدي للعدوان، يدغدغ عواطف الجماهير العربية التي ما فتئت تبحث عمن يستخدم لغة التحدّي ليحقق لها قدرا من الشعور بالكرامة والقيمة الإنسانية. فما الذي يدفع كيان الاحتلال لارتكاب هذه الجرائم وهو في وسط غير صديق له؟ ألا يخشى ردة فعل مختلفة ولو مرة واحدة؟ ألا يفترض قادته احتمال التورط في صراع مع الدول الإقليمية الكبرى مثل مصر وإلعراق وإيران وباكستان؟ أم ان هؤلاء القادة استبعدوا هذا الاحتمال تماما؟ أم أنهم يتكئون على الدعم الأمريكي الذي يعتقدونه كافيا لحمايتهم في أية مواجهة تتجاوز حدود فلسطين؟
ثمة حقائق يجدر طرحها ليصبح المشهد السياسي أكثر وضوحا: أولها أن الطائرات التي قامت بالعدوان على قطر اخترقت أجواء عدد من الدول العربية، فكأن هذه الأجواء كانت مفتوحة لهم طوعا. ثانيها: أن الجريمة الإسرائيلية لم تستهدف قادة حماس فحسب الذين اضطرتهم الظروف للبقاء في قطر التي استقبلتهم مع علمها بأن ذلك يغضب الإسرائيليين والأمريكيين معا، بل استهدفت سيادة الدول العربية المذكورة التي لم تعرها «إسرائيل» أي اهتمام بل اخترقت سيادتها بشكل فاضح. ثالثها: أن الطيران الإسرائيلي استخدم أجواء خليجية كذلك، وهذا يعني استخفافا إسرائيليا بمقولات التضامن العربي والخليجي، ومن شأن ذلك أن ينعكس سلبا على العلاقات داخل مجلس التعاون الخليجي.
رابعها: أن الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات الفلسطينية ليست جديدة، بل تكررت كثيرا. فقد استهدفت بالاغتيال رموزا مثل فتحي الشقاقي، كمال عدوان، كمال ناصر، محمد يوسف النجار، علي حسن سلامة، خليل الوزير، عز الدين الشيخ خليل، إسماعيل هنيّة ومحمود المبحوح. هذه الاغتيالات لم تمنع استمرار مقاومة الاحتلال، وبالتالي لم تُنه الصراع في فلسطين.
خامسها: أن المجتمع الدولي فشل في التعاطي مع القضية الفلسطينية بما يؤدي إلى حلّها. وساهمت السياسة الأمريكية والغربية بشكل عام في زيادة المشكلة تعقيدا لأنها قفزت على الحقائق وسعت لفرض حلول نظرية على واقع معقّد، وتجاهلت جشع الاحتلال وسياساته التوسعية والقمعية.
في ضوء هذه الحقائق، يمكن استيعاب مشاعر التوتر لدى قادة الاحتلال، خصوصا رئيس الوزراء الحالي المحسوب على تيارات التطرف الإسرائيلية. فبعد يوم من قصف الدوحة، وقف نتنياهو بمنتهى الغطرسة متحديًا العالم، مهددًا دولة قطر وسائر الدول العربية والإسلامية، معلنًا عزمه استهداف قادة المقاومة أينما كانوا، بدون أي اعتبار لسيادة الدول أو حرمة أراضيها. وهذا تقويض لمبادئ السيادة والأمن والسلم، وإعلان لإحداث الفوضى السياسية والأخلاقية، ومحاولة لتكريس واقع مرفوض باستخدام الإكراه والقوّة والابتزاز. هذا برغم الحقائق الدامغة التي تؤكد عدم جدوى أساليب الاغتيال كوسيلة لإنهاء الصراع. فالغربيون يعلمون ذلك، والمجتمع الدولي لا يدعم اعتبار القوّة وحدها العامل الأساسي لإحلال السلام وحل القضايا الشائكة. فحتى أمريكا عندما تدخلت في فيتنام ولاحقا في أفغانستان، وجدت نفسها في ورطة سياسية وأمنية استنزفت أموالها وطاقاتها وجنودها بدون أن يلوح في الأفق ما يمكن أن يحقق استقرارا حقيقيا.
لقد أثبت العدوان الإسرائيلي الأخير شعور العالم بالتقزز من هذه الأساليب، وظهرت دولة قطر ضحية لذلك العدوان غير المبرّر. وثمة ما يشبه الإجماع على أنه يمثل ضربة قاصمة لمساعي التوصل إلى اتفاق يضع حدا للحرب التي تشنها «إسرائيل» على قطاع غزة. واعتبر الكاتب الأمريكي المعروف ديفيد إغناتيوس في صحيفة «واشنطن بوست» أن الهجوم على قطر ضيّق خيارات إسرائيل، وبدا بمثابة «خطأ تكتيكي نادر» ترتكبه تل أبيب، منوّها إلى أنه دمّر إحدى القنوات القليلة المتبقية لوقف الصراع. وفي نظره، أن الهجوم كان -بالنسبة لقطر- نتيجة مريرة بعد محاولاتها النشطة لمساعدة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التوسط ليس فقط في غزة، بل أيضا في النزاعات بين رواندا والكونغو الديمقراطية، وأرمينيا وأذربيجان.

كاتب بحريني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب